عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /03-09-2011   #25

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

لحظتها شعرت بهول ما حلّ بي، وأنا أمدّ نحوك يدي الفريدة في محاولة للإمساك بك. لقد كنت عاجزاً عن التقاطك بيدي الوحيدة المرتبكة، ووضعك في حجري لملاعبتك دون أن تفلتي مني.
أليس عجيباً أن يكون لقائي الأول بك هو امتحاني الأول وعقدتي الأولى، وأن أنهزم على يدك في أصعب تجربة مررت بها منذ أصبحت رجل الذراع الواحدة.. من عشرة أيام لا أكثر..!
عادت (أمّا الزهرة) بصينية القهوة وبصحن "الطمّينة":
- قل لي يا خالد يا ابني وراسك.. واش راه الطاهر؟
قالتها قبل أن تجلس حتى على المطرح.. كان في سؤالها مذاق الدمع. وفي حلقها غصّة السؤال الذي يخاف الجواب.. فرحت أطمئنها. أخبرتها أنني كنت تحت قيادته وأنه الآن في منطقة الحدود وأن صحته جيدة ولكنه لا يستطيع الحضور هذه الأيام، لصعوبة الأوضاع ولمسؤولياته الكثيرة.
لم أخبرها أن المعارك تشتد كل يوم، وأن العدو قرر أن يطرق المناطق الجبلية، ويحرق كل الغابات، حتى تتمكن طائراته من مراقبة تحركاتنا.. وأنه تم إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد، ومعه مجموعة من كبار القادة والمجاهدين، وأن ثلاثين منهم قد صدر في حقهم الحكم بالإعدام، وأنني أتيت للعلاج مع مجموعة من الجرحى والمشوهين الذين مات اثنان منهم قبل أن يصلا..
لقد قال لها منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها، فرحت أغيّر مجرى الحديث.. أمددتها بتلك الأوراق النقدية التي أرسلها معي سي الطاهر، وطلبت منها حسب وصيته أن تشتري لك بها هدية، ووعدتها أن أعود قريباً لتسجيلك، بذلك الاسم الذي اختاره لك، والذي رددته أمّا الزهرة بصعوبة، وبشي من الدهشة، ولكن دون تعليق. فقد كان لما يقوله سي الطاهر بالنسبة لها صفة القداسة.
وكأنك انتبهت فجأة أن الحديث يعنيك، فتسلّقت ركبتي وجئت فجأة لتجلسي في حجري بتلقائية طفولية، ولم أتمالك لحظتها احتضانك بيدي الوحيدة.. ضممتك إليّ، وكأنني أضمّ الحلم الذي أضعت من أجله ذراعي الثانية؛ كأنني أخاف أن يهرب مني وتهرب معه أحلام ذلك الرجل الذي لم يسعد بعد باحتضانك.
رحت أقبلك وسط دموعي وفرحتي وألمي وكلّ تناقضي، نيابة عن سي طاهر وعن رفاق لم يروا أولادهم منذ التحقوا بالجبهة، ونيابة عن آخرين، ماتوا وهم يحلمون بلحظة بسيطة كهذه، يحتضنون فيها بدل البنادق، أطفالهم الذين ولدوا وكبروا في غفلة منهم.
نسيت يومها أن أقبِّلك نيابة عني.. وأن أبكي أمامك نيابة عني. نيابة عن الرجل الذي سأتحول إليه على يدك بعد ربع قرن. نسيت أن أسجّل جوار اسمك اسمي مسبقاً.. وأن أطلب ذاكرتك مسبقاً.. وأعوامك القادمة مسبقاً.. أن أحجز عمرك، وأوقف عدّاد السنوات الذي كان يركض بي نحو السابعة والعشرين.. وأنت تدخلين شهرك السابع!
نسيت أن أستبقيك هكذا على حجري إلى الأبد، تلعبين وتعبثين وبأشيائي، وتقولين لي كلاماً لا أفهمه.. ولا تفهمينه.
لم تقاطعيني مرة واحدة، وأنا أقصّ عليك تلك القصة بإيجاز متعمّد، وأترك تفاصيلها المتشعبة لي.
توقفت فقط عند ذلك اليوم 15 أيلول 1957 الذي وقفت فيه لأكتب على سجلّ رسمي اسمك النهائي.
لم تسأليني أيّ سؤال توضيحي، ولا علَّقت يومها بكلمة واحدة، على قصّة لم يقصها عليك أحد قبلي. ربما لأن لا أحد وجد في تلك القصة ما يستحق التوقف.
استمعت إليَّ بذهول، وبصمت مخيف. وراحت غيوم مكابرة تحجب نظرتك عني.. كنت تبكين أمامي لأول مرة، أنت التي ضحكت معي في ذلك المكان نفسه كثيراً.
ترانا أدركنا لحظتها، أننا كنا نضحك لنتحايل على الحقيقة الموجعة، على شيء ما كنا نبحث عنه، ونؤجّله في الوقت نفسه؟
نظرت إليك خلف ضباب الدمع.. كنت أودُّ لحظتها، لو احتضنتك بذراعي الوحيدة، كما لم أحضن امرأة، كما لم أحضن حلماً. ولكنني بقيت في مكاني، وبقيت في مكانك، متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر سرّي من الحنين والشوق.. وكثير من الغيوم التي لم تمطر.
استوقفتني كلمة جسر، وتذكّرت تلك اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل الأهم من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضاً، عساني أصدّق غرابتها. وقفت وقلت:
- تعالي سأريك شيئاً.
تبعتني دون سؤال.
وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:
- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.
قلت متعجبة:
- وهل كنت مصيباً في حدسك؟
قلت:
- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟
أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..
- لا..
قلت:
_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!
قلت مدهوشة:
- عجيب.. عجيب كل هذا!
نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:
- أليست هذه قنطرة الحبال؟
أجبتك:
- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.
- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..
- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.
- فكرت قليلاً ثم قلت:
- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.
قلت:
- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!
لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..
لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.
قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:
- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟
فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.
كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!
وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.
قلت:
- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.
لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.
نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.
هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟
كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.
اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.
وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.
حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..
وكنت أحكم على نفسي بالجنون.
قضينا معاً وقتاً أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين بالهزّات النفسية، مشحونين بالانفعالات المتطرّفة، التي عشناها خلال أربع ساعات من الحديث المستمرّ. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناً، ووسط صمتنا المخيف أحياناً أخرى.
كنت سعيداً ربما لأنني رأيتك تبكين لأول مرة. كنت أحتقر الناس الذين لا دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم لا يستحقون الاحترام.
كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها.
وكان هذا أروع ما اكتشفته ذلك اليوم.
تذكّرت لقاءنا الأول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات الساخرة. يومها تذكّرت مثلاً فرنسياً يقوم: "أقصر طريق لأن تربح امرأة هو أن تضحكها"، وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد..
اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي يشجّع على الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي لا يهمّ أن تبكي بعدها المرأة التي قد ضحكت في البداية.
لم أربحك بعد نوبة ضحك..
ربحتك يوم بكيت أمامي وأنت تستمعين إلى قصّتك التي كانت قصّتي أيضاً. ثمَّ في تلك اللحظة التي تأملت فيها تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربّما على وشك أن تضعي قبلة على خدّي، أو تحضنيني في لحظة حنان مفاجئ.. ولكنَّك لم تفعلي.
وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة العابرة على الخدّ، إلى فتيلة تشعل البراكين النائمة.
كنّا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزّني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجرّدانني من سلاحي حتى عندما تمطران حزناً.
وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أيّ لغة كانت لغتك؟ أيّ موسيقى كانت موسيقاك..
كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئاً آخر غير ذاك بالنسبة لي.
ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلّ مرة، كما توضع حواجز في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساً خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعاً مرة واحدة، بنظرة واحدة.
كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناً هنا.. وأحياناً هناك، لتنتهي عند عينيّ أو زرّ قميصي المفتوح كالعادة.
قلت مرة وأنت تتأملينني أكثر:
- فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره الفوضوي المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه.
أجبتك:
- يمكن أن تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأنّ في أعماقي شيئاً من وحدته.. من حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائماً إلى هزائم.
قلت متعجبة:
- أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟
أجبت:
- ربما..
قلت:
- أتدري أنه الرجل الذي أثّر أكثر في حياتي؟
أدهشني اعترافك. فكَّرت إما أنك لم تعرفي كثيراً من الرجال.. أو لم تقرئي كثيراً من الكتب. وقبل أن أقول شيئاً واصلت بحماسة:
- يعجبني جنونه وتصرّفاته غير المتوقعة.. علاقته العجيبة بتلك المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدّها. أتذكّر قصة الكرز، يوم كان يحبّ الكرز كثيراً وقرر أن يُشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيراً.. كيراً حتى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده.
قلت:
- لا أذكر هذه القصة..
قلت:
- وهل تذكر رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حدّ الرقص. إنه تميّز في الهزائم أيضاً، فليست كلّ الهزائم في متناول الجميع. فلا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدّها بهذه الطريقة..
كنت أستمع إليك بانبهار وبمتعة. وبدل أن أجد في ذلك "الخراب الجميل" الذي كنت تصفينه لي بحماسة، ما يمكن أن يثير مخاوفي من نزعة سادية، أو مازوشية ما قد تسكنك، رحت أنقاد لجمال فكرتك فقط، وأقول دون كثير من التفكير:
- صحيح.. جميل ما تقولين. _ ثم أضفت_ لم أكن أدري أنك تحبين زوربا إلى هذا الحد!
قلت ضاحكة:
- سأعترف لك بشيء.. لقد أربكتني هذه القصة كثيراً. يوم قرأتها شعرت بشيء من الغبطة والحزن معاً. كنت أريد أن أحبّ رجلاً كهذا.. أو أكتب رواية كهذه، ولم يكن ذلك ممكناً، ولهذا ستطاردني هذه القصة حتى أشفى منها بطريقة أو بأخرى.
قلت ساخراً:
- يسعدني إذن أن تجدي شيئاً من الشبه بيني وبينه، فقد تحققين الأمنيتين معاً..
تأملتني بشيء من الشيطة المحبّبة وقلت:
- معك أريد أن أحقق إحدى الأمنيتين فقط.
وأضفت قبل أن أسألك أيّهما:
- لن أكتب عنك شيئاً.
- آ.. لماذا..؟
- لأني لا أريد قتلك، أنا سعيدة بك.. نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً علينا.. نحن نكتب لننتهي منهم..
يومها ناقشتك طويلاً في نظرتك "الإجرامية" للأدب وقلت لك ونحن نفترق:
- أيمكنني أخيراً أن أطّلع على روايتكم الأولى.. أو "جريمتك الأولى"؟!
ضحكت وأجبت:
- طبعاً.. شرط ألا تتحول إلى محقِّق جنائي أو طرفٍ في تلك القصّة!
- تراك كنت تتنبئين بما ينتظرني، وتدرين مسبقاً أنني لن أكون معك قاراً محايداً بعد الآن.
في اليوم التالي أحضرت لي تلك الرواية. قلت وأنت تمدّين نحوي الكتاب:
- أتمنى أن تجد شيئاً من المتعة في قراءتها..
قلت مازحاً:
- وأتمنى ألا يفسد عدد ضحاياك متعتي!
أجبت باللهجة نفسها:
- لا.. اطمئن.. فأنا أكره المقابر الجماعية!
كيف نسيت هذه الجملة الأخيرة..
عندما أتذكرها الآن، أقتنع أن قصّتك الجديدة هذه، التي تروج لها المجلات والجرائد، لن تكون سوى ضريح فردي لبطل واحد ربَّما كان زياد.. وربما كان أنا.. فمن ترى المحظوظ منَّا بميتة كهذه؟!
وحده كتابك قد يحمل جواباً على هذا السؤال، وعلى أسئلة أخرى تطاردني.
ولكن.. لماذا يثير كلّ ما تكتبيه لديّ أكثر من سؤال؟ ولماذا أشعر أنني طرف في كل قصصك الواقعية والوهمية، حتى تلك التي كتبتها قبلي؟
ترى لأنني أتوهم أن لي حقاً تاريخياً عليك، أو لأنك يوم أهديتني كتابك الأول ذاك، لم تضعي عليه أيّ إهداء، وقلت ذلك التعليق المدهش الذي لم أنسه:
"إننا نخطّ إهداءً للغرباء فقط.. وأمّا الذين نحبهم فمكانهم ليس في الصفحة البيضاء الأولى، وإنما في صفحات الكتاب..".
يومها أسرعت إلى ذلك الكتاب ألتهمه في سهرتين. رحت أركض لاهثاً من صفحة إلى أخرى، وكأنني أبحث عن شيء ما غير الذي أقرأه. عن شيء قد تكونين كتبته لي مسبقاً مثلاً حتى قبل أن نلتقي. عن شيء ما قد يكون يربطنا من خلال قصة لم تكن قصتنا.
أدري أنَّ ذلك كان جنوناً، ولكن أليس في الحياة مصادفات مدهشة كتلك اللوحة التي رسمتها ذات أيلول من سنة 1957، وبقيت تنتظرك ربع قرن دون أن أنها كانت لك.. بل إنها كانت أنتِ؟
وكان ذلك محض أوهام.. لم تخبّئي لي في كتابك ذاك، سوى مرارة وألم وغيرة حمقاء، ذقت نارها لأول مرّة. غيرة جنونية من رجل من ورق، قد يكون مرّ بحياتك حقاً.. وقد يكون مخلوقاً خيالياً، أثَّثت به فراغ أيامك وبياض الصفحات فقط.
ولكن أين هو الحد الفاصل بين الوهم والواقع؟ لم تجيبيني مرة واحدة عن ذلك السؤال.. رحتِ تعمّقين حيرتي بأجوبة أكثر غموضاً.. قلت:
- إنّ المهمّ في كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه لا غير، فوحدها الكتابة هي الأدب.. وهي التي ستبقى، وأمّا الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير.. أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسببٍ أو لآخر.. ثم واصلنا الطريق معهم أو بدونهم.
قلت:
- ولكن لا يمكن أن تكون علاقة الكاتب بملهمه مبسّطة إلى هذا الحد. إن الكاتب لا شيء دون من يلهمه.. إنه مدين له بشيء..
قاطعتني..
- مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه "أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزار قباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوماً عليه أن يبيضّ ويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس في ابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيس متناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين للآخر بالمجد إذن؟
كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب من الحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة:
- هل مرّ هذا الرجل بحياتك.. أم لا؟
ضحكت.. وقلت:
- عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من 60 جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العدد من القتلى. ولم يرفع أيّ مرة قارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهنَّ. ويكفي كاتبةً أن تكتب قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر من دليل على أنها قصتها. أعتقد أنه لا بد للنقاد من أن يحسموا يوماً هذه القضية نهائياً، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خيالاً يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكمونا جميعاً!
ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت:
- في انتظار أن يحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤالاً لم تجيبيني عنه.. هل مرّ هذا الرجل بحياتك حقاً؟
قلت وأنت تعبثين بأعصابي:
- المهم أنه مات بعد هذا الكتاب..
- آ.. لأنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟












 
التوقيع - القيصر

http://up.arab-x.com/Oct11/4rc41652.gif

  رد مع اقتباس