حكم نكاح الأطفال
من أشهر القضايا المتعلقة بالسيدة عائشة قضية نكاح الأطفال, حيث أن المشتهر من الروايات يقول أن النبي الخاتم تزوجها وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع سنين!
وهذا المسألة من المواضع التي يندد بها أعداء الدين, مدعين أن الإسلام أطلق العنان للشهوات, فلم يكتف بتعدد الزوجات! وإنما أباح للرجل أن يتزوج الأطفال! –بعد أن ملّ النساء!- فأضاع حقوق الأطفال وقضى على براءتهم, فكيف يتزوج الطفل البريء الذي لا يعي شيئا؟!
ولقد قال الفقهاء بجواز نكاح الأطفال, وأنشئوا في ذلك أبوابا في الفقه, وفرّعوا في أحكامها! استنادا إلى المروي من فعل النبي؛ أنه عقد على طفلة!
كما استندوا إلى آية وحيدة في كتاب الله تعالى, وهي قوله سبحانه:
"وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4]"
فيقولون أن المراد من "اللائي لم يحضن" هو الفتيات الصغيرات اللاتي لم يبلغن, وممن قال بهذا؛ الإمام الطبري في كتابه: "جامع البيان في تأويل القرآن":
"حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: "وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ" يقول: التي قد ارتفع حيضها، فعدتها ثلاثة أشهر, "واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ" قال: الجواري.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ" وهنّ اللواتي قعدن من المحيض فلا يحضن، واللائي لم يحضن هنّ الأبكار التي لم يحضن، فعدتهنّ ثلاثة أشهر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: "وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ" الآية، قال: القواعد من النساء "واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ": لم يبلغن المحيض، وقد مُسِسْن، عدتهنّ ثلاثة.[1]" اهـ
ونجد رواية ساقطة في التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي, فيها:
"فلما نزل قوله تعالى: "فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـٰثَةُ أَشْهُرٍ", قام رجل فقال: يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض؟ فنزل: "وٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ" أي هي بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر.
فقام آخر وقال: وما عدة الحوامل يا رسول الله؟ فنزل: "وَأُوْلَـٰتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[2]" اهـ
فتدعي الرواية أن الآية نزلت مجزأة على مرات كثيرة! استجابة لتساؤلات هؤلاء الأفراد! ولست أدري لماذا لم ينزلها الله مرة واحدة!!
إن أي رواية تقول أنه نزل جزء من آية ثم قال فلان كذا أو فعل علان كذا, فأُنزل جزءٌ آخر أو بضع كلمات أخرى, فهي رواية ساقطة, يلقيها المرء خلف ظهره, فالآيات كانت تنزل كاملات مكتملات على الرسول, ب مرة [3], لذا فنفض يدك من هذه الروايات المقطعة للآيات!
ونعود إلى مناقشة الآية, فنقول: تبدأ الآية بقوله تعالى:
"وٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ"
لا خلاف في أن هؤلاء النساء نساء! أي إناث بالغات, وذلك ليأسهن من المحيض, بعد أن نزل عليهن!
والخلاف كله يكمن في قوله تعالى: "وٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ", فهم يرون أن المراد منه الصغيرات اللاتي لم يحضن أصلا, أما نحن فنرى أن المراد منه النساء اللاتي لم تحضن وأن قولهم هذا يوجد تناقضا في كتاب الله, لأنه يجعل هذه الآية معارضة لآية سنعرض لها بعد سطور قلائل!
وننظر في الآية لنحدد أيهما المراد, وكعادتنا دوما في تحديد المعنى المراد, ننظر في السياق العام, والذي يرجح معنى من المعاني:
تبدأ السورة بقوله تعالى: "يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ....", وهذه الجملة دليل لنا على ما نقول, فالأحكام المذكورة في السورة كلها متعلقة بالنساء, لذا ما ورد في الآية الرابعة هو في النساء كذلك.
والناظر في القرآن كله يجد أنه لم يعرض مطلقا للزواج بالأطفال, ثم إن الآية التي سنذكرها تنفي هذه الاحتمالية.
ولنا أن نسأل: إذا كان يجوز الزواج من الأطفال, فما هي أحكامه؟
إن الله عز وجل قد قال في أول السورة: "إذا طلقتم النساء", فما الحكم إذا تزوجت طفلة ثم طلقتها؟ لا نجد في القرآن حكما لها, لأن كل الحديث عن النساء! وهذا يعني أن القرآن غفل عنها, ومعاذ الله فليس هناك غفل!
فإذا عدنا للآية وجدنا الله تعالى يقول:
"وٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَوأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ..."
ولا خلاف أن الصنف الأول والثالث هو من النساء, أي أننا يمكننا أن نفهم الآية: "وٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ ... وأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ (من نسائكم)"!
والسؤال هنا: هل نسقط (من نسائكم) أيضا على "وٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ", أم نتركها بدون هذا التخصيص, فتشمل من لم يحضن من النساء والفتيات التي لم يحضن ابتداءً؟
وتأتي الإجابة ب: نعم لا بد من إسقاطه, لأن من لم تحض هي امرأة لم تحض لعلة جسدية, وليست طفلة, صنف مذكور بين صنفين من النساء, يُفصِّل القرآن أحكامهن, فما المبرر لنزعها من بينهن وجعلها طفلة؟!
والنقطة الفيصل هي أن الطفلة لا تحيض! فلا يمكن أن يكون الحديث عن أطفال.
قد يقول قائل: وما المشكلة في هذا؟
نقول: عندما ينسب القرآن الفعل إلى فاعله أو ينفيه عنه, فيفترض فيه أنه من أهله, الذي يمكنه أن يأتيه أو يمتنع عنه, والطفلة بداهة لا تحيض.
لذا لو كان الله تعالى يتحدث عن الأطفال, لكان من المفترض أن يقول: "واللائي لم يبلغن المحيض"! كما قال في النور:
"وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا .... [النور : 59]"
فنفهم من هذا أن الحديث هنا عن أطفال وليس عن نساء, أما طالما أن الله تعالى نفى الفعل عنهن, فمن المفترض أنهن من أهل القيام به, وهذا ما لا يكون إلا في النساء!
إذا فالله تعالى يذكر حكم المرتاب في حيضها وحكم من لم تحض ابتداءً وحكم الحامل, وكلاهن من النساء ولا دخل للأطفال فيهن!
وحتى لا يظل القارئ في ريب من فهمنا للآية, نذكر الآية الأخرى التي تثبت ما نقول به, والتي لم يراعها القائلون بالجواز, وهذه الآية هي قوله تعالى:
"وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ... [النساء : 6]"
فالله تعالى يأمر الأوصياء باختبار عقول اليتامى, ليعرفوا هل يصلحون لتحمل الأموال أم لا! ويستمر هذا الابتلاء حتى يبلغوا النكاح.
فهذه الآية دليل على أن النكاح لا يكون إلا بعد البلوغ[4], فهي تقول: اختبروهم حتى إذا بلغوا النكاح, أي أن النكاح لا يكون إلا بعد سن معينة يبلغها الإنسان.
وحتى لا يقول قائل: وكيف لم ينتبه إلى هذه الآية المفسرون والفقهاء؟!
نقول: لقد أوّلوا الآية بغير ما قالت, فقالوا أن المراد من بلوغ النكاح هو الحلُم, كما جاء في تفسير مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي:
"المسألة الثانية: المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله:
"وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ[النور: 59]"
وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال, الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع[5]" اهـ
وبداهة فإن النكاح ليس هو البلوغ! وجعلهم هذا مساوٍ لذاك قول لا بينة عليه!
ونحن وإن كنا نرى أن المراد من النكاح هو النكاح, والذي لا يكون إلا بعد فترة من البلوغ في الأعم الغالب, فلا يكفي الذكر أو الأنثى مجرد البلوغ لتحمل مسؤولية النكاح, والذي هو الزواج وليس الوطء!
فليس الزواج مجرد وطء الذكر للأنثى, وإنما هو علاقة ومسؤولية, يدل على ذلك قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب : 49]"
فالآية دليل على وجود النكاح ثم الطلاق قبل المس, فيكون المراد منه العقد, -وهذا رد على من يقول أن النبي عقد على طفلة ودخل على بالغة!- وإنما يحتاج إلى فترة أخرى, تتراوح من شخص لآخر, حتى يستطيع تحمل تبعات الزواج. فإذا بلغ الإنسان هذه المرحلة وأصبح مؤهلا للنكاح, فإن آنسنا منه رشدا ندفع له ماله!
وحتى لو تنازلنا وقبلنا قولهم, وقلنا أن المراد من بلوغ النكاح هو البلوغ فقط!
فلنا أن نسأل: إذا كان يمكن الزواج من الصبية ولا يحتاج المرء الانتظار إلى أي سن, فلم قال الله: "بلغوا النكاح"؟
هذه الكلمة دليل على بدهية وجود سن معينة, يلزم بلوغها أولا حتى يستطيع الإنسان أن ينكح, وقبلها لا يُقبل هذا عقلا!
فإذا قلنا أن آية الطلاق هي في الأطفال, فهذا يعني أنها مخالفة لآية النساء, وتعالى كتاب الله عن الخلاف أو الاختلاف!
إذاً, نخرج من هذا بأن القرآن لم يتحدث قط عن نكاح الصغيرة, التي تتحمل الوطء, -وكأن الزواج ما هو إلا وطء!-, وإنما تحدث عن نكاح نساء راشدات!
وإني لأعجب ممن يقبلون تزويج من لم تتحمل الأحكام الشرعية, فإذا كان الشارع قد حد عمراً لبدأ تحمل التكاليف البسيطة, فكيف نحمل طفلة مسؤولية الزواج؟! وكيف تُحرم من طفولتها؟!
[1] محمد بن جرير الطبري, جامع البيان في تأويل القرآن, تحقيق : أحمد محمد شاكر, المجلد الثالث والعشرون, ص452-453.
[2] فخر الدين الرازي, مفاتيح الغيب, المجلد الثلاثون, ص32.
[4] ليس هذا القول بالحديث, وإنما هو موجود وظاهر من أيام التابعين, فأول من قال أنه لا يجوز نكاح الصغار استناداً إلى هذه الآية هو ابن شبرمة, قاضي الكوفة, وهو من التابعين المشهود لهم, توفي عام 144هـ.
[5] فخر الدين الرازي, تفسير مفاتيح الغيب, المجلد التاسع, ص.153.