تعطينا الأمة النرويجية واحداً من أهمّ الأمثلة الحيّة المدهشة عن دورة الحياة البشرية المعقّدة، وعن كيفية نشوء أمم صغيرة من العدم تقريبا
وارتقائها إلى أعلى الذرى العالمية، مقابل
انحدار أمم كبيرة
عريقة من الذرى إلى الدرك الأسفل! فقد
تشكّلت نواة هذه الأمة
الصغيرة في منطقة غير مأهولة مطلع الألف
الميلادية الثانية، حيث
استوطن أرض ما يسمى اليوم بالنرويج، لأول
مرّة، شعب من سكان
الخيام الرحّل، هو قبائل الفايكنغ التي كانت
تعيش على الغزو والصيد
والرعي ومع الاستيطان والاستقرار تخلّى
الفايكنغ عن وثنيّتهم واعتنقوا
المسيحية. إنّ نواة الدولة النرويجية تكوّنت
بصورتها الجنينية في العام
1030. وعلى مدى القرون العشرة التالية، إلى
ما بعد الحروب
النابليونية وحتى القرن التاسع عشر، تعاقب
على النرويج ملوك من
بلدان حديثة توازيها وتشبهها، مثل الدانمرك
وسويسرا، تارة طوعاً وتارة
قسراً. ولعلّها لم تستقرّ تماماً إلاّ في القرن
العشرين، بعد الحرب
العالمية الثانية
![](http://scandinaviantimes.com/sctmag/wp-content/uploads/2010/04/Oslo-300x225.jpg)
إنّ مملكة النرويج التي تقع في أقصى
الشمال الغربي حيث يختلط
الليل بالنهار، والتي ربّما لم يبلغ عدد سكّانها
بعد الخمسة ملايين،
هي اليوم واحدة من أعظم دول العالم ثراءً
ورفاهية وأمناً واستقراراً.
فأسطولها التجاري هو من أضخم أساطيل
العالم، وحوضها لصناعة
السفن هو كذلك أيضاً. ثمّ إنها تملك نفطها
الخاص في بحر الشمال،
وهي الثالثة في ميدان تصدير النفط بعد
المملكة السعودية وروسيا
الاتحادية، ناهيكم عن تفوّقها في صناعة
المنسوجات والورق والأدوات
الكهربائية وتعليب الأسماك. إنّ الناتج المحلّي
النرويجي يزيد عن 296
مليار دولار أميركي، وهي، بالطبع، من الدول
الهامة في ميدان
توظيف الأموال النقدية
ولكن كيف حدث أنّ أمّة صغيرة تعدّ أقلّ من
خمسة ملايين، حديثة
عهد بالوجود وبالحضارة، تبلغ مثل هذا
المستوى العظيم من التقدّم
والرقيّ، بينما أمة عريقة تشكّل البدايات
الأولى للحياة المجتمعية
البشرية، وتعدّ اليوم مئات الملايين، تنحدر إلى
القاع؟ الجواب هو:
الوحدة هناك، والتجزئة هنا! ليس الوحدة
بالمعنى الاندماجي الكمّي
الأصمّ الأجوف، بل الوحدة في الرؤية الكونية
وفي الوظائف
الاستراتيجية العالمية
لم تنخرط الشعوب والأمم الأوروبية أبداً
برضاها في وحدة اندماجية
كمّية صمّاء، بدليل أنّ النرويج ليست عضواً
في الاتحاد الأوروبي بناءً
على رغبة شعبها التي أعلنها عبر استفتاء،
وتوافقاً مع الموقف
البريطاني والرغبة الأميركية. لكنّها كانت دائماً
موحّدة في العقيدة
السياسية وفي الرؤية الاستراتيجية العالمية
منذ القرن الثالث عشر،
أي منذ نهوض اتحاد المدن/ الدول التجارية
الأوروبية، الذي لم يتأثّر أبداً
بصراعاتها وحروبها الداخلية، حيث كان
المنتصر، ولا يزال، يشارك
خصمه المهزوم ثمرات انتصاره في الحدود
الدنيا على الأقلّ. وإذا لم
تنخرط النرويج في الاتحاد الأوروبي فإنّ هذا لا
يعني أنّها ليست ركناً
أساسياً محترماً وفاعلاً في المجموعة
الأوروبية
لقد كان هذا شأن العرب منذ القرن السابع
وعلى مدى حوالي عشرة
قرون تالية تقريباً، وهم بدؤوا يخسرون
وينحدرون منذ بدؤوا يفقدون
رؤيتهم الكونية المتطورة، ووظائفهم الأممية
الضرورية، ومنذ كفّوا عن
الالتزام بحدّ أدنى من الوحدة العقيدية
السياسية، الداخلية اللامركزية،
ولم تعد تجمعهم روابط كافية، حيث الوحدة
ليست بالاندماج الكمّي
الأصمّ بل بالتكامل النوعي الواعي، الخلاّق
المبدع
نصل الآن إلى موضوعنا. فهاهي الحياة
البشرية الأممية وقد أكملت
دورة أخرى من دوراتها المذهلة، وهاهي
توقعات أوسوالد شبينغلر
التي صاغها قبل مائة عام، بصدد تدهور
الحضارة الغربية، وقد بدأت
تتحقّق. وهاهي أمم عريقة ، كالصينية
والهندية وغيرهما، تبدأ نهضتها
المستقلّة من جديد بعد مئات السنين من
النهب والإذلال والاستعباد
الاستعماري الغربي، ثمّ هاهي مجموعة
الدول العشرين تبرز متخطية
مجموعة الدول السبع الغربية الثرية الاستعمارية،
نقلا عنسكاندينافيا تايمز