المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الذئبة المرضعة وعواء الأبناء


منى
01-11-2011, 07:28 PM
الذئبة المرضعة وعواء الأبناء

بقلم: د‏.‏ صلاح فضل

من أهم تداعيات الجوائز العربية أنها تضع الإنتاج الإبداعي والفكري لكل الأقطار‏,‏ ولمن يقيمون في المهاجر أيضا‏,‏ في بؤرة الضوء المتوهج‏,‏ علي ما يقتضيه ذلك من شراسة المنافسة‏,‏ أو عشي العيون وحرقة الأبصار‏.

‏ وقد أتيح لي أخيرا أن أقرأ رواية طريفة وصلت الي تصفيات البوكر‏,‏ لمبدع جزائري شاب يقيم في روما هو عمارة الخوصي‏,,‏ بعنوان لافت كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك
ربط في البداية بين ذئبته وذئب أبي العلاء المعري الذي كان يسيء الظن بالبشر‏,‏ يقول‏:‏
عوي الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوي وصوت إنسان فكدت أطير

لكني لم ألبث أن أدركت خصوصية تجربته الساخنة مع المهاجرين العرب في إيطاليا‏,‏ وآلام التثاقف والعنصرية‏,‏ لأتبين أن الذئبة ما هي إلا رمز روما التي يكفي أن تتجول في شوارعها المتخفية لتري ذاكرة الإنسانية متجسدة أمامك وتنظر في علم نادي روما لتستمتع بصورة الذئبة وهي ترضع التوأمين

اللقيطين‏:‏ رومولو وريمو وكأنهما يتغذيان علي لغتها وثقافتها حتي يأمنا أنيابها‏,‏ فهما رمز للمهاجرين الذين يعوضون عقمها البشري‏,‏ وينسون في حضنها الخطر أوجاع ماضيهم الأليم‏.‏


تقنية مزدوجة


يجمع الكاتب في هذه الرواية بين تقنية الرواة المتعددين للأحداث ذاتها‏,‏ بغية إبرازها من منظورات متقابلة‏,‏ في مداخلات مجدولة لا تتجاوز نصف صفحة‏,‏ علي هيئة يوميات لسكان منزل واحد في أحد أحياء المدينة‏,‏ وبين فصول قصيرة تقدم من منظور الراوي نفسه حقيقة كل شخصية في شكل خواطر وحوار من طرف واحد يفترض مخاطبا صامتا‏,‏ فتعمل هذه الضفيرة علي تقديم الأفكار والأوهام بشكل بالغ الحيوية‏,‏ مفعم بمفارقات الحياة واكتشافاتها الصغيرة المدهشة‏.‏

فهذا الشاب الإيراني برويز صمدي يكشف ولعه بركوب المصعد والمترو في الفصل الأول‏,‏ ونفوره المرضي ممن يأكلون البيتزا في الطريق العام‏,‏ وكأنهم يأتون بأفعال خادشة للحياء‏،‏ فيأتي أميديو ـ وهو الشخصية المحورية ـ ليشرح هذا الموقف قائلا‏:‏ حاولت أكثر من مرة إقناع برويز بتعلم أصول الطبخ الإيراني إذا ما تعلم شيئا عن المطبخ الإيطالي‏,‏ هذا هو التفسير الوحيد لكرهه للبيتزا خصوصا وللعجائن عموما‏,‏ -كما يقول المثل العربي لا يجتمع سيفان في غمد واحد - وبرويز مقتنع باستحالة الجمع بينهما‏.

بالنسبة له الطبخ الإيراني بتوابله وروائحه هي ما تبقي من الذاكرة‏,‏ بل إنه الذاكرة والحنين ورائحة الأحبة معا‏,‏ هذا هو الذي يربطه بشيراز التي اضطر لتركها‏,‏ ولكنه لم يفارقها بوجدانه أبدا‏ً.‏
وقد كان ذلك سببا في حرمانه من استثمار موهبته في الطبخ في المطاعم الإيطالية‏,‏ ونزوله كل مرة يتوسّط له اميديو عند اصدقائه من مرتبة الطاهر الماهر الي المرمطون قبل الاستغناء عنه‏,‏ ويأتي راو ثالث هو البنغالي إقبال أمير الله ليرقب هذه العلاقة قائلا‏:‏

عندما أري السنيور أميديو مع صديقه الإيراني في بار دانديني أشعر بالغبطة والارتياح‏,‏ أقول في نفسي‏:‏ ما أجمل أن تري المسيحي والمسلم كأخوة‏,‏ لا فرق بين عيسي ومحمد‏,‏ ولا فرق بين الإنجيل والقرآن‏,‏ إقامتي الطويلة في روما تسمح لي بالتمييز بين الإيطالي العنصري والإيطالي المتسامح‏,‏ الأول لا يبتسم ولا يرد علي تحيتي إذا قلت له تشاو أو بوناسيرا يتجاهلني كأني غير موجود‏,‏ بل يتمني من أعماق قلبه أن أتحول إلي حشرة قذرة كي يسحقني بقدميه بلا رحمة‏,‏ ولا يقتصر هذا الإحساس العنصري بالتمييز بين أبناء الأمم والثقافات والديانات المختلفة‏,‏ بل ينهش أيضا نفوس بعض الذين ينتمون الي وطن وثقافة واحدة‏,‏ فهذا مثلا انطونيو مارين استاذ الجامعة الذي قدم من ميلانو شمال إيطاليا يحتقر البوابة النابوليتانية‏,‏ ويري أهل روما كسالي يعيشون من خيرات السياحة باستغلال الآثار الرومانية والكنائس والمتاحف والشمس التي تسحر سياح أوروبا الشمالية‏,‏ أهل روما يفتخرون بعيوبهم ولا يجدون حرجا في التعبير عن الإعجاب بالمرأة التي تخون زوجها أو بالشخص الذي يتهرب من الضرائب‏,‏ وبالمنحرف الذي يركب الأتوبيس بلا تذكرة‏..‏ أليست الذئبة هي رمز روما أنا لا أثق بأبناء الذئبة لأنهم حيوانات متوحشة‏,‏ إن الحيلة الخبيثة هي وسيلتهم المفضلة استغلال عرق الآخرين وربما يندرج هذا المنظور في صراع الشمال والجنوب علي جميع المستويات‏.‏


مشكلة الهوية


لكن الراوي الذي يمثل بؤرة الوعي وصوت الضمير ومحرك الأحداث‏,‏ ويظل علي مدي الرواية كلها مناط التشويق والترقب حتي نفاجأ بحقيقة هويته‏,‏ وتكشف مصيره الغامض في النهاية هو أميديو الذي يتساءل‏:‏ هل هناك مجتمع إيطالي حقا يسمح للمهاجرين بالانخراط في صفوفه‏,‏ أنا لا يهمني الاندماج في الوقت الحالي‏,‏ ما يهمني حقا هو أن أرضع من الذئبة دون أن تعضني‏,‏ وأن أمارس هوايتي المفضلة وليست هذه الهواية سواء مساعدة الآخرين‏,‏ أما الحليب الذي يرضعه فهو اللغة الإيطالية‏,‏ وسرعان ما نكشف قبيل نهاية الرواية أنه مثل الكاتب جزائري الأصل‏,‏ وأن اسمه الحقيقي أحمد‏,‏ وأن محنته بدأت عندما ماتت خطيبته بهجة ذات يوم ذهبت إلي بوفاريك لتزور أختها‏,‏ في طريق عودتها أوقف الإرهابيون الحافلة في حاجز مزيف‏,‏ وأقدموا علي ذبح كل المسافرين ماعدا الفتيات‏,‏ حاولت بهجة الهروب من قبضة المجرمين والنجاة من الاغتصاب فأطلقوا عليها وابلا من الرصاص‏.‏
لم يقبل أحمد بالأمر الواقع فقبع في منزله حتي اختفي وغاب عن الأنظار هاجر إلي روما ولم يغير اسمه عامدا بل كانت ضرورات النطق بالإيطالية هي التي فرضت هذه الصيغة‏,‏ حاول نسيان كوابيسه‏,‏ وعاش حياة رسولية يؤمن بالتسامح والمحبة ويكرس عمره لخدمة المهاجرين الآخرين‏,‏ ولأنه كان مترجما محترفا أتقن الإيطالية أفضل من أهلها حتي لم يتسرب إلي أحد الشك في هويته‏,‏ ومن هنا ظل التساؤل منذ بداية الرواية ـ عندما عثر علي جثمان المدعو الجلاد ياتور في مصعد العمارة‏,‏ واختفي أحمد في نفس اليوم واكتشفت الشرطة أنه مهاجر وليس إيطالي الجنسية فاتهمته بالقتل‏,‏ ظل تساؤل جميع سكان العمارة عن حقيقة القاتل‏,‏ واستحالة أن يكون هو اميديو عصا تلهب التشويق والتأمل لدي القارئ‏,‏ حتي تتبين إصابته في حادث وتتكشف براءته فتنجلي حقيقة هذا الرضيع الذي عرف كيف ينعم بحليب الذئبة دون أن تعضه ويقدم نموذجا بديعا للقيم النبيلة

المستشار
01-12-2011, 11:38 AM
لوحات متعددة الألوان من مسرح الحياة .
مزج بديع يصور إشكالات العلاقة بين البشر , غربه وشرقه و شماله وجنوبه بل بين أبناء البلد الواحد .
مشكلة التعايش , ومشاكل الهجرة , والغربة , وإشكاليات الإندماج , كلها نجدها في التلخيص الرائع من منى لهذه القصة .

القيصر
01-16-2011, 10:50 PM
فتنجلي حقيقة هذا الرضيع الذي عرف كيف ينعم بحليب الذئبة دون أن تعضه ويقدم نموذجا بديعا للقيم النبيلة

الاخت منى مقالة معبرة وتنم عن احساس عال بما يجري في دار الغربة.
شكرا لك ام محمد.

أيهم المحمد
01-29-2011, 12:10 PM
سرحنا مع ما نقلته السيدة منى في غير محل

المهاجرين ومشاكلهم ومعاناتهم ، و صعوبة حمل القيم و المبادىء في المجتمعات البديلة

مواقف لا يحسدون عليها بكلّ صراحة

المهاجرون أولئك أشبه بتلك الأعضاء البشرية التي تزرع بأجساد جديدة من رفض نسيجي و تنافر زمر و لا أعرف بحقّ كيف هي قادرة على التأقلم و العمل