مــــــــا لا نعــرفــــه عــــــن الفراتــــــي محمـــــــــــــــد الفـــــراتـــــــــــــي ... فلكــيــــــــــــاً
هو قامة الفرات الشامخة ، وهو الذاكرة التي لن ينساها التاريخ ، هو علم وادينا من أقصاه إلى أقصاه ، هو الحياة بفنونها المختلفة متجسدة في رجل واحد . الفرات تتفرد بنشر سلسلة من الموضوعات حول جوانب أُغفلت من حياة واهتمامات الفراتي ... تابعوها كل أحد القسم الثقافي
الشاعر محمد الفراتي ..شاعر الفرات ، كما عرفه الكثيرون ، يتكلَّم هذه المرة ، بلغة غير لغة الشعر ، إنها لغة الفلك ، التي دوَّن فيها أقواله ، في تفسير الآيات الكونية على أحدث النظريات الفلكية ،
الفرات : تنشر ولأول مرة دراسة حول المخطوط الذي تركه الفراتي ، مع ما نشره الفراتي من بحوث وأقوال في هذا المجال .
عندما تبحث في ثنايا التاريخ عن معلومات حول الرجال العظماء والأدباء والباحثين ، فإنك تُفاجأ كثيراً لما تصطدم به من ضحالة فيما يخصُّ هؤلاء العباقرة الأفذاذ من معلومات تتكلَّم عنهم وتخصهم وإنَّك في النهاية لن تجد إلا النـزر اليسير فيما يخصُّ كتاباتهم أو موروثهم العلمي الذي عُرفوا به .
وربما عرف الكثيرون من أبناء الفرات ، الأستاذ محمد الفراتي شاعراً من خلال قصائده المشهورة في الفرات الخالد و قلما تجد أحداً من أبناء هذا الوادي إلا ويحفظ شيئاً من هذه الشِّعر .
وقد عُرف باسم ( الفراتي ) لأنه كان يوقِّع قصائده عند نشرها بهذا الاسم عندما كان في مصر طالباً للعلم ، وقد اكتسبه من الرواق الشامي ، في الأزهر إذ كان ينسب نفسه إلى الفرات ، حتى غلب على اسمه الحقيقي ( محمد بن عطا الله بن محمود ) .
في هذه الدراسة ، لا نريد أن نتكلم عن الشاعر الفراتي بدراسة نقدية لشعره ، أو حياته وشعره ، فقد كتب عنه الكثيرون ، ولكن أحبُّ أن أسلِّط الضوء ، على جانب ربما يخفى على الكثيرين ، لأنه جانب خفيٌّ من جوانب حياته ، فكل الذين يعرفونه أو سمعوا به من خلال أشعاره التي انتشرت في وادي الفرات ومصر العراق ، عرفوه شاعراً متميِّزاً ومهتماً باللغة الفارسيَّة وآدابها ولم يعرفوه مهتماً بعلوم الفلك ، وما يحيط بها من قضايا التأمل، والتفكّر ، إلا المختصين منهم الذين رأوا في شعر الفراتي فلسفة كونية عظيمة ، لا ينطق بها أي إنسان ، إلا إذا كان مهتماً ، ومثقفاً بهذا العلوم المهمة .
الشَّاعر محمد الفراتي أحد هذه الشخصيات المهمة في وادي الفرات السوري الذي ملأ بشعره الآفاق شأنه شأن كثير من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه أو جاؤوا بعده ، شخصيَّة على شهرتها وانتشار صيتها في الأرجاء ، إلا أن الغموض يكتنفها من كلِّ اتجاه تحاول اقتحامه ، وحتى في الشعر الذي طغى على كلِّ معارفه وعلومه الأخرى ، فتراه مرة صافي النَّفس هادئاً ، وفي قصيدة أخرى ترى الغضب يتطاير بين سطور قصائده ، دائم التحليق ، في مدارج اللغة ، والفكر ، والتأمل ممتطياً صهوة " شيطانه الشعري " ، سابحاً به في ملكوت الفضاء الرحب ، متنقلاً بين الكواكب ، سابراً أغوارها ، يتحدث إلى عوالمها الغريبة ،المجهولة ،يلقي إليها من فيض روحه ،فتكلِّمه بما خبأته من خفايا كنوزها ، باحثاً عن الحقيقة التي أرَّقت فكر السابقين ، واللاحقين ، يشكُّ بكلِّ شيء يراه أمامه، مُتخذاً من منهجه هذا طريقاً إلى الهداية والنور ، موحِّداً بآلاء الله في الملكوت اللامنتهي ، مقراً بوحدانيته ، مؤمناً إيمان العارف ،المتبحِّر بخالق الأكوان .
الفراتي ، الشاعر المثقف ،المتأمل ، المفسِّر الفلكي ،الذي بلغ من الكبر عتياً ولم ينقطع عن التأمل والتفكِّر والبحث، فهل سمع أحد من قبل أنه كان يكتب في الفلك ، وله مقالات عديدة في هذا المجال ، وسجالات مع كثير ممن عاصروه ، حول قضايا فلكية ، كانت الدوريات والمجلات العربية ميداناً له ، ولأفكاره التي امتلأت بها ؟
وهل سمع أحد من قبل أن الفراتي كان منهمكاً في تفسير بعض الآيات الكونية ، مقارناً ما وصل إليه من نتائج ،مع أحدث النظريات الفلكيِّة الحديثة .
وهل حقيقة ما نُسب إليه من أنه كان عالماً بالفلك ? كما قال الدكتور حسين جمعة ? في حديثه عن الفراتي ، أم أن كلامه فيه الكثير من المبالغة ، وأن ما قيل عن علوم الفراتي الفلكيَّة محضُ أوهام لا حقيقة لها .
والمخطوط الذي حصلنا عليه / تفسير الآيات الكونية على أحدث نظريات علم الفلك / والموجود عند ابنه السيد ( طارق الفراتي ) والذي حصلنا على صورة من حفيده الأستاذ رعد آصف الفراتي الذي بادر مشكوراً بإطلاعنا عليه و عنده صورة منه وأحبَّ نشره رغبة في زيادة التعريف بهذا الجانب المجهول من حياة الشاعر الفراتي ، لأنه يتكلَّم عن تفسيره لبعض الآيات القرآنية معتمداً على ثقافته العالية في العلوم الفلكية واهتمامه بكلِّ جديد وحديث في عصره .
بدا الفراتي من خلال المخطوط / تفسير الآيات الكونية على أحدث نظريات علم الفلك / الذي بين أيدينا عارفاً معرفة جيدة وشاملة حول ما قدَّمه من خلال المعلومات الغزيرة والدقيقة في هذا المجال ، فهو يكتب كتابة منهجية وموسوعية ومرتبة ضمن ضوابط علمية ألزم بها نفسه ، وسنقارن ما ورد في المخطوط بما كتبه في الدوريات التي كان ينشر فيها موضوعاته التي تهتم بالتفسير والفلك ، وهي مجلة ( التمدن الإسلامي ) التي عُرف الفراتي من خلالها ،عالماً ، فلكياً ، متميزاً ، ومعروفاً بهذا الجانب من الكتابة من خلال مقدمة رئيس تحرير المجلة المذكورة، ورسالته للفراتي ، في مقدمة ردِّه على الأستاذ العابري في موضوع : ( السَّموات السَّبع والنظريات الفلكِّية الحديثة ) .
الفراتي والفلك :
كلُّ مَن كتب عن آثار الفراتي ، ومؤلفاته ذكر الدواوين الشِّعرية ، ثم نوَّه إلى ما تركه من مخطوطات عديدة ، عند أبنائه أو غيرهم ، ولم يأتِ ذكر لاهتمام الفراتي بالفلك، وكتابته في هذا المجال ، إلا النـزر اليسير متفرقاً بين ثنايا الكتب ، والمقالات التي تحدثت عن الفراتي ، فالأستاذ أحمد شوحان في كتابه ( محمد الفراتي شاعر وادي الفرات ) يذكر من بين مؤلفات الفراتي :
تفسير الآيات الكونية : وهو تفسير نفيس، للآيات التي تبحث عن الكون ، وما حوى من كواكب ونجوم ، ومجرات ، ضخمة ، قام الفراتي بتفسيرها تفسيراً علمياً ، يعتمد على علم الفلك ، وقابلها على أحدث نظريات علم الفلك الحديثة ، والكتاب لا يزال مخطوطاً ( ا . هـ ) .
ويورد الأستاذ عبد الفتاح قلعجة جي في مقالته ( ربابة الفرات ، الشاعر محمد الفراتي ) في مجلة عالم المعرفة السورية العدد / 516/ أيلول عام 2006 م ، ذكراً للمخطوط ولكن بعنوان مغاير هو " إعجاز القرآن " حيث يقول : " ساهم في تكوين شخصية الفراتي الثقافية عدة عوامل منها بيئته الفراتية الجميلة الهادئة والمحافظة ، وثقافته الدينية ، و الأدبية ذات الطابع الأزهري ، ودراسته لعلم الهيئة ? الفلك ? وقد استفاد منها في دراسته للقرآن الكريم في كتابه " إعجاز القرآن " في الآيات الكونية وتطبيقها على النظريات الفلكية ، وقد كان لاهتمامه بالدراسات الفلكية القديمة ، والحديثة ، تأثير في اتجاهات إبداعه الشعري ( ا . هـ ) .
و الدكتور حسين جمعة ( رئيس اتحاد الكتاب العرب ، مثلاً يشير إلى ذلك بإشارة بسيطة في دراسته عن الفراتي في قصيدته " الكوميدية الإلهية " حيث يقول في شرحه لأحد أبيات القصيدة :
وعلَّمني سرَّاً ، وقال به ترى وتسمع ما يخفى عليك وتفهم ُ
" فاغتبط الشاعر ، عالم الفلك ، بما عرفه ، وتوصَّل إليه مما كان يبتغيه ويتشوَّق إليه ، وفي مكان آخر ، يقول مرة أخرى : لقد كان الفراتي الشاعر الفلكي مشغولاً بالمراصد الفلكية وبما فيها من مناظير وتلسكوبات ، ولذلك أعجب بدقة صنع هذه الأجهزة وجمالها .
( مجلة المعرفة السورية ، الشاعر محمد الفراتي في الكوميديا الإلهية ، د . حسين جمعة ص 230" وفي نهاية المقال عندما يصل د . حسين جمعة إلى عنوان وضعه الفراتي " مَن أنا ومن أين جئت " ... يقول : " تجاوزناها لكونها وصفاً علمياً للمراصد الفلكية الكونية و لنوع من العدسات الموشورية والمحدبة و للتيلسكوبات التي أُولع بها الشاعر الفلكي ا . هـ المرجع ذاته ص 246 " .
ومن بين الذين كتبوا عن الفراتي كتابة منهجية أكاديمية موثَّقة ودقيقة الدكتور شاهر امرير في كتابه القيِّم ( الفراتي ، حياته وشعره) حيث قال : " ترك مخطوطات عديدة ، يوجد قسم منها لدى الدكتور (ابراهيم الكيلاني ) وقسم آخر لدى أبنائه " ثم يجعل في الحاشية قوله " أرسل لي الدكتور رسالة عبر الأديب نصر الدين البحرة رداً عن سؤالي عن هذه المخطوطات ، تفيد أن كلَّ ما لديه من مخطوطات الفراتي آلَ إلى ( صالح البربندي ) بناءً على طلب زوجة الفراتي" .
وللفراتي آراء خاصة في هذا المجال ففي إجابته عن السؤال الذي وُجِّه إليه هل صحيح بأنك من مواليد 1890م ؟ أجاب قائلاً : أنا لا أقبل إلا التاريخ القمري ، لأنه تاريخ العرب ، وإن كانت السنة الشمسية هي الصحيحة فلكياً ، وأنا أفضِّل أن يكون عمري عربياً ... ( من حوار بينه وبين الشاعر عبد المنعم الرحبي ) .
وفي حوار نادر لفاتح المدرِّس مع الفراتي يقول فيه : " أصبحت لا أنظر إلى ظواهر الأمور ، دون أن أتحرى الحقائق التي وضع نظامها الدقيق في هذا العالم ، هذه هي نظرتي من ذلك الوقت ، ما كنت أقتصر على ما أراه في هذه الكواكب ، الذي يجهل جماله الساحر أكثر سكانه ، هذه الكواكب ، لا أعرف و لا يعرف كل من درس العوالم التي تحيط بنا ، لا أعرف أجمل منه ، و لا ألطف ، لأن كل ما توصل إليه العلم ، إلى الآن هو رؤية الكواكب السيارة ، رؤية مظاهرها فقط لما فيها من جمال ، لذا المجهول عدم ، . وما دام العلم إلى الآن ، أو علماء الفلك خاصة ، ما توصلوا أو اكتشفوا اكتشافاً صحيحاً غير القمر .
وفي سؤال آخر : هل يمكن للمكان أن يحتوي الزمان ؟ أجاب الفراتي : " المكان ، مثلاً الكرة الأرضية ? هذا الكوكب فهو متحرك بحركة يومية ، يقطع فيها على نفسه / 27 / كيلو متراً في الدقيقة الواحدة ، نتيجة الليل والنهار ، ويقطع حول الشمس ، في حركته السنوية / 1500 / كم في الدقيقة وينتج منها الفصول الأربعة ، وأما الحركة الثالثة ، ولا يعرفها إلا الأقل من القليل ممن يشتغلون في علم الفلك ، هي الحركة الثالثة ، حركة الشمس حول مركز المجرة ، هي وبناتها ، أي السيارات أخوات الأرض ، تتحرك مع أمها الشَّمس بالثانية الواحدة من / 30 ألف كم / و لا تتم دورتها حول المركز إلا إذا تحركت الأرض حولها / 300,000,000دورة / الدورة سنة / وبإجماع أكثر علماء الفلك ، ويؤيدهم الحديث عن الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم " أن الأرض من حين وجودها دارت حول المركز ستّ دورات ونصف ، يقول الحديث الشريف : " خلق الله الأرض على سبعة آماد " دورة " جاء آدم على رأس الأمد السابع " . / ا . هـ / ( جريدة الثورة ، العدد / 12893/ كانون الأول 2005 م .
ومن غير المعروف أين درس الفراتي علم الفلك ، فهو لم يصرِّح بذلك ، ولم يُذكر عن أحد قولٌ ، أو نقلَ كلاماً بهذا الشأن ، سوى بعض الأقوال الشفويّة التي تؤكِّد دراسة الفراتي لعلم الهيئة ? الفلك ? في مصر لمدة ثلاث سنوات قبل التحاقه بالأزهر لدراسة العلوم الشَّرعية ، ولكن للأسف ، لا يوجد ما يوثِّق هذا القول سوى ما ذكره الأستاذ عبد الفتّاح القلعةجي في مقالته الآنفة الذكر ( ربابة الفرات ، الشاعر محمد الفراتي ) ومن الأرجح أن يكون قد تعلَّم علم الفلك بمفرده إذ أنه ليس من الصَّعب على مَن يتعلَّم اللغة الفارسية لوحده و يترجم أشعار كبار الكتَّاب الفرس ونثرهم ، أن يتعلَّم علماً بمفرده وخصوصاً ما عُرف عنه من الذكاء والحافظة السَّريعة .
وسنتكلم في الدراسة القادمة والتي ستنشر تباعاً في جريدة الفرات عن الموضوعات التي كتب فيها الشّاعر الفراتي في علم الفلك والمجلات التي كان ينشر بها موضوعاته والحوارات التي تمّت بينه وبين علماء عصره في بعض القضايا الفلكية .