اخوتي الكرام ان الثقافة ميزة سامية تميز المجتمعات بعضها عن بعض عادةً، وفي أغلب الأحيان، نقصر مدلولات عبارة (الانحطاط الثقافيّ) على الفنون و الآداب (موسيقا ـ مسرحٌ ـ شعرٌ ـ أغنيةٌ ....الخ)، وهذا خطأٌ، شاع بسبب عدم إحاطتنا بمدلولات مفهوم الثقافة، و اعتباره مطابقاً لما ينتجه الإبداع.
في محاولةٍ لتسليط الضوء على ما أظنّه فهماً أوسع لمعاني عبارة (الانحطاط الثقافي) أجد من الضروريّ إيراد ما تبنته منظّمة اليونيسكو تعريفاً للثقافة، إذ اعتبرتها "كلّ مركّبٍ من عناصرَ روحانيّةٍ ومادّيٍة وفكريّةٍ ووجدانيّةٍ يختصُّ بها مجتمعٌ أو مجموعةٌ من النّاس، وهو لا يشمل الفنونَ والآدابَ فحسب بل أيضاً أنماطَ الحياة والحقوقَ الأساسيّةَ للإنسان ومنظومةَ القيم و التّقاليدَ و المعتقداتِ.".
لذلك؛ حين التحدّث، أو التفكير، بالانحطاط الثقافيّ؛ أعتقد أنه لا بدّ أن تشمل صفة الانحطاط كلّ مكوّنات الثقافة الواردة في المفهوم الذي تبنته اليونيسكو.
فالانحطاط هو في (المركّبات الروحانيّة و المادّيّة و الفكريّة و الوجدانيّة) و في (أنماط الحياة و الحقوق الأساسيّة للإنسان ومنظومة القيم و التقاليد و المعتقدات).
تلك الانحطاطات؛ بتفاعلها مع بعضها تُولّد انحطاط الفنون و الآداب، فتغدو الأخيرة نتيجةً، تمخّضاً، لانحطاطاتٍ أعمق و أشمل، قشرةً تخفي تحتها مكنونات الانحطاط، و روائزه الاقتصاديّة و السياسيّة صاحبة الفضل و المصلحة في تكريس هذا النمط الثقافيّ (المنحطّ).
نتحدّث عن تهاوي الشعر، انقراض المسرح، رداءة الموسيقا، هبوط الأغنية، قلّة القراءة، ولا يخلو منبرٌ ثقافيٌّ أو إعلاميٌّ من الشكوى و التحليل لهذه (الانحطاطات) التي هي في حقيقتها مظاهر للانحطاط الثقافيّ وليست جوهراً له.
أظنّ بأننا نظلم الحقيقة إن عكفنا على ملاحظة وتشريح المظاهر، دون الالتفات للجوهر، للمحرّك، للمولّد، فحين نتساءل عن أسباب قيام طفلٍ ما بالسرقة، لا ينبغي الاكتفاء بالنظر إلى فعله وفق معايير اللصوصية التي شيّدتها الأعراف و القيم الاجتماعيّة ـ الدينيّة، ومن الحصافة ههنا أن نطعّم مباضعنا التحليليّة بشيءٍ يبين ظروفه الخاصّة، حيثيّات أسرته ومحيطه، و لا بأس ـ بل من الضروريّ ـ الاستعانة بعلم النفس، لأنّ إغناء و تنوّع سبل البحث عن الحقيقة يقلل نسبة الخطأ في التقدير، ويقرّبه من فسحات الصواب.
ذات الأمر يمكن قوله عند محاولة إطفاء نار حيرتنا إزاء الأغنية (المنحطّة) و المسرح (المنحطّ) و شتى مظاهر الانحطاط الثقافيّ، فمن الخطأ الكبير ـ منهجياً ـ تناول الظاهرة (المنحطّة) وفق خصوصيّات الحقل الذي تنتمي إليه، وغضّ الطرف عن الحقول الأخرى، التي تشكّل البيئة الحاضنة و العرّابة و الراعية (الرسميّة) لانحطاط الظاهرة الثقافيّة وانحطاط الحقل المنتمية إليه.
قصيدةٌ منحطّةٌ تنتمي لشعرٍ منحطٍّ، حسنٌ؛ و الشعر المنحطّ إلامَ ينتمي؟
في سعينا لفهم أسباب الانحطاط تختبئ نيّة تغييرها، أو إزالتها، وأظنّ: لا ثمرة لأي جهدٍ تغييريٍّ دون وعيٍ وإدراكٍ دقيقٍ لهذه الأسباب، لذا؛ علينا التساؤل:
ـ ما الذي يجعل (المركّبات الروحانيّة و الماديّة و الفكريّة و الوجدانيّة) منحطةً؟
ـ ما الذي يسير بـ (أنماط الحياة و الحقوق الأساسيّة للإنسان ومنظومة القيم) إلى الانحطاط؟
إجابةٌ موضوعيّةٌ ـ قدر الإمكان ـ على هذه الأسئلة، ستسير بوعينا نحو مبتغاه.
الإجابة لن تمنحنا السلام الفكريّ والاطمئنان لصحّة تحليلاتنا فحسب، فقد تقودنا لطرح أسئلةٍ أكثر و أكبر من تلك التي أجبنا عليها، إذ حين تحدّد إحداثيّات الضياع لا بدّ لك من السعي لرسم طريق الخروج من المتاهة.
أقلّه؛ الخروج الذاتيّ من متاهة الانحطاط الثقافيّ و أسبابه.