***درس في التاريخ***
عندما كنت طالبا في المرحلة الثانوية ، أذكر أن مدرس التاريخ دخل علينا في أول درس أعطاه ، وأراد أن يحببنا بهذه المادة ، ويلفتنا إلى أهميتها ، فقال : .. عندما أراد مفكرو الأمة الفرنسية أن يبعثوا النهضة ويبثوا الحياة في أمتهم ، توجهوا إلى دراسة تاريخ الأمة وإحياء أمجادها ، وتقديم نماذج من التضحية والفداء والفضيلة التي قدمها أسلافهم ؛ ليحتذي أبناء الأمة وشبابها حذوهم .. وكان لهم ما أرادوا ..
لم يغب عني توجيه الأستاذ أبدا ، بل إنه يعاودني كلما فكرت بحال الأمة ، وقارنت بين حاضرها وماضيها .. وهاأنذا أجدد دعوة أستاذي ، فأتصفح تاريخ الأمة العظيم ، لأجد سطورا مكتوبة من نور في سفر المجد الخالد ، كل مشهد ، وكل موقف يدل على أنهم بلغوا في الفضيلة والفداء ما يؤهلهم لأن يكونوا حملة مشعل السيادة والمجد .. سأبدأ بمشهد بطولي مع امرأة آمنت بالله ، حق إيمانه .. إيمان لا تعبر عنه الكلمات والعبارات ، بل تترجمه المواقف والأفعال .. موقف نقلته كتب السير عن الصحابية الشاعرة الأديبة المعروفة الخنساء بنت عمرو بن الشريد ، تقول الكتب :
( .. حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم من أول الليل: إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله غيره انكم لبنو رجل واحد، كما انكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدنيا الفانية ، يقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظىً على سباقها ، وجللت ناراً على أوراقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها ، عازمين على قولها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم ، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحه *** قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه
مقالـة ذات بيـان واضحه *** فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنمـا تلقون عند الصائحه *** من آل ساسان كلابـا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه *** وأنتـمُ بين حيـاة صالحـه
أو ميتة تورث غنماً رابحه
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله. ثم حمل الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلد *** والنظر الأوفـق والرأي السدد
قد أمرتنـا بالسداد والرشد *** نصيحـة منهـا وبرا بالولـد
فباكروا الحرب حماة في العدد *** إمـا لفوز بارد عان الكبـد
أو ميتة تورثكم غنم الأبد *** في جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل إلى أن استشهد رحمه الله. ثم حمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصي العجوز حرفاً *** قد أمرتنـا حربـاً وعطفـا
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً *** فباكروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل ساسان لفا *** أو تكشفوهم عن حماكم كشفا
إنا نرى التقصير عنهم ضعفا*** والقتل فيكـم نجدة وعرفـا
فقاتل حتى استشهد رحمه الله، ثم حمل الرابع وهو يقول:
لست لخنسـاء ولا للأحـزم*** ولا لعمرو ذي السنـاء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم*** ماض على الهول خضم خضرم
إمــا لفـوز عاجل ومغنـم *** أو لوفـاة في السبيل الأكرم
فقاتل حتى قتل رحمه الله ..
فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته .
انتصر المسلمون في معركة القادسية ، وهي من المعارك الفاصلة التي غيرت وجه التاريخ بفضل إيمان أبناء الأمة بمبادئهم وقيمهم ، وبفضل ثباتهم في ساحة المعركة الضروس ، هذه المبادىء التي رضعها أبناء الخنساء من أمهم ، فكانت تسري بدمائهم ، لم يقاتلوا من أجل مكسب مادي .. بل إن قتالهم كان لنصرة الأمة وإعلاء راية الحق ، فقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك ، وحمدت أمهم ربها على نيل أبنائها شرف الشهادة .. كم أنت عظيمة أيتها الأم المؤمنة ..! ؟ وكم كان إيمانك قويا ..! ؟ وأنت تدفعين بأبنائك .. فلذات كبدك ...للثبات في ساحة المعركة ... لم تكن حالة الخنساء وأبنائها حالة فريدة في تاريخ أمتنا .. بل إنها أنموذجا لحال بقية أبناء الأمة .. ولولا ذلك لما ساد أجدادنا وحملوا مشعل الحضارة قرونا طويلة ..
إن معركة الأمة قد تكون بحمل السلاح ، وقد تكون بالعلم والعمل أو غير ذلك ...لكنها على كل حال معركة دائمة .. تحتاج إلى التضحية والفداء والتمسك بالقيم النبيلة والتخلي عن ( الأنانية ) وحب الذات ، معركة بحاجة إلى العمل الدؤوب ومراقبة الله تعالى في كل مجالات الحياة بصدق وشرف وإخلاص ومسؤولية .
الدكتور عياد خيرالله