المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية (( الأصابع المتحركة )) لأجاثا كريستي ...


القيصر
04-24-2010, 10:55 PM
رواية (( الأصابع المتحركة )) لأجاثا كريستي ...


ملخص للرواية ...
بدت قرية (( لايمستوك )) المكان الأمثل لاستجمامه بعد تعرضه لحادث تحطم مروع , أو هكذا ظن جيري بيرتون عندما استأجر بيتاً هناك ليقيم فيه هو وشقيقته جوانا . لكنهما سرعان ما اكتشفا أن هناك الكثير من الأحداث المتلاحقة والخطيرة الكامنة تحت المياه الراكدة . فثمة قلم مسموم يكتب خطابات عادة ما كانت مدعاة للسخرية ومثيرة للاشمئزاز , حتى جاء ذلك اليوم ـ حيث أصاب السهم هدفه وكان الموت هو النتيجة . فمن ذا الذي فعلها في تلك القرية الصغيرة المسالمة ؟


الفصل الأول
1

فك الأطباء الجـص عـنـي أخـيـراً , ونـظـروا إلـي بـشـفـقـة , وحـاولـت الممرضات استدراجي إلى تحريك أطرافي بحذر , وقد ضايقني حديثهن معي كما لو كـنت طفلاً رضيعاً , وقال ماركوس إنني يجب أن أعيش في الريف .
هواء نظيف , حياة هادئة , الامتناع عن فعل أي شيء ـ هذا هو علاجك . وسوف تعتني بك أختك , فكل ما عليك هو أن تأكل وتنام وتقلد مملكة النباتات قدر الإمكان.
لم أسأله ما إذا كنت سأستطيع الطيران مرة أخرى أم لا . فهناك أسئلة يخشى المرء من طرحها خوفاً من الإجابة . لذلك , لم أسأله في الأشهر الخمسة الأخيرة ما إذا كان قد حُكم علي أن أعيش طريح الفراش للأبد . كنت خائفاً من عبارات الطمأنينة البراقة التي تفوح منها رائحة النفاق كقول الممرضة لي : " ما هذا السؤال الذي تطرحه ؟ إننا لا نسمح لمرضانا بالتحدث بهذه الطريقة أبداً ! "
لذا , لم أسأل ـ وسارت الأمور على ما يرام . فلم يكن مقدراً لي أن أظل عاجزاً إلى الأبد . حيث أستطيع تحريك ساقيّ , والوقوف عليهما , وأخيراً أستطيع المشي لبضع خطوات ـ وإن كنت أشعر بأنني طفل مغامر يتعلم المشي , بركبتين مرتعشتين ولفائف من القطن والصوف تلتف حول قدمي ـ حسناً , إن هذا مجرد ضعف سرعان ما سيزول . وقد أجاب الدكتور ماركوس كِنت ـ وهو طبيب قدير ـ عما أطرحه من أسئلة .
قال : " سوف تتعافى تماماً . لم نكن متأكدين من ذلك حتى الثلاثاء الماضي عندما أجرينا لك ذلك الفحص , ولكن بوسعي إخباري بذلك الآن وأنا مطمئن ـ غير أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً . ستكون رحلة طويلة , وإن جاز لي القول , فستكون شاقة بعض الشيء . فعندما يتعلق الأمر بشفاء الأعصاب والعضلات , فيجب أن يقوم العقل بمساعدة الجسم . وأي استعجال سوف يتسبب في انتكاسة , وأياً ما كنت تمارسه من قبل , فعليك التوقف عنه الآن , حاول أن تساعد نفسك على الشفاء بسرعة . إذا فعلت أي شيء من هذا القبيل , ستعود إلى دار الرعاية مجدداً . يجب عليك مراعاة البطء والتمهل . فليس جسدك وحده هو الذي يحتاج إلى شفاء , بل إن أعصابك أيضاً أصابها الضعف نتيجة لإخضاعك للأدوية لفترة من الزمن .
لذا , أنصحك بالعيش في الريف , استأجر منزلاً , واهتم بالسياسة المحلية , وبالفضائح المحلية , وبالقيل والقال في القرية , اهتم بجيرانك بشكل فضولي , وإذا كان لي أن أقترح اقتراحاً , فاذهب إلى جزء من العالم ليس لك فيه أصدقاء . "
أومأت برأسي قائلاً : " هذا ما فكرت فيه بالفعل . "
لا أعتقد أن ثمة شيئاً أفضع من زيارات الأصدقاء والأقارب , وإبداء تعاطفهم , والتحدث عن شؤونهم الشخصية .
سيقولون : " ولكن جيري يبدو رائعاً ـ أليس كذلك ؟ يجب أن أخبرك يا صديقي ـ خمن ما الذي فعله باستر ؟ "
كلا , لا أريد شيئاً كهذا يحدث معي . إن الكلاب تتمتع بالحكمة , فهي تنزوي بعيداً في أحد الأركان الهادئة وتلعق جراحها , ولا تعود للعالم من حولها حتى تبرأ تماماً مرة أخرى .
لذا فقد قمت أنا وجوانا ـ بـعـد طـول بحث من خلال وكلاء العقارات في جميع أنحاء بريطانيا ـ باختيار " ليتـل فـيـرز " بقريـة لايـمـسـتـوك , كأحد المنازل التـي يـمـكـن رؤيتها . وخاصة أننا لم نذهب إلى لايمستوك أبداً ولا نعرف أي أحد هناك .
وعندما رأت جوانا ليتل فيرز قررت أنه المنزل الذي نبحث عنه .
إنه يقع على نصف ميل تقريباً عن لايمستوك على الطريق المؤدي إلى المستنقعات . وهو منزل أنيق أبيض غير مرتفع , به شرفة على الطراز الفيكتوري , بلون أخضر باهت , ويطل على منحدر مغطى بنبات الخلج .
ويمتلك البيت أسرة تتكون من سيدات عوانس , من عائلة بارتون , واللاتي لم يبق منهن إلا واحدة فقط , وهي أصغرهن , الآنسة إيميلي بارتون .
كانت الآنسة إيميلي سيدة ضئيلة الجسم , كبيرة السن وكانت تتناغم مع منزلها بشكل غريب . شرحت لجوانا بصوت ناعم وبه رنة أسف أنها لم تترك المنزل من قبل , ولم تفكر في ذلك أصلاً . قالت : " ولكنك ترين يا عزيزتي , فإن الظروف قد تغيرت هذه الأيام ـ الضرائب . بالطبع , وهناك أسهمي الآمنة , كما كنت أتخيل دائما , والتي قد أوصاني مدير البنك نفسه بشرائها , ولكن يبدو أنها لا تدر عائداً هذه الأيام ـ ما أقوله لا علاقة له بموضوعنا , بالطبع ! صارت الأمور صعبة جداً . إن المرء لا يحب فكرة ترك المرء لبيته للغرباء ـ ولكن يجب فعل شيء ما , وبعدما رأيتكما , فإنني سعيدة بوجودكما هنا ـ إن المنزل بحاجة لوجود شباب . ويجب أن أعترف بأنني أتجنب فكرة وجود رجال هنا ! "
عند هذه النقطة , كان على جوانا أن تخبرها بحالتي .وكان رد فعل الآنسة إيميلي رقيقاً .
" أوه يا عزيزتي , لقد فهمت . حادث طيران ؟ إن هؤلاء الشباب يتمتعون بقدر هائل من الشجاعة .ولكن هل سيبقى شقيقك عاجز عملياً ؟ "
يبدو أن الفكرة هدأت السيدة الرقيقة . فمن الواضح أنني لن أستطيع ممارسة تلك الأنشطة الذكورية التي تخشاها إيميلي بارتون وسألَت باستيحاء عما إذا كنت أدخن .
أجابتها جوانا : " كالمدخنة . " ثم أوضحت قائلة : " ولكنني أنا أيضاً أدخن . "
" بالطبع , بالطبع , يا لغبائي . أخشى أنني لم أتغير مع الزمن . فقد كانت شقيقاتي أكبر مني سناً , وقد عاشت أمي العزيزة حتى وصلت التاسعة والسبعون ـ تخيلوا ـ وكانت صارمة إلى أبعد الحدود . نعم , نعم , إن الجميع يدخنون هنا بَيد أنه لا توجد منفضة للتدخين في هذا البيت . "
قالت جوانا أننا سوف نحضر الكثير منها , وأضافت ابتسامة : " لن نقوم بإطفاء السجائر في الأثاث الفخم .لا شيء يضايقني بقدر رؤية بعض الناس يفعلون ذلك . "
وهكذا تمت تسوية الأمر واستأجرنا ليتل فيرز لستة أشهر , مع إمكانية مدها لثلاة أشهر أخرى , وأوضحت إيميلي بارتون أنها تشعر بالراحة لأنها ستقيم عند خادمتنا العجوز المخلصة فلورنسا , والتي توجت بعد أن قضت معنا خمسة عشر عاماً . قالت إيميلي : " إنها فتاة لطيفة , وزوجها يعمل في مجال العقارات . إن لديهما منزل جميل في منزل هاي ستريت وحجرتين جميلتين بالطابق العلوي , حيث سأكون أكثر راحة هناك , وستسر فلورنسا بوجودي معها . "
إذاً , يبدو أن كل شيء يسير على ما يرام , فقد تم توقيع العقد , ووصلنا أنا وجوانا في الوقت المناسب , ورحبت بارتريدج ـ خادمة إيميلي بارتون ـ بفكرة بقائها معنا . كما يتم الاعتناء بشؤونها بفضل " فتاة " كانت تأتي كل صباح والتي كان ذكاؤها محدوداً ولكنها لطيفة .
كانت بارتريدج سيدة في منتصف العمر نحيلة وقاسية الملامح ـ تجيد الطهي , وعلى الرغم من رفضها تأخير موعد العشاء ( كان من عادة إيميلي أن تتناول عشاء خفيفاً يتكون من بيض مسلوق ) إلا أنها كيفت نفسها على أسلوبنا , حتى أنها اعترفت بأنني يجب أن أستعيد قوتي ...
بعدما استقر بنا الحال وأقمنا في ليتل فيرز أسبوعاً , جاءت الآنسة إيميلي بارتون وتركت بعض البطاقات , وهكذا فعلت السيدة سيمنجتون . زوجة المحامي , والآنسة جريفيث , أخت الطبيب , والسيد باي " رئيس برايرز إند " .
لقد ترك ذلك انطباعاً جميلاً في نفس جوانا .
قالت جوانا بصوت يعبر عن انبهارها : " لك أكن أن هؤلاء الناس مهووسون فعلاً ـ بالبطاقات . "
قلت : " هذا يا عزيزتي لأنك لا تعرفين شيئاً عن الريف . "
" هراء . لقد قضيت من عطلات نهاية الأسبوع في الريف . "
إنني أكبر من جوانا بخمس سنوات , وأتذكر ذلك البيت المطلي باللون الأبيض الباهت , وغير المتهالك والمنظم الذي كنا نعيش فيه أيام طفولتي , حيث كانت تمتد الحقول حتى النهر . وبوسعي تذكر قيامي بالزحف تحت أشجار التوت دون أن يراني البستاني , ورائحة التراب الأبيض في الإسطبل , وقطة برتقالية تعبره , وسماع صوت حوافر الحصان وهي تضرب الأرض في الإسطبل .
ولكن عندما بلغت السابعة وكانت جوانا في الثانية, ذهبنا للعيش في لندن مع عمتي, ومنذ ذلك الحين ونحن نقضي جميع العطلات و الأعياد في دور السينما والمسرح, حيث كنا نخرج للتنزه في حديقة كنجستون جاردنز ونركب القوارب , ثم مؤخراً أصبحنا نمارس رياضة التزلج . وفي شهر أغسطس كنا نحجز غرفة في أحد الفنادق المطلة على البحر .
وبينما كنت أشرد بذهني هكذا , قلت لجوانا متأملاً , وبإحساس من وخر الضمير وبعد أن أدركت كم أصبحت عاجزاً وأنانياً في نفس الوقت .
" أنا آسف , سيكون ذلك فضيعاً بالنسبة لك . سوف تفتقدين كل شيء . "
قلت ذلك لأن جوانا جميلة جداً ومليئة بالحيوية , وتحب الرقص والحفلات وقيادة السيارات بسرعة جنونية .
ضحكت جوانا وقالت أنها لا تبالي بذلك إطلاقاً .
" في الحقيقة , أنا سعيدة بالابتعاد عن ذلك كله . فقد مللت من الزحام , وعلى الرغم من أنك لن تبدي تعاطفك , فقد تأثرت كثيراً لفراق باول , وسيستغرق الأمر مني وقتاً طويلاً حتى أتناساه يا جيري . "
كنت أشك في هذا , فقصص الحب الخاصة بجوانا دائماً ما تسير على هذا النحو . فهي تفتتن بشاب ضعيف الشخصية , وتعتقد أنه عبقري لا يستطيع الناس فهمه , وتنصت إلى شكواه التي لا تنتهي وتفعل أي شيء لتحوز تقديره , وعندما يجحد مجهوداتها , فإنها تتأثر بشدة وتقول أن قلبها قد جرح ـ حتى يأتي شاب آخر , وعادة ما يأتي بعد ثلاثة أسابيع !
لذا لم آخذ مسألة جرح قلب جوانا على محمل الجد . ولكن بدا لي أن العيش في الريف لعبة جديدة لشقيقتي الجذابة .
قالت : " على كل حال , فإن مظهري جيد , أليس كذلك ؟ "
تفحصتها بنظرة كلها نقد ولم أستطع الاتفاق معها .
كانت جوانا ترتدي ملابس رياضية , كانت ترتدي تنورة قصيرة وضيقة , وعلى نصفها العلوي كانت ترتدي قميصاً قصيراً يدعو للسخرية . كانت تلبس جوربين من الحرير الشفاف , وحذاء لا غبار عليه , وكله يعد من علامات الموضة .
قلت : " كلا , إن مظهرك ليس مناسباً على الإطلاق , بل وبه الكثير من الأخطاء , ينبغي أن ترتدي تنورة ذات لون أخضر أو بني باهت , وحري بك ارتداك سترة من الكشمير تناسبها , وربما معطف صوفي , ويمكنك أن تلبسي قبعة من اللباد وجوربين من قماش سميك وحذاء قديم . فقط , عندئذ , يمكنك السير عبر شارع هاي ستريت بلايمستوك دون أن تبدي شاذة عن الآخرين كما أنت الآن.وبالمناسبة , فإن وجهك كله أخطاء أيضاً . "
" ما الخطأ فيه ؟ لقد وضعت مساحيق من الدرجة الثانية تناسب الريف . "
" نعم , إذا أردت العيش في لايمستوك , فلا تضعي إلا القليل من المساحيق حتى لا تلفتي النظر إلى أنفك , وربما يجب عليك وضع القليل من أحمر الشفاه ـ مع عدم توخي الدقة الشديدة ـ وعليك وضع كل رموشك تقريباً بدلاً من ربعها . "
صاحت جوانا وبدت أنها وجدت المزيد من ضروب التسلية .
قالت : " أتعتقد أنهم سيضنونني فظيعة ؟ "
قلت : " كلا , بل شاذة . "
استأنفت جوانا قراءتها للبطاقات التي تركها زوارنا . زوجة رجل الدين هي الوحيدة التي أسعدها , أو ربما ساءها الحظ بأن تستضيف جوانا في منزلها .
تمتمت جوانا قائلة : " تبدو الأسر هنا سعيدة , أليس كذلك ؟ فهذه زوجة محامٍ , وتلك أخت طبيب ... الخ " ثم أضافت بحماس : " أعتقد أن هذا المكان لطيف يا جيري ! عالم قديم جميل جداً . لا يمكنك التفكير بأن شيئاً شريراً سيحدث هنا , أليس كذلك ؟ "
وعلى الرغم من أنني أعرف أن ما تقوله محض هراء , إلا أنني وافقتها الرأي . ففي مكان مثل لايمستوك لا يمكن أن يحدث شيء شرير , والغريب أننا تلقينا أولى خطاباتنا بعد أسبوع واحد فقط .
2
أعرف أنني بدأت بشكل سيء , فلم أعط وصفاً لقرية لايمستوك , وبدون فهم أوصاف لايمستوك لا يمكن فهم قصتي .
بادئ ذي بدء , فإن لايمستوك لها جذور ضاربة في الماضي . ففي أيام الغزو النورماندي , كانت لايمستوك على قدر كبير من الأهمية , وتنبع أهميتها من كونها مركزاً دينياً حينذاك . فقد كان في لايمستوك دير للرهبان وتعاقب عليه الكثير من الرهبان الطموحين وذي النفوذ . وكان اللوردات والبارونات الذين يعيشون في الريف المحيط به يتركون جزءاً من أراضيهم تحت تصرف الدير . وازداد ثراء وأهمية الدير واكتسب نفوذاً لقرون عدة . بيد أنه بمرور الزمن قام هنري الثامن بإلغاء كل تلك الامتيازات ولحق بالدير ما لحق بأقرانه . ومنذ ذلك الحين هيمنت قلعة البلدة . كانت لا تزال مهمة وآلت لها الحقوق والميزات والثروات .
وثم , في حوالي القرن الثامن عشر , جاء المد التقدمي ليطيح بنفوذ لايمستوك ويتركها في غياهب التخلف . حيث انهارت القلعة , ولم يتم إنشاء شوارع رئيسية ولا سكك حديدية بالقرب من لايمستوك , التي تحولت إلى سوق محلي غير ذي أهمية تمتد بها المستنقعات والمزارع وتحيط بها الحقول الهادئة .
كان يقام بها سوق مرة كل أسبوع , وفي ذلك اليوم يصادف المرء قطعان الماشية في الأزقة والطرقات . وكا يقام بها سباق للخيل مرتين في السنة لا يتبارى فيه إلا الخيول الضعيفة .
وكان بها شارع رئيسي خلاب , تصطف على جانبيه المنازل التي تقف بشموخ , والتي كانت تبدو غريبة بعض الشيء بنوافذها المتواجدة في الطابق الأرضي والتي كان دائماً ما يوجد عليها الفطائر أو الفاكهة أو الخضروات . وكان بالشارع أيضاً متجر ضخم لتجارة الألبسة والجوخ يمتد على نحو مستق مع الشارع , وهناك أيضاً تجد متجراً هائلاً للحدادة , ومكتباً للبريد له أهمية في هذا المكان .
وكذلك هناك في ذات الشارع مجموعة من المتاجر والمحال المتنوعة , فهناك متجران يتنافسان لبيع اللحوم , وكان بالشارع لافتة لعيادة طبيب ومؤسسة قانونية يديرها السيدان جالبرث والسيد سيمنجتون , وكان بالشارع أيضاً إحدى دور العبادة والتي يرجع تاريخها إلى عام 1420 م , ولا يزال يفوح منها رائحة العصر الساكسوني . وهناك أيضاً مدرسة أنشئت حديثاً وحانتين .
هذه هي لايمستوك , وبدافع إيميلي بارتون , حضر جميع من في البلدة لكي يتعرفوا علينا , ومن أجل هذا اضطرت جوانا لأن تبتاع زوجاً من القفازات وقلنسوة مخملية , بدلاً من ملابسها التي تفتقر إلى الذوق , حتى تتمكن من رد زيارتهم .
بالنسبة لنا كان كل شيئاً جديداً ومسلياً , فنحن لم نذهب إلى هناك للإقامة الدائمة . لقد كانت بالنسبة لنا شيئاً مؤقتاً . وقد استعددت لإطاعة تعليمات طبيبي والاتهمام بجيراني .
لقد وجدت أنا وأختي جوانا الأمر ممتعاً للغاية .
أعتقد أنني تذكرت تعليمات ماركوس كِنت بالاستمتاع بالفضائح المحلية . بالقطع كنت أشك في كيفية معرفتي بهذه الفضائح .
والشيء الغريب أن مجيء ذلك الخطاب كان ممتعاً ومسلياً لنا أكثر من أي شيء .
أذكر أنه وصل بينما نحن نتناول الإفطار . قلبته في يدي , بتلك الطريقة الكسولة التي يتبعها المرء عندما يمر الوقت ببطء ويجب الغوص في كل حدث حتى نهايته . لقد كان مرسلاً من داخل البلدة وقد كتب عنوانه على آلة كاتبة .
فتحته قبل الخطابين الآخرين اللذان يحملان طوابع بريد لندن , حيث إن أحدهم كان يحوي فاتورة والآخر كان من أحد أبناء عمومتي المضجرين .
وبداخله كانت هناك كلمات و حروف مطبوعة , وقد لصقت على ورقة بيضاء . أخذت أحدق لدقيقة أو دقيقتين إلى الكلمات دون أن أستوعبها , ثم شهقت .
نظرت إلي جوانا , التي كانت تطالع بعض الفواتير مقطبة جبينها .
وقالت : " مرحباً , ما هذا ؟ تبدو مروعاً . "
لقد عبر الخطاب , الذي يستخدم مصطلحات بذيئة , عن رأي الكاتب بأنني أنا وجوانا لسنا أخوين .
قلت لجوانا : " إنه خطاب قذر من مجهول . "
كنت لا أزال أعاني من آثار الصدمة . فلم أتوقع مثل ذلك الشيء في منطقة هادئة مثل لايمستوك .
وفجأة , أبدت جوانا اهتمامها , وقالت : " حقاً ؟ ماذا يقول ؟ "
كنت قد قرأت في الروايات أن الخطابات البذيئة والمثيرة للاشمئزاز لا ينبغي أن تطلع عليها النساء , ما أمكن ذلك . حيث يجب تجنيب المرأة الصدمة التي قد يتعرض لها الجهاز العصبي الحساس .
ويؤسفني القول إنه لم يتراء لي أن أُطلع جوانا على الخطاب , لذا سلمته لها فوراً .
قالت : " يا له من خطاب قذر ! لقد سمعت كثيراً عن الخطابات المجهولة , لكنني لم يسبق لي أن رأيت أحدها . هل هي دائماً هكذا ؟ "
قلت : " لا أستطيع الجزم بذلك . فهذه أول مرة أشاهد فيها خطاباً مثل هذا . "
شرعت جوانا في الضحك .
" لابد أنك كنت محقاً فيما يخص مساحيق التجميل التي كنت أضعها يا جيري . أعتقد أنهم يحسبونني فتاة هاربة من أهلها . "
قلت : " إضافة إلى حقيقة أن ابانا كان رجلاً طويلاً ذا فكين طويلين أسودين وأمنا كانت امرأة شقراء الشعر زرقاء العينين قصيرة القامة , وقد ورثت أنا صفات أبي , أما أنت فقد ورثت صفات أمي . "
أومأت جوانا برأسها مفكرة .
" نعم , نحن لسنا متشابهين إلى حد ما , ولن يظن المرء أننا أخوان . "
قلت : " لابد أن أحدهم لاحظ ذلك . "
قالت جوانا إنها تعتقد أن الأمر ممتع .
أمسكت الخطاب من إحدى زواياه وتركته يتدلى , ثم سألتني عما ينبغي فعله به .
قلت: " أعتقد أن الإجراء الصحيح هو إلقاءه في النار مع إطلاق صيحة اشمئزاز ."
نفذت ما قلته عملياً , وصفقت جوانا بيديها .
أضافت : " لقد فعلتها بشكل جميل , كان ينبغي أن تكون ممثلاً . من حسن حظنا أن النار متقدة , أليس كذلك ؟ "
وافقتها , قائلاً : " عندئذ كانت سلة المهملات ستصبح حلاً أقل إثارة . كان بوسعي بالطبع أن أشعله بعود ثقاب وأستمتع به وهو يحترق ببطء . "
قالت جوانا : " إن الأشياء لا تحترق عندما تريدها أن تحترق , بل إنها تسلم من النيران , وربما كان عليك إشعال عود ثقاب بعد آخر . "
نهضت واتجهت نحو النافذة , وعندما وصلت إلى هناك التفتت فجأة , وقالت : " إنني أتساءل , من الذي قام بكتابته ؟ "
قلت : " لن نعرف أبداً على الأرجح . "
" نعم ـ لا أعتقد أننا قد نتمكن من ذلك . " صمتت لبرهة , ثم قالت : " يراودني إحساس أحياناً بأن الأمر ليس ممتعاً . أتعلم ؟ لقد حسبت ـ حسبت أنهم أحبونا هنا ."
أظن ذلك ؟ أوه ـ إنه عمل شرير ! "
عندما خرجت لتستمتع بالشمس المشرقة , فكرت بيني وبين نفسي أثناء تدخيني لسيجارتي بأنها كانت محقة تماماً . إنه عمل شرير . لقد استاء أحدهم من مجيئنا إلى هنا , وكان مستاءً من جمال جوانا الخاطف , لقد أراد إيذاءنا . ربما كانت مقابلة مثل هذا الأمر بالضحك أفضل طريقة ـ ولكن في أعماق نفوسنا لم يكن ممتعاً أبداً...
جاء الدكتور جريفيث هذا الصباح . لقد اتفقت معه على إجراء فحص أسبوعي . وقد أحببت أوين جريفيث , لقد كان ذا بشرة سمراء , ضئيل الجسم . يتحرك في رشاقة وخفة , ويداه ماهرتان في الفحص , وكان يتلعثم في حديثه قليلاً , وكان خجولاً إلى حد كبير .
أشار إلى تقدمي في العلاج كي يشجعني , ثم قال : " إنك تشعر بالتحسن , أليس كذلك ؟ يبدو أنك متعكر المزاج هذا الصباح , أم هذا وهم مني ؟ "
قلت : " فعلاً , لقد تسلمت هذا الصباح خطاباً بذيئاً من مجهول , وقد شعرت ببعض الضيق والمرارة بعد قراءته . "
ألقى حقيبته على الأرض , واعترى وجهه النحيف الأسمر شعور بالإثارة .
" هل تعني أنك تسلمت واحداً منها ؟ "
شعرت بالاهتمام والإثارة . فقلت : " فإنه أمر شائع إذاً ؟ "
" منذ فترة من الوقت . "
قلت: " أوه , فهمت . لقد حسبت أن وجودنا في هذا المكان أمر غير مرغوب فيه ."
" كلا , كلا , الأمر لا علاقة له بذلك . إنه مجرد ـ " توقف عن الكلام ثم سألني : " ماذا كان محتوى الخطاب ؟ على الأقل ـ " احمر وجهه وشعر بالحرج : " ربما لم يكن لي أن أسأل مثل هذا السؤال . "
قلت : " سأخبرك بكل سرور , بقد قال إن الفتاة التي أحضرتها معي ليست أختي ـ ويمكنني القول بأن هذا ملخصاً لمحتوى الخطاب بعد تنقيحه من البذاءات . "
احمر وجهه غضباً. وقال : " اللعنة , لعل أختك ـ إنها ليست مستاءة, أليس كذلك ؟"
قلت : " إن جوانا تبدو كملاك طاهر , ولكنها فتاة عصرية وصلبة جداً . لقد وجدِت أن الأمر مسلٍ للغاية . فهي لم تصادف مثل هذه الأشياء من قبل . "
قال جريفيث بحرارة : " أتمنى لو لم تصادفها في الحقيقة . "
قلت بحزم : " على أية حال , فإن هذا هو الأسلوب الأنسب لمواجهة مثل هذه السخافات على ما أعتقد . "
قال أوين جريفيث : " نعم , لكن ــ "
توقف عن الحديث , فسارعت قائلاً : " ولكن ماذا , ماذا تقصد ؟ "
قال : " المشكلة أن مثل هذه الأفعال إذا ما بدأت, فإنها تتفشى وتنتشر بشكل كبير ."
" علي أن أتوقع هذا . "
" إنها حالة مرضية بالطبع . "
أومأت برأسي ثم سألته : " ولكن هل من ثمة فكرة عمن يكون وراء إرسال مثل هذه الخطابات ؟ "
قال : " ليتني كنت أعرف . أتدري إن الخطابات المجهولة نوعان ؟ إما أنها خاصة, أي إنها موجهة لشخص بعينه , أو مجموعة من الأشخاص , أي تستطيع أن تقول إن هناك دافعاً لذلك , حيث إن الشخص الذي يرسل الرسائل يحمل ضغينة ( أو يعتقد أنه كذلك ) ضد أحد الأشخاص , ثم يختار أسلوباً قذراً ومنحطاً ليعبر عن كراهيته , إنه أسلوب دنيء , ويثير الاشمئزاز ولكنه لا ينم عن جنون صاحبه , وفي تلك الحالة يكون من السهل معرفة ما وراء الخطاب المرسل ــ خادمة تم طردها ــ امرأة غيورة ــ وهكذا . ولكن إذا كانت عامة وليست خاصة , فإنها تمسي أكثر خطورة . حيث ترسل الخطابات دونما تفرقة وبطريقة عشوائية , وتؤدي الغرض بالتنفيس عن إحباط ما في ذهن الكاتب . وكما قلت فإنه أمر مرضي . وتزداد إصابة الشخص بالجنون . وفي النهاية تتعقب الشخص محل الشبهة ــ غالباً ما يكون شخصاً مكروهاً من الجميع , وهذا كل ما في الأمر . لقد حدث شيء مثل هذا على الجانب الآخر من المقاطعة في العام الماضي ــ وتبين أن رئيسة قسم القبعات بمؤسسة كبيرة للملابس هي من تقف وراء ذلك . كانت امرأة رقيقة جداً ــ عملت هناك لسنوات . أذكر أن ذلك حصل في آخر سنة لي هناك عندما كنت أقضي فترة التكليف ــ ولكن تبين أن ضغينة شخصية هي السبب . وكما أقول فإنني رأيت شيئاً من هذا القبيل , وبصراحة فإنه يخيفني ! "
سألته : " هل يحدث ذلك منذ فترة طويلة ؟ "
" لا أعتقد , وإن كان يصعب الجزم بذلك , بالطبع , لأن من يتلقون هذه الرسائل لا يعلنون عنها , وإنما يكتفون بإحراقها ... " توقف للحظة . ثم أكمل : " لقد تلقيت واحدة منها , كما أن سيمنجتون , المحامي , تلقى واحدة , وكذلك اثنان من مرضاي المساكين أخبراني بتلقيهما رسائل من هذا النوع . "
" كلها من نفس العينة ؟ "
" أوه , نعم , كلها تعزف على وتر الجنس . هذه هي الخاصية الرئيسية المشتركة بينها . " ثم ابتسم وأضاف : " لقد اتهم سيمنجتون بإقامة علاقة غير شرعية مع كاتبته ـ السيدة جنش المسكينة , التي تبلغ من العمر بضعة وأربعين عاماً تقريباً , وترتدي نظارة سميكة وأسنانها تشبه أسنان الأرنب . ولقد أخذ سيمنجتون الرسالة وتوجه بها إلى الشرطة . أما الرسائل التي تلقيتها أنا , فإنها تتهمني بانتهاك آداب المهنة مع مرضاي من النساء . لقد كتبت بأسلوب طفولي وسخيف , ولكنها سامة للغاية . " تغير وجهه , وبدت عليه أمارات الحزن وهو يقول : " ولكن مع ذلك أشعرب بالخوف , فهذه الأشياء يمكن أن تكون في غاية الخطورة , كما تعلم . "
" أعتقد ذلك . "
" لعلك ترى أنه على الرغم من تفاهة وسخافة هذه النكات , فإن إحدى هذه الرسائل ستصيب الهدف عاجلاً أو آجلاً . والله وحده يعلم ما سيحصل حينذاك ! إنني خائف أيضاً من تأثيرها على أصحاب العقول الضعيفة الشكاكة الخالية من الثقافة والعلم . فإذا ما رأى أحدهم شيئاً مكتوباً , فسوف يعتقد بصحته , وعندئذ قد تظهر كل أنواع العقد . "
قلت متأملاً : " إنها تنم عن جهل كاتبها , إذ يبدو لي أنه شخص أمي . "
قال أوين : " أهي كذلك فعلاً ؟ " ثم خرج ...
بينما كنت أفكر فيها فيما بعد وجدت أن عبارة " أهي كذلك فعلاً ؟ " محيرة لي ...
يتبع باذن الله.........

ابوعبدالله
04-25-2010, 02:40 AM
شوقتنا لبقية الأحداث لنعرف من صاحب الرساله المحروقه و ما كان يقصد باتهام الشقيقين
نحن بانتظار بقية الأحداث

القيصر
04-25-2010, 01:12 PM
الفصل الثاني

1
لن أدعي أن الرسالة التي وصلتنا خالية من التوقيع لم تترك طعماً مراً في الفم .فهذا هو ما حدث بالفعل ولكن في الوقت نفسه نسيت أمرها سريعاً , ولم آخذها حتى هذه النقطة على محمل الجد . وأعتقد أنني أتذكر ما كنت أقوله بأن هذه الأشياء تحدث كثيراً في القرى النائية . لابد أن امرأة مخبولة تريد تسلية نفسها هي التي تقف وراءها . على أية حال , ما دامت الرسائل هذه مكتوبة بأسلوب طفولي كمثل التي تلقيناها , فإنه لا ضرر منها على الإطلاق .
كانت الحادثة التالية ـ إذا جاز لي القول ـ بعد أسبوع , عندما أخبرتني بارتريدج وهي تزم على شفتيها أن بياترس , الخادمة اليومية , لن تأتي اليوم .
قالت بارتريدج : " أحسب يا سيدي أن الفتاة مستاءة . "
لم أكن متأكداً تماماً مما تعنيه بارتريدج بكلامها هذا , ولكني خمنت ( خطأ ) أن بياترس تعاني من بعض المتاعب في معدتها ولا تستطيع بارتريدج الإشارة إلى ذلك بشكل مباشر , لذا عبرت لها عن أسفي وتمنيت لها الشفاء العاجل .
قالت بارتريدج : " إن صحة الفتاة على ما يرام يا سيدي , إن مشاعرها هي المعتلة . "
قلت متشككاً : " أوه . "
واصلت بارتريدج قائلة : " بسبب رسالة تلقتها . وأحسب أنها تعرض بها . "
كانت نظرة الاشمئزاز في عيني بارتريدج , إضافة إلى تشديدها على كلمة
( تعرض ) قد جعلني أدرك أن ذلك التعريض له علاقة بي . وحيث إنني ما كنت لأميز بياترس بصعوبة لو قابلتها في البلدة , فإنني لم أدرك مغزى تشديدها على هذه الكلمة ـ فقد شعرت بأنه استياء غير مبرر . كما أن رجلاً يمشي على عكازين ليس من شأنه أن يفتن بنات القرية . لذا قلت بتوتر : " يا لهذه السخافات ! "
قالت بارتريدج : " هذا ما قلته بالحرف لأمها يا سيدي , فقد قالت لها : " لم ولن يحدث شيء من هذا القبيل في هذا المنزل ما دمت أنا المسؤولة عنه . " وبالنسبة لبياترس , فقد قلت لها : " إن الفتيات مختلفات هذا الزمان ولا أعرف شيئاً عما يحدث بالخارج . " , ولكن الحقيقة يا سيدي أن صديق بياترس الذي يعمل في المرآب قد تلقى رسائل شريرة أيضاً وهو لا يتصرف بحكمة على الإطلاق . "
قلت بغضب : " لم أسمع أبداً شيئاً بهذه الوقاحة . "
قالت : " في رأيي أن نتخلص من هذه الفتاة , فما كانت لتستاء هكذا بشدة , وتسلك هذا السلوك. لو لم يكن هناك شيء تخشى افتضاحه.لا دخان بدون نار.هذا قولي . "
لم يكن لدي فكرة عما ستسببه هذه الكلمة لي من متاعب .

2
اعتزمت هذا الصباح ـ على سبيل المغامرة ـ التجول عبر شوارع القرية . ( كنت أنا وجوانا نطلق عليها دائماً اسم القرية , وان كان اسما خاطئ علمياً , وكان من شأن سكان لايمستوك أن ينزعجوا إذا سمعونا نقول هذا ) .
كانت الشمس ساطعة , والهواء رائع تتخلله نسمات الربيع الحلوة . اتكأت على عكازي وبدأت السير رافضاً بحزم مراقة جوانا لي .
قلت : " كلا , لن أصطحب حارساً يسير الهويني بجواري ويمطرني بعبارات التشجيع , وتذكري أن الرجل الأسرع هو من يسير بمفرده . كما أن لدي الكثير من الأعمال التي أريد قضاءها , فسوف أذهب إلى جالبريث وسيمنجتون , وأوقع عقد تحويل الأسهم , وسوف أذهب إلى الخباز وأشكو له من رغيف الزبيب , ثم سأعيد ذلك الكتاب الذي استعرته . ويجب أن أذهب إلى البنك أيضاً . دعيني بمفردي يا جوانا , فهذا الصباح قصير جداً . "
اتفقنا على أن تصطحبني جوانا بالسيارة وتعود لتعيدني وقت الغداء .
قالت جوانا : " إن هذا سيتيح لك الفرصة لقضاء بعض الوقت في لايمستوك . "
قلت : " لا أشك في أنه كان ينبغي علي رؤية كل شخص ذي شأن منذ مجيئنا . "
كان الصباح في الشارع الرئيسي يعتبر مكاناً لتلاقي المولعين بالتسوق وتبادل الأخبار . وعلى أية حال , لم أسر دون صحبة , فما كدت أسير لمائتي ياردة حتى سمعت صوت جرس دراجة يرن خلفي , ثم صوت احتكاك , ثم ميجان هنتر وهي تسقط عند قدمي .
قالت : " مرحباً . " وهي تلهث بينما تنهض من على الأرض وتنفض عن نفسها التراب . لقد كنت أحب ميجان , وكنت أشعر بالأسف لما أصابها . كانت ابنة السيدة سيمنجتون من زوجها السابق . لم يتحدث أحد كثيراً عن السيد هنتر , وعلمت أنه كان يعتبر من الأفضل تناسيه . ويقال إنه كان يعامل السيدة سيمنجتون بشكل بالغ السوء . وقد طلقها بعد عام أو عامين من زواجهما . لقد كانت لديها مواردها المالية الخاصة وسكنت لايمستوك لكي تنسى , وفي النهاية تزوجت مـن الأعـزب الـوحـيـد المؤهل في القرية , ريتشارد سيمنجتون . وقد أثمر الزواج الثاني عن ولدين , وقد كرس والدهما نفسيهما لرعايتهما , وأعتقد بأن ميجان تشعر بأنها شاذة في هذه الأسرة , فهي لم تكن تشبه أمها , والتي كانت ضئيلة الحجم , وذات جمال باهت وتتحدث بصوت ضعيف تكسوه نبرة كآبة بسبب متاعب الخدم وصحتها المعتلة .

أما ميجان فكانت فتاة طويلة القامة , خجولة بعض الشيء . وعلى الرغم من أنها فعلية في العشرين من عمرها , فقد بدت مثل فتاة في السادسة عشر من عمرها لا تزال في المدرسة . كان شعرها البني غير مصفف أبداً , وعيناها ذات أخضر بندقي , وكان وجهها نحيفاً بارز العظام , وابتسامتها خلابة بشكل غير متوقع . وكانت ملابسها قذرة وغير جذابة , وتلبس عادة جوربين بهما ثقوب .
لقد بدت , كما تراءى لي هذا الصباح , أشبه بحصان أكثر منها إنسان . في الواقع , كان بإمكانها أن تكون حصاناً جميلاً جداً ببعض التهذيب .
وكعادتها كانت تتكلم باندفاع . قالت : " لقد كنت متوجهة إلى المزرعة ـ مزرعة لاشر كما تعلم ـ لأرى ما إذا كان لديهم بيض بط . فلديهم عدد كبير من الخراف الصغيرة الجميلة . إنها لطيفة ! هل تحب الخراف ؟ أنا أحبها , حتى إنني أحب رائحتها . "
قلت : " إن الخراف التي تتم رعايتها رعاية جيدة لا تكون رائحتها سيئة . "
" أليس كذلك ؟ إنها في كل مكان هنا . هل أنت ذاهب للبلدة ؟ لقد رأيتك وحدك , لذا فكرت في التوقف والسير معك , غير أنني توقفت فجأة . "
قلت " لقد مزقت جواربك . "
نظرت ميجان بحزن إلى رجلها اليمنى . ثم قالت : " نعم , ولكن كان به ثقوب بالفعل , لذا فإنه لا يهم كثيراً , أليس كذلك ؟ "
" هل أصلحت جواربك من قبل , ميجان ؟ "
" أحياناً , عندما تلاحظها أمي , ولكنها لا تهتم كثيراً بما أفعله ـ وهذا من حسن حظي , أليس كذلك ؟ "
قلت : " يبدو أنكي لم تدركي أنك كبرت . "
" أتعني أنني يجب أن أشبه الدمية مثل أختك ؟ "
شعرت بالاستياء لوصف جوانا بهذا الشكل ... قلت : " إنها تبدو نظيفة , وأنيقة , ورؤيتها محببة للعين . "
قالت ميجان : " إنها جميلة جداً . إنها لا تشبهك كثيراً , أليس كذلك ؟ ما السبب في عدم تشابهكما ؟ "
" لا يشترط أن يكون الإخوة متشابهين دائماً . "
" نعم , بالطبع , فأنا لا أشبه كولين وبريان , كما أن بريان لا يشبه كولين . " توقفت للحظة ثم قالت : " إنه لأمر عجيب , أليس كذلك ؟ "
" ما هو ؟ "
أجابت ميجان باختصار قائلة : " الأسر . "
قلت متأملاً : " أعتقد ذلك . "
تساءلت عما يدور في ذهنها . سرنا في صمت لدقيقة أو دقيقتين , ثم قالت ميجان بخجل : " أنت طيار , أليس كذلك ؟ "
" بلى . "
" وهذا هو سبب إصابتك ؟ "
" نعم , لقد تحطمت طائرتي . "
قالت : " لا أحد يمارس الطيران هنا . "
قلت : " كلا , لا أعتقد ذلك . هل تحبين الطيران يا ميجان ؟ "
بدت وكأنها فوجئت , فقالت : " أنا ؟ يا إلهي ! كلا , سأصاب بالدوار , إنني أصاب بالدوار حتى عند ركوب القطار . "
توقفت لبرهة , ثم سألت بطريقة مباشرة كالأطفال : " هل ستستطيع الطيران مرة أخرى , أم ستظل عاجزاً للأبد ؟ "
" يقول طبيبي أنني سوف أتعافى وأسترد صحتي . "
" نعم , ولكن هل هو من نوعية الرجال الكذابين ؟ "
أجبت : " لا أعتقد ذلك . في الحقيقة , أنا متأكد من ذلك تماماً , إنني أثق فيه . "
" إذا كان الأمر كذلك فلا بأس , ولكن الكثير من الناس يكذبون . "
تقبلت هذه العبارة التي لا يمكن إنكارها بصمت .
قالت ميجان بطريقة حكيمة : " إنني سعيدة , كنت أخشى أن تكون غاضباً بسبب عجزك ـ ولكن إن كان ذلك طبيعياً , إلا إنه مختلف . "
قلت ببرود : إنني لست غاضباً . "
أنت سريع الانفعال إذاً ؟ "
"أنا سريع الانفعال لأنني أتعجل لاشفاء مرة أخرى ـ وهذه الأشياء لا يمكن استعجالها."
" إذن , لماذا أنت قلق ؟ "
بدأت أضحك . ثم قلت : " عزيزتي , ألم تتعجلي حدوث شيء أبداً ؟ "
فكرت ميجان في السؤال ثم قالت : " كلا , وما الذي يدعوني لذلك ؟ ليس هناك شيء يدعوني للعجلة . فلا شيء يحدث أبداً . "
صدمت بنبرة اليأس في كلامها , فقلت بلطف : " ماذا تفعلين هنا ؟ " هوت كتفاها .
قالت : " ما الذي يمكن فعله هنا ؟ "
" أليس لديك أية هوايات ؟ أتمارسين ألعاباً ؟ ألديك أصدقاء هنا ؟ "
" إنني غبية في الألعاب , ولا أحبها كثيراً , ولا يوجد الكثير من الفتيات هنا , الفتيات الموجودات لا أحبهن . فهن يحسبنني فظيعة . "
" هراء ! لماذا يعتقدون ذلك ؟ "
هزت ميجان رأسها . فقلت : " ألم تذهبي إلى المدرسة إطلاقاً ؟ "
" بلا , ولقد عدت منها قبل عام . "
" هل استمتعت بالمدرسة ؟ "
لم تكن سيئة , وإن كانوا قد علموني الأشياء بطريقة سخيفة للغاية . "
" ماذا تعنين ؟ "
" حسناً ـ مجرد قشور من هنا وهناك . ينحتون ويغيرون من شيء لآخر . لقد كانت مدرسة رخيصة , كما تعلم , ولم يكن المدرسون على درجة عالية من الكفاءة , فلم يكن بوسعهم الإجابة عن الأسئلة بشكل لائق . "
قلت : " القليل من المدرسين من يستطيع ذلك . "
" لِم لا ؟ من المفترض أن يكونوا أكفاء . "
وافقتها . فقالت : " بالطبع , أنا غبية جداً . ومثل هذه الأشياء تبدو لي متعفنة . التاريخ مثلاً , لماذا يختلف باختلاف الكتب ؟ "
قلت : " لأن كتابها مختلفون . "
واصلت ميجان حديثها قائلة : " والقواعد اللغوية , وموضوعات الإنشاء التافهة , وكل هذه السخافات التي كتبها شيلي متغزلاً في القبرات , ووردس ورث الذي أذهب شعره على نباتات النرجس البري . وشكسبير . "
تساءلت باهتمام : " وما العيب في شكسبير ؟ "
" إنه يتحذلق ويتحاذق ليقول أشياء في غاية الصعوبة , بحيث لا تستطيع فهم ما يعنيه, ومع ذلك فإنني أحب بعض أعماله . "
قلت : " إنني متأكد من أن ذلك يسعده كثيراً . "
يبدو أن ميجان لم تشك بنبرة السخرية التي تكسو كلامي , حيث قالت متهللة
الأسارير : " فأنا أحب مثلاً شخصيتي جونريل وريجان . "
" لماذا هاتان بالذات ؟ "
" أوه , لا أدري , إنهما تشعراني بالرضا إلى حد ما . لماذا كانتا كذلك في رأيك ؟ "
" ماذا كانتا ؟ "
" كانتا كما هما , شريرتين في الرواية . أعني أنهما لابد أن هناك شيء جعلهما كذلك ؟ "
لأول مرة يطرح علي هذا السؤال , فقد كانت مستقرة دائماً في وجداني فكرة أن ابنتي الملك لير فتاتان شريرتان , وهذا ما ارتضيته لنفسي , ولكن تساؤل ميجان عن الأمر جعلني أهتم .
قلت : " سأفكر في ذلك . "
" أوه , إن الموضوع ليس ذا أهمية , وإنما كنت أتساءل فقط . فهذا هو الأدب الإنجليزي على أية حال , أليس كذلك ؟ "
" تماماً , تماماً , ألم تعجبك أي مادة أخرى ؟ "
" الرياضيات فقط . "
تساءلت مندهشاً : " الرياضيات ؟ "
تهللت أسارير ميجان . وقالت : " لقد أحببت الرياضيات , ولكنها لم تُدرس على الوجه الأمثل , لكم تمنيت لو تعلمتها بشكل جيد حقاً , إنها مادة ساحرة . أعتقد أن الأرقام فيها نوع من السحر , أليس كذلك ؟ "
قلت بصدق : " لم أشعر بذلك مطلقاً . "
كنا الآن على وشك دخول شارع هاي ستريت . قالت ميجان بحدة : " هاهي الآنسة جريفيث . يا لها من امرأة كريهة . "
" ألا تحبينها ؟ "
" إنني أمقتها . فهي تلح علي دائماً حتى أنضم إلى جماعتها من فريق الكشافة المثيرات للاشمئزاز . إنني أكره فتيات الكشافة . ما الذي يدفع الواحدة منا إلى ارتداء أزياء خاصة والسير في مجموعات ووضع شارات على ملابسها من أجل شيء لم تتعلم فعله بطريقة صحيحة ؟ أعتقد أنه مجرد هراء . "
كنت بصفة عامة متفق مع ميجان , غير أن السيدة جريفيث هبطت علينا قبل أصارحها بموقفي .
كانت أخت الطبيب التي تحمل اسم إيمي جريفيث تتمتع بقدر من الثقة بنفسها يفوق ما يتمتع به شقيقها . وقد كانت امرأة جميلة , ذات وجه أشهب نتيجة التعرض للشمس , وكان صوتها عميقاً ويحمل نبرة ودودة .
أشارت إلينا قائلة : " مرحباً بكما , إنه صباح لطيف , أليس كذلك ؟ ميجان عي من أردت رؤيته . أريد مساعدتك في كتابة عناوين المظاريف إلى جمعية المحافظين ."
تمتمت ميجان بشيء مراوغ , ثم ألقت بدراجتها على حافة الطريق , واختفت بطريقة عمدية داخل المتجر الدولي .
قالت الآنسة جريفيث : " طفلة غريبة , إنها كسولة للغاية . فهي تقضي وقتها بالتسكع . لابد أنها تمثل مشكلة للسيدة المسكينة سيمنجتون . أعرف أن أمها حاولت أكثر من مرة تشجيعها على امتهان مهنة ما ـ الكتابة على الآلة الكاتبة , أو الطهي , أو تربية الأرانب . إنها بحاجة لشيئ تهتم به في الحياة . "
كنت أعتقد أن ذلك صحيح إلى حد بعيد , غير أنني شعرت لو أنني مكان ميجان لرفضت بحزم مقترحات الآنسة جريفيث وما ذلك إلا بسبب شخصيتها العدوانية التي كانت لتحول حياتي إلى جحيم ...

يتبع بإذن الله...

القيصر
05-01-2010, 12:22 PM
الفصل الثالث
1
في عصر ذلك اليوم ذهبنا لتناول الشاي مع السيد باي .
كان السيد باي رجل في غاية البدانة , ذا منثوي أنثوي , وكان يقضي كل وقته في العناية بمقتنياته من الأثاث البرجوازي الطراز , وتماثيل راعيات الأغنام ومجموعة أخرى من التحف . وكان يعيش في منزل برايولودج والذي كان يقع في أرض كانت في الماضي تابعة لدار عبادة قديمة .
وبكل تأكيد كان لطبيعة السيد باي في الاهتمام بالمنزل بكل رعاية أثرها في إضفاء جمال عليه , فقد كان هذا المنزل منزلاً في غاية الروعة , وكانت كل قطعة أثاث فيه تبدو لامعة و براقة وموضوعة في المكان الذي يناسبها تماماً . وكانت الستائر تتناغم تناغماً لونياً بديعياً مع الأثاث الذي كان يكسوه أغلى أنواع الحرير .
ولقد كان من المستحيل تصديق أن هذا المنزل يسكن فيه رجل بمفرده , فلقد أصابتني الدهشة لأنني وجدت أن من يعيش في هذا المنزل سوف يكون كمن يعيش في متحف . وكانت متعة السيد باي الكبرى هي أن يجول بضيوفه في أرجاء المنزل . وعندها لن يكون بوسع أي أحد أن يهرب من هذه الجولة , حتى أولئك الذين يدركون قيمة ما في المنزل من أثاث فخم وتحف ثمينة . فحتى لو كان مفهومك متطلبات المعيشة يقتصر على الأشياء الأساسية والتي هي المذياع والمائدة والمغطس والفراش وما يحيط بهذه الأشياء من الجدران , فلن يألو السيد باي جهداً في أن يدلّك على أشياء أفضل .
وكانت يداه الصغيرتان المكتنزتان ترتعشان عندما كان يصف لنا ثرواته ، وكان صوته يرتفع بحدة عندما كان يروي لنا الملابسات التي استطاع من خلالها إحضار هيكل فراشة الإيطالي هذا من فيرونا .
ولأنني وأختي كنا نعشق التحف والأثاث ذات الطرازالعتيق فقد لقينا استحساناً لديه.
وقال السيد باي : " إنني لسعيد أيما سعادة بصحبتكما هذه . إن هؤلاء الناس الأعزاء الذين يعيشون حولنا - كما تعلمون - هم بكل أسف مجموعة من القرويين السذج - لا أريد أن أقول إنهم أجلاف . إنهم لا يدركوا أي شيء . ما هم إلا مجموعة من الجهلة - جهلة تماماً ! والوضع في داخل منازلهم قد يدفعك للبكاء يا سيدتي العزيزة ، أأكد لك أنه سيدفعك للبكاء , أو ربما قد تكونين بكيتي بالفعل إذا رأيت منازلهم . " ، ولكن جوانا قالت إن الأمر لم يصل معها إلى هذا الحد .
تذمر السيد باي , وارتجف قليلاً ثم غمغم في حزن : " إلا أنك تتفهمين ما أقول , أليس كذلك ؟ إنهم يضعون الأشياء المتنافرة بجانب بعضها البعض بشكل مريع ! لقد رأيت ذلك بأم عيني . قطعة أثاث من طراز شيراتون ـ قطعة في غاية الجمال ـ لابد أنهم اشتروها من جامع تحف بلاستيك , ورأيت بجانبها مائدة مناسبات فيكتورية الطراز , أو لعلها كانت مصنوعة من خشب البلوط المدخن الذي يستخدم في صنع حافظات الكتب ـ نعم بلوط مدخن . "
ثم استطرد قائلاً : " لماذا يتصف الناس بهذا القدر من الجهل ؟ إنكم توافقونني . أنا واثق من أنكم توافقونني على أن الجمال هو الشيء الوحيد الذي يستحق أن نحيا من أجله . "
أجابته جوانا وهي مأخوذة بمدى صراحته : " نعم , نعم كما تقول . " فتساءل السيد باي : " إذاً فلماذا يملأ الناس حياتهم بالقبح ؟ "
قالت جوانا : " إن هذا شيء غريب . "
صاح السيد باي : " شيء غريب ؟ إنها جريمة نكراء ! إن هذا هو ما أسميه بالجريمة النكراء ! فلا يستطيع هؤلاء أن يسوقوا إلى مبررات لما يفعلون إلا أن يقولوا إن هذا يشعرهم بالارتياح . أو إنه جذاب وفريد من نوعه , فريد من نوعه يا له من قول فظيع ! "
ثم استطرد السيد باي قائلاً : " إن ذلك المنزل الذي أخذتماه , هو منزل الآنسة إيميلي بارتون . وهو أمر رائع , فهي تمتلك بعض التحف الجميلة , إنها رائعة للغاية . ولعل واحدة أو اثنتين من هذه التحف هي تحف من الدرجة الأولى . ولديها أيضاً حس جمالي عال ـ على الرغم من أنني حالياً لست على يقين من هذا كما كنت في السابق . فأحياناً يراودني إحساس بأن سبب هذا هو الألفة لا أكثر . أنها تحب أن تحتفظ بهذه الأشياء على الصورة التي كانت دائماً عليها , ولكنها لا تفعل هذا للدافع الصحيح ـ إنها لا تحافظ على تناسق هذه القطع بدافع من حسها الجمالي , وإنما لأن أمها تعودت أن تضع هذه التحف على هذا النسق . "
ثم تحول باهتمامه إلي وتغيرت نبرة صوته . من نبرة صوت فنان حالم إلى نبرة أب ناصح : " إنكما لم تتعرفا على أحد من أفراد العائلة , أليس كذلك ؟ نعم , بالقطع تعرفتما عليهما عن طريق السماسرة . ولكن يا أعزائي عليكما أن تتعرفا على أفراد العائلة ! عندما حضرت إلى هذا المكان لأول مرة كانت الأم الكبيرة لا تزال على قيد الحياة . لقد كانت إنسانة فوق العادة بكل ما تحمل الكلمة من معان ! لقد كانت وحساً إذا كنتما تدركان ما أقول , وحش بكل تأكيد . كانت تشبه وحشاً كلاسيكياً من العصر الفيكتوري وهي تلتهم صغارها . نعم هذا هو ما أقصده . لقد كانت إنسانة عتيقة الطراز ـ لقد كان لها ثقل ومكانة , وكانت بناتها الخمس يدرن في فلكها . كانت دائماً تشير إليهن بكلمة " البنات " ! في حين أن كبراهن كانت قد تجاوزت الستين من عمرها في ذلك الحين . وأحياناً كانت تناديهن بالبنات الحمقاوات . كنَّ كالإماء , وكنَّ دائماً يطعنها , ويحضرن لها ما تريد ويحملن لها ما تشاء . وكان عليهن أن يخلدن للنوم مع دقات الساعة العاشرة مساءً , ولم يكن يسمح لهن بأن يوقدن ناراً في مخادعهن , ولم تكن إحداهن تجرؤ على أن تدعو صديقة لها بالمنزل . تعلمون أنها قد حرمتهن من الزواج , وقامت بتخطيط حياتهة بشكل لا يتمكن به عملياً من مقابلة أي إنسان . أعتقد أن إيميلي , قد دخلت في علاقة قصيرة الأجل مع أحد رعاة الأبرشية . ولكن عائلته لم تكن عريقة بما فيه الكفاية , وسرعان ما وضعت الأم حداً لهذه العلاقة . "
قالت جوانا : " إن هذا يبدو ككلام الروايات . "
قال السيد باي :" نعم عزيزتي , هذا صحيح . ثم حدث أن ماتت تلك السيدة المسنة, ولكن بالطبع بعد أن فات الأوان كثيراً . لقد ظلت البنات يعشن في ذات المكان , ويتكلمن بأصوات هامسة عما كانت ستتمناه الأم المسكينة . حتى أنهن لم يجرؤن على تغيير أوراق الحائط في غرفة نومهن . إلا أنهن مع هذا استطعن أن ينلن بعض التسلية في الأبرشية بوسيلة أو بأخرى ... إلا أنه سرعان ما توفيت إحداهن تلو الأخرى لأنهن لم يستطعن مواصلة الحياة من دون أمهن . فماتت إيديث بمرض الإنفلونزا , وماتت ميني من عملية جراحية لم تتعافى منها , أما مايبل المسكينة فأصيبت بسكتة دماغية ـ وتولت إيميلي رعايتها بكل إخلاص وتفان . وبالفعل لم تفعل تلك المرأة المسكينة في العشر سنوات الماضية إلا رعاية أختها . يا لها من إنسانة رائعة , ألا توافقانني ؟ إنها تشبه تحفة ثمينة . إنه لشيء مؤسف أن تعاني من تلك الأزمات المالية . إلا أنه من المعروف أن جميع الاستثمارات قد عانت من هذا الكساد . "
قالت جوانا : " إننا نشعر بالضيق لأننا سوف نسكن في منزلها . "
قال السيد باي وهو ينحني بعض الشيء : " كلا , كلا يا عزيزتي . عليكي ألا تفكري بهذه الطريقة . لقد أخبرتني صديقتها العزيزة فلورنسا ـ والتي تقوم على خدمتها ـ بأنها في غاية السعادة لأنها حظيت بمستأجرين على هذا القدر من اللطف مثلكما , لقد رأت هذا من يمن طالعها . "
قلت : " إن ذلك المنزل يتمتع بجو باعث على الاسترخاء . " وعندئذٍ نظر إلي باي نظرة خاطفة وقال : " حقاً ؟ هل تشعر بذلك حقاً ؟ إن هذا شيء مشوق . لقد كنت أتعجب كما تعلمان , نعم لقد كنت أتعجب . "
سألت جوانا : " ماذا تعني يا سيد باي ؟ "
قال السيد باي وهو يفرق كفيه المكتنزتين : " لا شيء . لا شيء . إن الإنسان ليعجب أحياناً , هذا هو كل مافي الأمر . إنني أؤمن بفكرة الجو المحيط هذه . إنني أؤمن بأن أفكار الناس هذه وأحاسيسهم تنطبع على الأثاث والجدران . "
ولم أنبس بعدها بكلمة لدقيقة أو دقيقتين . كنت أنظر في المكان من حولي وأتساءل كيف يمكنني أن أصف جو منزل برايولودج . لقد كان أكثر ما لفت انتباهي أنه منزل ليس به أثر لأي روح ! لقد كان شيئاً عجيباً بالفعل .
لقد استولت علي هذه الفكرة تماماً لدرجة أنني لم أسمع حرفاً من المحادثة الدائرة بين جوانا ومضيفها. إلا أنني انتبهت لنفسي عندما سمعت جوانا تقول بعض العبارات التي تدل على مغادرتنا , فاستيقظت من أحلام اليقظة وأدليت بدلوي في هذه العبارات .
وخرجنا جميعاً إلى الردهة . وعندما وصلنا إلى باب المنزل , وجدنا أن هناك خطاباً كن قد وصل عبر البريد , وكان ساقطاً على ممسحة الأقدام أمام الباب .
غمغم السيد باي وهو يلتقط الخطاب : " بريد بعد الظهيرة . والآن يا أعزائي , إنكما سوف تكررا الزيارة , أليس كذلك ؟ لقد حظيت بسعادة بالغة لصحبة شخصين مثلكما ذوي عقول متفتحة , عقول تقدر الفن بالفعل , فأنتما تعلمان أن كل هؤلاء الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة لا يمتلكون أي حس فني على الإطلاق , فمثلاً إذا ما ذكرت أمامهم كلمة باليه فكل ما تعنيه هذه الكلمة لديهم هو الرقص على أصابع الأقدام , والتنورات الحريرية والسادة المهذبين ذوي عوينات الأوبرا الزجاجية الذين تبلغ أعمارهم تسعين عاماً . هذا بالفعل هو كل ما تعنيه الكلمة لهم . إنني أراهم أناس يتخلفون عن وقتنا هذا بنصف قرن على الأقل . إن إنجلترا لبلد بديع , وبه كما تعلمان مناطق المعزولة . وبلدة لايمستوك هي واحدة من تلك المناطق المعزولة . إنني من خبرتي كجامع للتحف أراها بلدة مثيرة للاهتمام ـ فعندما أكون هنا أشعر كما لو أنني في داخل واجهة زجاجية ينظر الناس من خلالها . إنني أشعر كما لو أنني أعيش في مياه راكدة , حيث لا شيء يكسر نمط الحياة الرتيب . "
وبعد أنا صافحنا السيد باي مرتين , ساعدني بعناية بليغة على الصعود إلى العربة , واتخذت جوانا مكانها خلف عجلة القيادة , ودارت بحرص حول مساحة من الأرض مغطاة بعشب مشذب , ثم مضت في خط مستقيم , ورفعت يدها ملوحة لمضيفنا الذي وقف عند درجات مدخل البيت . وملت بجسدي للأمام مودعاً إياه أنا أيضاً بدوري .
إلا أنه لم يلاحظ إشاراتنا المودعة تلك . فقد كان مستغرقاً في قراءة الخطاب الذي وصله للتو .
كانت جوانا قد وصفته ذات مرة بأنه ملاك مكتنز وردي اللون . لقد كان ما يزال في هذه اللحظة مكتنزاً , ولكنه كان يبدو أبعد ما يكون عن شكل الملاك . فلقد انقلب وجهه الملائكي إلى وجه تكسوه الحمرة من فرط الغضب وشدة الصدمة .
وفي هذه اللحظة , لاحظت أن مظهر الخطاب يبدو مألوفاً . لم أكن قد لاحظت هذا مسبقاً ـ لقد كان هذا من الأشياء التي تشعر بأنها مألوفة حينما تقع عليها عيناك دون أن تدرك أنك قد فعلتها من قبل , ولكن أين ومتى لا تعلم .
قالت جوانا : " يا إلهي , ما الذي أزعج ذلك المسكين ؟ "
قلت : " إنني أتعجب أنا أيضاً , ترى هل هي الأيدي الخفية مرة أخرى ؟ "
نظرت لي بدهشة , فانحرفت السيارة عن مسارها . قلت لها : " احترسي يا فتاة . "
عادت جوانا تنتبه للطريق . وقالت لي بوجه متجهم : " أتعني أن ذلك الخطاب مثل الذي تلقيته أنت ؟ "
قلت لها : " هذا ما أظن . "
تساءلت جوانا : " ما هذا المكان ؟ إنه يبدو كأكثر مكان هادئ في إنجلترا . "
قاطعتها قائلاً وكما قال السيد باي , لا شيء يكسر نمط الحياة الرتيب . لقد اختار الوقت الأسوأ لهذا القول , فهناك شيء قد كسر نمط الحياة الرتيب .
قالت جوانا : " ولكن من الذي يكتب مثل هذه الخطابات يا جيري ؟ "؟
هززت كتفيّ قائلاً : " وكيف لي أن أعرف يا عزيزتي ؟ لا بد أنه أحد القرويون ذوي العقول غير الناضجة . "
قالت : " ولكن لماذا ؟ إن هذا لتصرف في غاية الحماقة . "
قلت : " إذا قرأت لفريود أو لـ يونج فستجدين إجابة على سؤالك , أو يمكنك أن تسألي الدكتور أوين . " هزت جوانا رأسها قائلة : " إنني لا أروق له . "
قلت لها : " ولكنه لم يرك إلا قليلاً . "
قالت : " لكن من الواضح أنه رآني بدرجة تكفي لأن يغير طريقه إذا صادف وأن رآني قادمة من نفس الطريق . "
قلت لها بتعاطف : " إنه رد فعل غير اعتيادي , ولا يبدو أنك معتادة عليه . ط
عبست جوانا مرة أخرى وقالت : " كلا , ولكن حقاً لماذا يكتب الناس رسائل مجهولة كالتي تصلنا ؟ "
قلت لها : " كما قلت لك , لأن عقولهم غير ناضجة . أعتقد أن هذا يعوض نقصاً في نفوسهم . فمثلاً إذا كنت مهملة أو محبطة أو منبوذة , وتشعرين بالسؤم والخواء , فسوف تحسين ببعض القوة عندما تطعنين الآخرين في الظلام , هؤلاء الآخرون الذين يحييون في سعادة ورفاهية . "
ارتجفت جوانا قائلة : " إن هذا ليس جميلاً على الإطلاق , هكذا يكون علي أن أتخيل أناس هذه القرية كأناس بدائيين يقومون بتصرفات شاذة , أعتقد أن من قام بهذا شخص أمي , أعتقد أنه لو كان متعلماً لـ ... ط
توقفت جوانا ولم تكمل جملتها , ولم أعلق أنا بكلمة . فلم أكن قادراً أبداً على أن أتقبل الاعتقاد الذي يقول بأن التعليم هو دواء لكل داء .
وبينما كانت السيارة تنطلق باتجاه طريق مرتفع , وقبل أن نمضي صاعدين ذلك الطريق الرئيسي , أخذت أختلس النظر بفضول إلى معالم الطريق السريع . ورأيت إحدى النساء الريفيات ذوات الأجسام الممشوقة القوام وكانت عيناها تحملان الكثير من لاحقد والخبث , وربما كانت تخطط للمزيد من التصرفات الحاقدة .
ولكنني مع هذا لم أستطع أخذها على محمل الجد ..
.يتبع

القيصر
01-02-2011, 10:04 AM
لنا عودة قريبة مع سلسلة روائع الادب العالمي.

بهــــاء الزعيم
01-02-2011, 04:40 PM
ننتظرك
.................

جنى الدخيل
01-02-2011, 04:49 PM
بانتظارك
عمي القيصر

القيصر
01-02-2011, 10:47 PM
-2-
بعد انقضاء يومين , ذهبنا إلى إحدى الحفلات التي كان يقيمها آل سيمنجتون .
لقد كان هذا في عصر يوم سبت ـ فآل سيمنجتون دائماً ما يقيمون احتفالاتهم يوم السبت, لأنهم في هذا اليوم يغلقون مكاتبهم .
لقد كانت هناك طاولتان للعب الورق , وكان اللاعبون هم آل سيمنجتون , ونحن , والآنسة جريفيث , والسيد باي والآنسة بارتون , والكولونيل أبلتون والذي لم نكن قد التقيناه من قبل , والذي كا يعيش في بلدة كومبياكر وهي بلدة تبعد عن بلدتنا حوالي سبعة أميال . لقد كان نموذجاً للشخص الساذج شديد المحافظة في نظرته إلى شؤون البلاد العامة , وكان في الستينيات من عمره , وكان يحب أن يلعب بأسلوب يسمى " اللعب الهجومي . " ( والذي كان دائماً ما ينتهي بإحراز خصمه لمكاسب كبيرة على حسابه ) ولقد كان معجباً للغاية بجوانا , لدرجة أنه لم يرفع عنها عينه طوال الأمسية .
ولهذا السبب كنت مظطراً لأن أوافقه على أن أختي هي أكثر شيء جذاب شوهد في لايمستوك منذ زمن بعيد .
وعندما وصلنا إلى الحفل كانت إليسي هولاند مربية الأطفال تحاول تجميع ألعاب الورق وإحراز المزيد من النقاط , وكانت تقوم باللعب على منضدة مزينة بأسلوب جذاب . كانت تختال في رشاقة وخفة , بنفس الطريقة البديعة الخلابة التي رأيتها تسير بها لأول مرة . ولكن لم أشعر بنفس تأثير سحرها , كما شعرت به من قبل ـ وهذا ما يبعث على الحنق والغيظ ـ لقد كانت آية في الرشاقة والجمال , ولكنني لاحظت لها أسناناً بيضاء عريضة بشكل غير طبيعي , وكانت عندما تضحك وتظهر لثتها تبدو كإحدى الفتيات الثرثارات .
وسمعتها تقول : " هل هذه هي أوراق اللعب الصحيحة يا سيدة سيمنجتون؟ إنني دائما أكون على قدر من الحماقة . بحيث لا أذكر أبدا أين وضعتها . إنه خطئي . لقد كانت في يدي آخر مرة عندما نادى علي برايان قائلا أن محرك سيارته قد أصابه عطب , فهرعت إليه وانشغلت معه , ولا بد أنني ألقيت بها في أي مكان بحماقه . وهذه الأوراق ليست هي الأوراق الصحيحة , لقد أدركت هذ الآن , إنها تميل إلى الآصفرار بعض الشيء عند حوافها . هل علي أن أخبر آجنس بأن ميعاد تانول الشاي في الساعة الخامسة ؟ سوف أصطحب الأطفال إلى لونج بارو حتى لا يسببوا الضوضاء . "
يا لها من فتاة لطيفة وحنونة وذات شخصية براقة . والتقت عيناي بعيني جوانا . لقد كانت تضحك , نظرت اليها ببرود , فقد كانت جوانا على الدوام تستطيع أن تعرف ما يجول في ذهني .عليها اللعنة .
ثم جلسنا امام طاولة اللعب , وبدأت أتعرف على قدرات أهل لايمستوك في لعب الورق . فالسيدة سيمنجتون كانت على قدر كبير من البراعة في اللعب , وكانت توجه كامل اهتمامها للعبة . وكانت كباقي النساء الغير متعلمات لا تنقصها الفطنة والفراسة . وكانت حادة الطباع بعض الشيء . وكان زوجها كذلك لاعبا ماهرا إلا أنه كان مبالغا في حذره . أما السيد باي فقد كان مبهراً في طريقة لعبه , لقد كان تأثيره النفسي على الحاظرين طاغيا . ولما كان هذا الحفل على شرفنا . فقد لعبنا على ذات الطاولة مع السيدة سيمنجتون والسيد باي . لقد كان السيد سيمنجتون يضطلع بمهمة تهدئة المنافسة إذا ما حمى وطيسها بين اللاعبين , وأن يصفي أي خلافات قد تنشب بينهم وهم على الطاولة . وكما ذكرت سابقا كان الكولونيل أبلتون مولعاً بالأسلوب الهجومي في اللعبة . ولقد كانت السيدة بارتون بكل تأكيد أسوأ لاعبة رأيتها في حياتي . إلا أنها كانت تستمتع باللعب كثيرا , ولقد استطاعت أن تحفظ دروسا في اللعبة , إلا أنها لم تستطع أن تفهم كيفية إحراز النقاط في هذه اللعبة . وكانت دائما ما تختلط عليها الأوراق فلم تلق بورقة صحيحة واحدة طوال مدة اللعبة . أما عن أسلوب لعب إيمي جريفيث فيمكن تلخيصه في كلماتها التي قالتها عن نفسها : " إنني أفضل علب الورق عندما لا يتخلل اللعبة الكثير من الهراء , فأنا لا أحب تلك الطرق المخادعة بتمرير المعلومات خلسة إلى شركاء اللعب . وإنني أعني ما أقول , وكذلك لا أحب أن ننخرط في تحليل ونقد اللعبة بعد انتهائها . ففي نهاية الأمر ما هي إلا مجرد لعبة ! " وهو الأمر الذي لم يجعل من مهمة السيدة سيمنجتون مهمة يسيرة .
وهكذا بدأ اللعب , وقد نسي الكولونيل أبلتون أن يلعب دوره عدة مرات لانشغاله بالنظر إلى جوانا .
ثم تم تقديم الشاي , وقد وُضع على طاولة كبيرة مستديرة . وبعد أن انتهينا من اللعب , دلف إلى الغرفة طفلان صغيران وقامت السيدة سيمنجتون بتقديمهما إلينا وهي في غاية الفخر , وكذلك كان والدهما .
وبينما نحن نستعد للرحيل , لاح لي ظل أثار انتباهي فنظرت وإذا بميجان واقفة عند الشرفة .
قالت الأم : " أوه , ميجان . "
كانت نبرة صوتها تحمل قدراً من المفاجأة وقد بدا أنها نسيت وجود ميجان . ودلفت الفتاة إلى المنزل , وصافحتنا بأسلوب خالٍ من أي لباقة .
قالت السيدة سيمنجتون بصوت يحمل نبرة اعتذار : " أخشى أنني نسيت أن أعد لك الشاي يا عزيزتي , فقد أخذت الآنسة هولاند قدح الشاي الخاص بها معها وكذلك فعل الأولاد , ولم يتبق شيء من ساي الأطفال اليوم ,لقد نسيت تماماً أنك لم تذهبي معهم ."
أومأت ميجان برأسها قائلة " لا بأس , سوف أذهب إلى المطبخ . "
ثم خرجت من الغرفة وهي تمشي الهويني . وكانت كعادتها مهلهلة الملابس , وترتدي الجوارب المثقوبة عند الكعبين .
قالت السيدة سيمنجتون وهي تضحك بطريقة تنم عن الاعتذار : " يا لميجان المسكينة , إنها الآن تمر بتلك السن الحرجة كما تعلمون , تلك السن التي تكون الفتيات فيها خجولات ومرتبكات لأنهن قد تركن المدرسة قبل أن يتم نضجهن ويصبح سيدات بحق . "
نظرت إلى جوانا , فوجدتها تميل برأسها إلى الوراء وهي بادرة عنف وأعرفها جيداً , وقالت : " ولكن ميجان في العشرين من عمرها , أليس كذلك ؟ "
" بلى بالفعل , ولكنها متأخرة ذهنياً عن سنها الفعلي , فهي لا تزال طفلة , إنه لشيء لطيف ألا يكبر أطفالنا بسرعة . " ثم ضحكت مرة أخرى وقالت : " أراهن على أن كل الأمهات يجببن أن يضل أطفالهن رضعاً . "
قالت جوانا : " لا أستطيع أن أدرك السبب في هذا , فلا بد أن أمر مخزٍ أن يكون العمر العقلي للإنسان لا يتجاوز السادسة , بينما جسده جسد شخص في العشرين من عمره . "
قالت السيدة سيمنجتون : " هذه الأمور لا تؤخذ على علاتاها يا آنسة بيرتون . "
أحسست في تلك اللحظة أنني لا أميل كثيراً للآنسة سيمنجتون . لقد أحسست أن خلف هيأتها النحيفة ذات الجمال الباهت تلك طبيعة أنانية مسيطرة . ثم بدأت تتكلم كلاماً زاد من كراهيتي لها . " يا لميجان المسكينة , إنها لطفلة صعبة المراس , لقد كنت أبحث لها عن أمر تنشغل به ـ أعتقد أن هناك أشياء كثيرة يمكن للمرء أن يتعلمها من خلال المراسلة . كتصميم وتفصيل الثياب ـ أو يمكنها أن تتعلم الكتابة الاختزالية . "
وكان لا يزال تطل من عيني جوانا نظرة حنق . وقالت عندما جلستا ثانية قبالة طاولة اللعب : " أعتقد أنها تستطيع أن تحضر بعض الحفلات وما شابه ذلك . ألا تفكرين فس إقامة حفل راقص على شرفها ؟ "
قالت السيدة سيمنجتون بمنتهى الدهشة : " حفلة راقصة ؟ كلا بالطبع , إننا لم نعتد القيام بمثل هذه الأمور هنا . "
" فهمت , إنكم لا تقيمون إلا حفلات التنس أو ما شابه ذلك . "
" إن ملعب التنس ـ الخاص بنا لم يمارس أحد اللعب عليه منذ سنين . وإنني لا أمارس التنس ولا ريتشارد أيضاً . ولكن ربما عندما يشب الولدان ـ سوف تجد ميجان الكثير من الأمور لكي تفعلها . إنها الآن تجد سعادتها في التجول في الأنحاء القريبة . ترى هل نسيت أن أوزع الورق ؟ "
بينما كنا في طريق عودتنا بسيارتنا , قالت جوانا وهي تظغط على دواسة البنزين بقوة جعلت السيارة تندفع بسرعة " إنني أرثى لحالة هذه الفتاة بشدة . "
" أتعنين ميجان ؟ "
" نعم , إن أمها لا تحبها . "
" لا يا جوانا , الأمر ليس بهذا السوء . "
" بل هو بهذا السوء , هناك الكثير من الأمهات لا يحببن أطفالهن . إنني أستطيع أن أتخيل هذا الأمر : فميجان هي مصدر للإحراج في هذه العائلة . إنها تفسد الصورة المثالية لعائلة سيمنجتون , فبدونها تبدو العائلة كياناً متكاملاً لا يعبه شيء ـ وهذا الأمر يسبب لهذه المخلوقة الحساسة ضرراً لا يفوقه أي ضرر . "
قلت لها : " نعم , إنني أراها إنسانة حساسة للغاية . "
ران علينا الصمت لحظة .
قال جوانا : " إن الحظ لم يحالفك مع مربية الأطفال تلك . "
قلت لها بكبرياء : " لا أدري ماذا تعنين . "
" كفاك من هذا الهراء , إنك تعلم جيداً ما أعني , لقد كسا وجهك حنق ذو طابع ذكوري عندما كنت تنظر إليها , إنني أوافقك أنها ساخرة . "
" لا أعرف عم تتحدثين . "
" إلا أنني مع هذا سعيدة . إنها إشارة جيدة على أنك عدت إلى الحياة من جديد . لقد كنت في المصحة , فهناك لم تكن حتى لم تلق بالاً لتلك الممرضة الحسناء التي كانت تقوم على رعايتك , رغم أنها كانت آية في الحسن . "
" إنني أجد في كلامك ابتذالاً يا جوانا . "
إلا أنها واصلت حديثها كأنها لم تسمعني وقالت : " ولهذا شعرت براحة كبيرة عندما رأيتك تبدي اهتماماً بفتاة حسناء . إنها بالفعل حسناء ولكن الغريب أنها ليست جذابة . هناك شيء لا أعرفه يجعل بعض الفتيات جذابات والبعض لا . ما الذي يجعل الرجال يفتنون ببعض النساء حتى وإن لم يقلن إلا عادياً على شاكلة : " يا لهذا الطقس السيء ."وهناك نساء يملكن وجوهاً آية في الحسن والجمال (أفروديت) ولكنهن غير جذابات على الإطلاق . وتجد أن النساء الأقل جمالاً يمتلكن هذا السحر وهو الأمر الذي يقود الفتيات الأخريات إلى الجنون , ويقلن : لا أعرف ماذا يرى الرجال في تلك المرأة , إنها غير جميلة على الإطلاق . "
" هل انتهيتي يا جوانا ؟ "
" ألا توافقني الرأي ؟ "
ابتسمت قليلاً وقلت : " أعترف بأنني أصبت بشيء من خيبة الأمل . "
" وإني لا أرى لك بديلاً غيرها وقد تضطر إلى أن تحول اهتمامك إلى إيمي جريفيث . "
قلت لنفسي : " لا سمح الله . "
قالت جوانا : " إنها فتاة حسناء كما تعلم . "
" إنها تبدو لي كواحدة من مقاتلات الأمازون . "
قالت جوانا : " يبدو لي أنها تستمتع بحياتها جيداً . وهي طيبة القلب أيضاً . إنني لن أندهش لو علمت أنها تستحم بماء بارد كل صباح . "
سألتها : " وماذا أنت فاعلة في نفسك ؟ "
" في نفسي ؟ "
" نعم , إنك تحتاجين لأن تشغلي نفسك بأمر ما , فأنا أعرفك جيداً . "
تنهدت جوانا بعمق وقالت : " من لاذي يتحدث بابتذال الآن ؟ وغير هذا أنك نسيت بول . "
" إنني لن أنساه بأسرع مما تنسيه أنت , إنك خلال عشرة أيام سوف تقولين : بول؟ بول من ؟ إنني لا أعرف أحداً يدعى بول . "
قالت جوانا : " إنك تظنني امرأة متقلبة المزاج . ط
" عندما يتعلق الأمر بأناس مثل بول فإنني أكون سعيداً لتقلب مزاجك هذا . "
" إنك لم تحبه يوماً , إلا أنه كان على درجة شديدة من العبقرية . "
" ربما , مع أنني أشك في هذا . على أي حال سمعت أن العباقرة أناس لا يطاقون . والجيد في الأمر أنك لن تستطيعي أن تجدي عبقرياً هنا . "
فكرت جوانا بعض الوقت وهي تحني رأسها ثم قالت بنبرة نادمة : " أخشى أن يكون هذا صحيحاً يا جيري . "
قلت لها : " على أية حال ليس لديك إلا أوين جريفيث . إنه هو الأعزب الوحيد في هذه البلدة . إلا إذا كنت تفكرين في الكولونيل أبلتون ؛ فلقد كان ينظر إليك كالكلب الجائع طوال جلستنا . "
ضحكت جوانا قائلة : " نعم لقد كان يحدق إلي بشدة , أليس كذلك ؟ لقد كان هذا الأمر محرجاً للغاية . "
" كفِّي عن التظاهر , إنك لم تشعري بالإحراج للحظة . "
مضت جوانا في القيادة وتجاوزت البوابة إلى المرآب . ثم ثالت : " ربما تكون محقاً إلى حد ما في فكرتك تلك . "
" أية فكرة ؟ "
" لا أفهم لماذا يقدم رجل ما على أن يغير من طريقه لكي يتجنبني , إن هذا لتصرف وقح ـ بصرف النظر عن أي شيء . "
قلت لها : " فهمت , إنك تريدي اصطياد الرجل بدم بارد . "
" إنني لا أحب أن يتجنبني أحد . "
خرجت من السيارة بحذر , وتوكأت على عكازي ثم قدمت لأختي نصيحة ..
" دعيني أقول لك هذا يا فتاة . أوين جريفيث ليس كأي من رفاقك الخاملين ذوي الطبيعة المحبة للفن . وإذا لم تأخذي حذرك سوف تفتحي عش الدبابير . إنه لرجل خطير . "
قالت جوانا وبدا أنها تستمتع بهذا الأمر : " هل تعتقد هذا ؟ "
قلت لها بإصرار : " هلا تركت ذلك الرجل لحاله ؟ "
" كيف يجرؤ على تغيير طريقه ليتجنبني ؟ "
" إن النساء لهن ذات الطبع . كلكن تعزفن على نفس النغمة . وإذا لم أكن مخطئاً فسوف تجدين أخته إيمي تشتكي منك . "
قالت جوانا : " إنها من البداية تكرهني . " كانت تتحدث وهي في حالة من التأمل ولكن بشيء من الرضا .
قلت لها مصراً : " إننا قد جئنا لهذا المكان طلباً للهدوء وراحة البال , وإنني حريص على أن أجدهما . "
إلا أن الهدوء وراحة البال كانا أبعد ما يكونا عنا .
يتبع ...

القيصر
01-02-2011, 10:48 PM
2
بعد انقضاء يومين , ذهبنا إلى إحدى الحفلات التي كان يقيمها آل سيمنجتون .
لقد كان هذا في عصر يوم سبت ـ فآل سيمنجتون دائماً ما يقيمون احتفالاتهم يوم السبت, لأنهم في هذا اليوم يغلقون مكاتبهم .
لقد كانت هناك طاولتان للعب الورق , وكان اللاعبون هم آل سيمنجتون , ونحن , والآنسة جريفيث , والسيد باي والآنسة بارتون , والكولونيل أبلتون والذي لم نكن قد التقيناه من قبل , والذي كا يعيش في بلدة كومبياكر وهي بلدة تبعد عن بلدتنا حوالي سبعة أميال . لقد كان نموذجاً للشخص الساذج شديد المحافظة في نظرته إلى شؤون البلاد العامة , وكان في الستينيات من عمره , وكان يحب أن يلعب بأسلوب يسمى " اللعب الهجومي . " ( والذي كان دائماً ما ينتهي بإحراز خصمه لمكاسب كبيرة على حسابه ) ولقد كان معجباً للغاية بجوانا , لدرجة أنه لم يرفع عنها عينه طوال الأمسية .
ولهذا السبب كنت مظطراً لأن أوافقه على أن أختي هي أكثر شيء جذاب شوهد في لايمستوك منذ زمن بعيد .
وعندما وصلنا إلى الحفل كانت إليسي هولاند مربية الأطفال تحاول تجميع ألعاب الورق وإحراز المزيد من النقاط , وكانت تقوم باللعب على منضدة مزينة بأسلوب جذاب . كانت تختال في رشاقة وخفة , بنفس الطريقة البديعة الخلابة التي رأيتها تسير بها لأول مرة . ولكن لم أشعر بنفس تأثير سحرها , كما شعرت به من قبل ـ وهذا ما يبعث على الحنق والغيظ ـ لقد كانت آية في الرشاقة والجمال , ولكنني لاحظت لها أسناناً بيضاء عريضة بشكل غير طبيعي , وكانت عندما تضحك وتظهر لثتها تبدو كإحدى الفتيات الثرثارات .
وسمعتها تقول : " هل هذه هي أوراق اللعب الصحيحة يا سيدة سيمنجتون؟ إنني دائما أكون على قدر من الحماقة . بحيث لا أذكر أبدا أين وضعتها . إنه خطئي . لقد كانت في يدي آخر مرة عندما نادى علي برايان قائلا أن محرك سيارته قد أصابه عطب , فهرعت إليه وانشغلت معه , ولا بد أنني ألقيت بها في أي مكان بحماقه . وهذه الأوراق ليست هي الأوراق الصحيحة , لقد أدركت هذ الآن , إنها تميل إلى الآصفرار بعض الشيء عند حوافها . هل علي أن أخبر آجنس بأن ميعاد تانول الشاي في الساعة الخامسة ؟ سوف أصطحب الأطفال إلى لونج بارو حتى لا يسببوا الضوضاء . "
يا لها من فتاة لطيفة وحنونة وذات شخصية براقة . والتقت عيناي بعيني جوانا . لقد كانت تضحك , نظرت اليها ببرود , فقد كانت جوانا على الدوام تستطيع أن تعرف ما يجول في ذهني .عليها اللعنة .
ثم جلسنا امام طاولة اللعب , وبدأت أتعرف على قدرات أهل لايمستوك في لعب الورق . فالسيدة سيمنجتون كانت على قدر كبير من البراعة في اللعب , وكانت توجه كامل اهتمامها للعبة . وكانت كباقي النساء الغير متعلمات لا تنقصها الفطنة والفراسة . وكانت حادة الطباع بعض الشيء . وكان زوجها كذلك لاعبا ماهرا إلا أنه كان مبالغا في حذره . أما السيد باي فقد كان مبهراً في طريقة لعبه , لقد كان تأثيره النفسي على الحاظرين طاغيا . ولما كان هذا الحفل على شرفنا . فقد لعبنا على ذات الطاولة مع السيدة سيمنجتون والسيد باي . لقد كان السيد سيمنجتون يضطلع بمهمة تهدئة المنافسة إذا ما حمى وطيسها بين اللاعبين , وأن يصفي أي خلافات قد تنشب بينهم وهم على الطاولة . وكما ذكرت سابقا كان الكولونيل أبلتون مولعاً بالأسلوب الهجومي في اللعبة . ولقد كانت السيدة بارتون بكل تأكيد أسوأ لاعبة رأيتها في حياتي . إلا أنها كانت تستمتع باللعب كثيرا , ولقد استطاعت أن تحفظ دروسا في اللعبة , إلا أنها لم تستطع أن تفهم كيفية إحراز النقاط في هذه اللعبة . وكانت دائما ما تختلط عليها الأوراق فلم تلق بورقة صحيحة واحدة طوال مدة اللعبة . أما عن أسلوب لعب إيمي جريفيث فيمكن تلخيصه في كلماتها التي قالتها عن نفسها : " إنني أفضل علب الورق عندما لا يتخلل اللعبة الكثير من الهراء , فأنا لا أحب تلك الطرق المخادعة بتمرير المعلومات خلسة إلى شركاء اللعب . وإنني أعني ما أقول , وكذلك لا أحب أن ننخرط في تحليل ونقد اللعبة بعد انتهائها . ففي نهاية الأمر ما هي إلا مجرد لعبة ! " وهو الأمر الذي لم يجعل من مهمة السيدة سيمنجتون مهمة يسيرة .
وهكذا بدأ اللعب , وقد نسي الكولونيل أبلتون أن يلعب دوره عدة مرات لانشغاله بالنظر إلى جوانا .
ثم تم تقديم الشاي , وقد وُضع على طاولة كبيرة مستديرة . وبعد أن انتهينا من اللعب , دلف إلى الغرفة طفلان صغيران وقامت السيدة سيمنجتون بتقديمهما إلينا وهي في غاية الفخر , وكذلك كان والدهما .
وبينما نحن نستعد للرحيل , لاح لي ظل أثار انتباهي فنظرت وإذا بميجان واقفة عند الشرفة .
قالت الأم : " أوه , ميجان . "
كانت نبرة صوتها تحمل قدراً من المفاجأة وقد بدا أنها نسيت وجود ميجان . ودلفت الفتاة إلى المنزل , وصافحتنا بأسلوب خالٍ من أي لباقة .
قالت السيدة سيمنجتون بصوت يحمل نبرة اعتذار : " أخشى أنني نسيت أن أعد لك الشاي يا عزيزتي , فقد أخذت الآنسة هولاند قدح الشاي الخاص بها معها وكذلك فعل الأولاد , ولم يتبق شيء من ساي الأطفال اليوم ,لقد نسيت تماماً أنك لم تذهبي معهم ."
أومأت ميجان برأسها قائلة " لا بأس , سوف أذهب إلى المطبخ . "
ثم خرجت من الغرفة وهي تمشي الهويني . وكانت كعادتها مهلهلة الملابس , وترتدي الجوارب المثقوبة عند الكعبين .
قالت السيدة سيمنجتون وهي تضحك بطريقة تنم عن الاعتذار : " يا لميجان المسكينة , إنها الآن تمر بتلك السن الحرجة كما تعلمون , تلك السن التي تكون الفتيات فيها خجولات ومرتبكات لأنهن قد تركن المدرسة قبل أن يتم نضجهن ويصبح سيدات بحق . "
نظرت إلى جوانا , فوجدتها تميل برأسها إلى الوراء وهي بادرة عنف وأعرفها جيداً , وقالت : " ولكن ميجان في العشرين من عمرها , أليس كذلك ؟ "
" بلى بالفعل , ولكنها متأخرة ذهنياً عن سنها الفعلي , فهي لا تزال طفلة , إنه لشيء لطيف ألا يكبر أطفالنا بسرعة . " ثم ضحكت مرة أخرى وقالت : " أراهن على أن كل الأمهات يجببن أن يضل أطفالهن رضعاً . "
قالت جوانا : " لا أستطيع أن أدرك السبب في هذا , فلا بد أن أمر مخزٍ أن يكون العمر العقلي للإنسان لا يتجاوز السادسة , بينما جسده جسد شخص في العشرين من عمره . "
قالت السيدة سيمنجتون : " هذه الأمور لا تؤخذ على علاتاها يا آنسة بيرتون . "
أحسست في تلك اللحظة أنني لا أميل كثيراً للآنسة سيمنجتون . لقد أحسست أن خلف هيأتها النحيفة ذات الجمال الباهت تلك طبيعة أنانية مسيطرة . ثم بدأت تتكلم كلاماً زاد من كراهيتي لها . " يا لميجان المسكينة , إنها لطفلة صعبة المراس , لقد كنت أبحث لها عن أمر تنشغل به ـ أعتقد أن هناك أشياء كثيرة يمكن للمرء أن يتعلمها من خلال المراسلة . كتصميم وتفصيل الثياب ـ أو يمكنها أن تتعلم الكتابة الاختزالية . "
وكان لا يزال تطل من عيني جوانا نظرة حنق . وقالت عندما جلستا ثانية قبالة طاولة اللعب : " أعتقد أنها تستطيع أن تحضر بعض الحفلات وما شابه ذلك . ألا تفكرين فس إقامة حفل راقص على شرفها ؟ "
قالت السيدة سيمنجتون بمنتهى الدهشة : " حفلة راقصة ؟ كلا بالطبع , إننا لم نعتد القيام بمثل هذه الأمور هنا . "
" فهمت , إنكم لا تقيمون إلا حفلات التنس أو ما شابه ذلك . "
" إن ملعب التنس ـ الخاص بنا لم يمارس أحد اللعب عليه منذ سنين . وإنني لا أمارس التنس ولا ريتشارد أيضاً . ولكن ربما عندما يشب الولدان ـ سوف تجد ميجان الكثير من الأمور لكي تفعلها . إنها الآن تجد سعادتها في التجول في الأنحاء القريبة . ترى هل نسيت أن أوزع الورق ؟ "
بينما كنا في طريق عودتنا بسيارتنا , قالت جوانا وهي تظغط على دواسة البنزين بقوة جعلت السيارة تندفع بسرعة " إنني أرثى لحالة هذه الفتاة بشدة . "
" أتعنين ميجان ؟ "
" نعم , إن أمها لا تحبها . "
" لا يا جوانا , الأمر ليس بهذا السوء . "
" بل هو بهذا السوء , هناك الكثير من الأمهات لا يحببن أطفالهن . إنني أستطيع أن أتخيل هذا الأمر : فميجان هي مصدر للإحراج في هذه العائلة . إنها تفسد الصورة المثالية لعائلة سيمنجتون , فبدونها تبدو العائلة كياناً متكاملاً لا يعبه شيء ـ وهذا الأمر يسبب لهذه المخلوقة الحساسة ضرراً لا يفوقه أي ضرر . "
قلت لها : " نعم , إنني أراها إنسانة حساسة للغاية . "
ران علينا الصمت لحظة .
قال جوانا : " إن الحظ لم يحالفك مع مربية الأطفال تلك . "
قلت لها بكبرياء : " لا أدري ماذا تعنين . "
" كفاك من هذا الهراء , إنك تعلم جيداً ما أعني , لقد كسا وجهك حنق ذو طابع ذكوري عندما كنت تنظر إليها , إنني أوافقك أنها ساخرة . "
" لا أعرف عم تتحدثين . "
" إلا أنني مع هذا سعيدة . إنها إشارة جيدة على أنك عدت إلى الحياة من جديد . لقد كنت في المصحة , فهناك لم تكن حتى لم تلق بالاً لتلك الممرضة الحسناء التي كانت تقوم على رعايتك , رغم أنها كانت آية في الحسن . "
" إنني أجد في كلامك ابتذالاً يا جوانا . "
إلا أنها واصلت حديثها كأنها لم تسمعني وقالت : " ولهذا شعرت براحة كبيرة عندما رأيتك تبدي اهتماماً بفتاة حسناء . إنها بالفعل حسناء ولكن الغريب أنها ليست جذابة . هناك شيء لا أعرفه يجعل بعض الفتيات جذابات والبعض لا . ما الذي يجعل الرجال يفتنون ببعض النساء حتى وإن لم يقلن إلا عادياً على شاكلة : " يا لهذا الطقس السيء ."وهناك نساء يملكن وجوهاً آية في الحسن والجمال (أفروديت) ولكنهن غير جذابات على الإطلاق . وتجد أن النساء الأقل جمالاً يمتلكن هذا السحر وهو الأمر الذي يقود الفتيات الأخريات إلى الجنون , ويقلن : لا أعرف ماذا يرى الرجال في تلك المرأة , إنها غير جميلة على الإطلاق . "
" هل انتهيتي يا جوانا ؟ "
" ألا توافقني الرأي ؟ "
ابتسمت قليلاً وقلت : " أعترف بأنني أصبت بشيء من خيبة الأمل . "
" وإني لا أرى لك بديلاً غيرها وقد تضطر إلى أن تحول اهتمامك إلى إيمي جريفيث . "
قلت لنفسي : " لا سمح الله . "
قالت جوانا : " إنها فتاة حسناء كما تعلم . "
" إنها تبدو لي كواحدة من مقاتلات الأمازون . "
قالت جوانا : " يبدو لي أنها تستمتع بحياتها جيداً . وهي طيبة القلب أيضاً . إنني لن أندهش لو علمت أنها تستحم بماء بارد كل صباح . "
سألتها : " وماذا أنت فاعلة في نفسك ؟ "
" في نفسي ؟ "
" نعم , إنك تحتاجين لأن تشغلي نفسك بأمر ما , فأنا أعرفك جيداً . "
تنهدت جوانا بعمق وقالت : " من لاذي يتحدث بابتذال الآن ؟ وغير هذا أنك نسيت بول . "
" إنني لن أنساه بأسرع مما تنسيه أنت , إنك خلال عشرة أيام سوف تقولين : بول؟ بول من ؟ إنني لا أعرف أحداً يدعى بول . "
قالت جوانا : " إنك تظنني امرأة متقلبة المزاج . ط
" عندما يتعلق الأمر بأناس مثل بول فإنني أكون سعيداً لتقلب مزاجك هذا . "
" إنك لم تحبه يوماً , إلا أنه كان على درجة شديدة من العبقرية . "
" ربما , مع أنني أشك في هذا . على أي حال سمعت أن العباقرة أناس لا يطاقون . والجيد في الأمر أنك لن تستطيعي أن تجدي عبقرياً هنا . "
فكرت جوانا بعض الوقت وهي تحني رأسها ثم قالت بنبرة نادمة : " أخشى أن يكون هذا صحيحاً يا جيري . "
قلت لها : " على أية حال ليس لديك إلا أوين جريفيث . إنه هو الأعزب الوحيد في هذه البلدة . إلا إذا كنت تفكرين في الكولونيل أبلتون ؛ فلقد كان ينظر إليك كالكلب الجائع طوال جلستنا . "
ضحكت جوانا قائلة : " نعم لقد كان يحدق إلي بشدة , أليس كذلك ؟ لقد كان هذا الأمر محرجاً للغاية . "
" كفِّي عن التظاهر , إنك لم تشعري بالإحراج للحظة . "
مضت جوانا في القيادة وتجاوزت البوابة إلى المرآب . ثم ثالت : " ربما تكون محقاً إلى حد ما في فكرتك تلك . "
" أية فكرة ؟ "
" لا أفهم لماذا يقدم رجل ما على أن يغير من طريقه لكي يتجنبني , إن هذا لتصرف وقح ـ بصرف النظر عن أي شيء . "
قلت لها : " فهمت , إنك تريدي اصطياد الرجل بدم بارد . "
" إنني لا أحب أن يتجنبني أحد . "
خرجت من السيارة بحذر , وتوكأت على عكازي ثم قدمت لأختي نصيحة ..
" دعيني أقول لك هذا يا فتاة . أوين جريفيث ليس كأي من رفاقك الخاملين ذوي الطبيعة المحبة للفن . وإذا لم تأخذي حذرك سوف تفتحي عش الدبابير . إنه لرجل خطير . "
قالت جوانا وبدا أنها تستمتع بهذا الأمر : " هل تعتقد هذا ؟ "
قلت لها بإصرار : " هلا تركت ذلك الرجل لحاله ؟ "
" كيف يجرؤ على تغيير طريقه ليتجنبني ؟ "
" إن النساء لهن ذات الطبع . كلكن تعزفن على نفس النغمة . وإذا لم أكن مخطئاً فسوف تجدين أخته إيمي تشتكي منك . "
قالت جوانا : " إنها من البداية تكرهني . " كانت تتحدث وهي في حالة من التأمل ولكن بشيء من الرضا .
قلت لها مصراً : " إننا قد جئنا لهذا المكان طلباً للهدوء وراحة البال , وإنني حريص على أن أجدهما . "
إلا أن الهدوء وراحة البال كانا أبعد ما يكونا عنا .
يتبع ...

بهــــاء الزعيم
01-03-2011, 05:08 PM
لا تتاخر
...............

القيصر
01-03-2011, 09:01 PM
لا تتاخر !!!!!!!!!!!!!كلمة لم افهم ماترمي اليه ؟؟؟

اخ بهاء ماذا تعني كلمتك ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وشكرا".

زهرة قاسيون
01-04-2011, 12:13 AM
هذا الموضوع يحتاج إلى إبريق شاي وقعدة!!
تسلم الأيادي التي نقلت الموضوع..خالي العزيز

بهــــاء الزعيم
01-04-2011, 07:57 PM
القيصر تحية لك


قصدت بالكلمة (لا تتاخر)

علينا بالبقية الأن الفاصل الطويل يفقد الرواية متعتها وتسلسل احداثها وارجو اختيار الألوان الغامقة في الكتابة


هذا مقصدي فقط لاغير

تقبل مروري

القيصر
01-05-2011, 08:22 PM
تكرم عيونك الاخ بهاء .سوف اقوم باتمام هذه الرواية واتبعها بروايات علمية رائعة يتذوقها من له باع في الغوص باعماق الافكار والمعارف والاداب والعلوم الانسانية العالمية.

القيصر
01-05-2011, 08:24 PM
الفصل الرابع
1
كان قد مضى أسبوع عندما أخبرتني بارتريدج أن السيدة بيكر تريد التحدث إلي قليلاً .
لم يبد لي اسم السيد بيكر مألوفاً على الإطلاق .
تساءلت في تحير : " من الآنسة بيكر , ألا يمكنها التحدث مع الآنسة جوانا ؟ "
ولكن علمت أنها لا تريد أن تتحدث معي أنا بالذات , ثم علمت فيما بعد أن السيدة بيكر هي والدة الفتاة بياترس .
كانت بياترس قد غابت عن ذهني تماماً , ولم أنتبه لهذا إلا عندما رأيت تلك المرأة التي تجاوزت الأربعين عاماً , ونال الشيب من بعض خصلات شعرها , والتي كانت جاثية على ركبتيها تغسل أرضية الحمام والسلالم والردهات . ولقد أدركت أنها الخادمة الجديدة . ولولا تلك المرأة لما خطرت بياترس بذهني أبداً .
ولم أستطع أن أرفض مقابلة والدة بياترس , خاصة بعد أن علمت بأن جوانا ليست موجودة في المنزل , ولكنني أعترف بأنني كنت أشعر ببعض الضيق حيال هذا الأمر.
ولقد كنت آمل بشدة ألا أتهم بالتلاعب بعواطف بياترس .
وأخذت ألعن في داخلي تلك التصرفات السخيفة التي يقوم بها كاتب هذه الرسائل المجهولة , ولكنني لم أفعل شيئاً إلا أن أطلب من بارتريدج أن تحضر والدة بياترس لمقابلتي .
كانت السيدة بيكر ضخمة الجثة طويلة القامة , وكانت تتحدث بسرعة شديدة . ولكنني شعرت بالكثير من الراحة عندما لم ألمح في صوتها أي نبرة غضب أو اتهام . بدأت السيدة بيكر الحديث ما أن انغلق باب الغرفة خلف بارتريدج قائلة : " أرجو يا سيدي أن تغفر لي جرأتي في طلب مقابلتك . ولكنني ظننت يا سيدي أنك الشخص المناسب الذي ينبغي أن آتي إليه ، ولسوف أكون شاكرة إذا ما كنت ستنصحني بما ينبغي عمله في ظل هذه الظروف الراهنة ، لأنه في رأيي يا سيدي لا بد من القيام بشيء ما في هذا الصدد ، وإنني لست من هؤلاء الناس الذين يتركون الأمور تتفاقم ، وما أقوله هنا هو أنه لا فائدة من الشكوى والتذمر ، وإنما لا بد من ترك الكلام والبدء في الفعل كما قال رجل الدين الأسبوع قبل الماضي . "
شعرت ببعض الحيرة لأنني أحست كأن هناك شيئاً أساسياً فاتني أن أفهمه في هذه المحادثة .
قلت لها : " بكل سرور , ألن تتفضلي بالجلوس يا سيدة بيكر ؟ إنني سوف أسعد بتقديم العون لك . "
ثم صمت للحظة منتظراً منها أن تجلس .
وجلست السيدة بيكر على حافة مقعدها بعد أن قالت : " أشكرك يا سيدي , إن هذا تصرف في غاية الكرم من جانبك يا سيدي . وإنني في غاية السعادة لأنني أتيت لمقابلتك , ولقد قلت هذا لـ بياترس عندما كانت تبكي في فراشها , لقد قلت لها إن السيد بيرتون سوف يعرف ما ينبغي عمله , فهو سيد مهذب قادم من لندن . ولا بد بالفعل من عمل شيء ما , ما بال هؤلاء الشباب المندفعين الذين لا يصغون إلى صوت العقل , ولا يصغون إلى أي كلمة تقولها فتاة ؟ وعلى كل حال لقد قلت لبياترس إنني لو كنت مكانها لفعلت كا ما في وسعي لكي أنتقم منه , وماذا عن تلك التاة في الطاحونة ؟ "
ازدادت حيرتي مع كلامها , فقلت : " معذرة , ولكنني لا أفهم , ما الذي حدث ؟ "
" إنها الخطابات يا سيدي , خطابات بذيئة . وغير لائقة كذلك . وبها كلمات سيئة ومثير للاشمئزاز بشدة . "
وهنا استرجعت شريط الأحداث في ذهني وتكشفت لي الأمور ؛ فقلت لها بيأس : " هل تلقت ابنتك المزيد من الرسائل ؟ "
ليست هي يا سيدي , هي لم تتلق إلا رسالة واحدة . تلك الرسالة التي كانت سبب رحيلها من هذا المنزل . "
قلت لها : " لم يكن هناك ما يدعو لأن ــ ! " , إلا أن السيدة بيكر قاطعتني بأسلوب حازم ولكنه مهذب وقالت : " لا داعي لأن تكمل يا سيدي , إن كل ما جاء في هذه الخطابات لا يعدو أن يكون بعض الأكاذيب الدنيئة . إنك يا سيدي لست من هذا النوع من الرجال , لقد أكدت الآنسة بارتريدج هذا ـ ولقد لمست هذا بنفسي . ما هي إلا أكاذيب حقيرة , ولكني قلت إنه من الأفضل أن تغادر بياترس المنزل لأنك تعرف جيداً ما يقال يا سيدي , إن الناس سيقولون لا دخان بلا نار , ولقد انزعجت الفتاة بشدة , لقد وافقت بياترس عندما رفضت المجيء إلى هنا ثانية , رغمم أن كلينا قد شعر بالأسف للارتباك الذي سببناه لكم بهذا . "
توقفت السيدة بيكر قليلاً وأخذت نفساً عميقاً ثم قالت بعد جهد : " ولقد كنت آمل أن يوقف هذا التصرف هذه الشائعات الحقيرة . ولكن جورج عامل الممرآب , وهو خطيب بياترس , قد تلقى واحدة من هذه الرسائل التي تفتري على ابنتي بياترس افتراءً فظيعاً , وكيف أنها على علاقة آثمة مع توم ابن فريد ليد بيترز ... وأؤكد لك يا سيدي أن ابنتي لم تقترف أبداً شيئاً ينافي الذوق والأخلاق . "
وهنا بدأ رأسي يطن ، فلقد زاد الأمر تعقيداً بظهور قصة توم ليد بيترز هذا .
قلت لها امنحيني فرصة لكي أستوعب هذا الأمر جيداً ، لقد تلقى خطيب بياترس رسالة مجهولة المصدر تتهم بياترس بتورطها في علاقة مع شاب آخر، أليس كذلك؟
" هذا صحيح يا سيدي – ولقد كانت رسالة بعيدة كل البعد عن التهذيب ، ولقد كانت مليئة بألفاظ بذيئة أثارت جنون جورج ، فجاء مسرعاً إلى بياترس وقال لها إنه لا يقبل أبداً هذا التصرف من جانبها ، ويرفض بأن تواعد رجالاً آخرين من وراء ظهره ... وعندما أخبرته أن هذا كذب حقير ، قال لها : " لا دخان بلا نار ." ، واندفع خارجاً من المنزل في غاية الغضب ، وبدت التعاسة على بياترس المسكينة . وعندها قلت لها إني سوف أرتدي قبعتي وأذهب لمقابلتك يا سيدي ... "
صمتت السيدة بيكر متوقعة مني أن أرد عليها تماماً كما يتوقع الكلب الحصول على جائزة بعد أن يؤدي حركة جيدة . ولكنني سألتها : " ولكن لماذا لماذا أتيتي إلي أنا بالذات ؟ "
" لقد علمت يا سيدي أنك تلقيت واحدة من هذه الرسائل الدنيئة , ولقد فكرت في أنك تعرف ـ وأنت القادم من لندن ـ ما الذي يتوجب فعله لعلاج هذا الأمر ؟ "
قلت لها : " لو كنت مكانكي لذهبت إلى الشرطة ؛ فلابد من وضع حد لهذا الأمر . "
نظرت لي السيدة بيكر وعلى وجهها أمارات الصدمة وقالت : " كلا يا سيدي , لا أستطيع أن أذهب للشرطة . "
" ولِم لا ؟ "
" لم يسبق لي أن تعاملت مع الشرطة , ولا أي أحد من عائلتي كذلك . "
" قد يكون هذا صحيحاً , ولكن الشرطة فقط هي من تستطيع أن تضع حداً لهذا الأمر , فهم موكلون بهذا . "
" هل أذهب إلى بيرت راندل ؟ "
كنت قد علمت أن بيرت راندل هو أحد رجال الشرطة .
" لابد أن هناك رقيباً أو مفتشاً في قسم الشرطة . "
" أنا أذهب إلى قسم الشرطة . "
قالتها السيدة بيكر بصوت خافت جعلني أشعر بالضيق " هذه هي النصيحة الوحيدة التي يمكنني أن أسديها لك . ط
صمتت السيدة بيكر وكان واضحاً أنها لم تقتنع بكلامي . ثم قالت بحزم وصرامة : " لابد لهذه الرسائل أن تتوقف يا سيدي , يجب أن تتوقف , وإلا سوف تحدث مصيبة عاجلاً أم آجلاً . "
قلت لها : " أعتقد أن المصيبة قد وقعت بالفعل ؟ "
" إنني أعني العنف يا سيدي , هؤلاء الشباب تنتابهم المشاعر العنيفة ـ وكذلك الرجال الكبار . "
سألتها : " هل هناك الكثير من هذه الرسائل وصلت إلى الناس في هذه البلدة ؟ "
أومأت السيدة بيكر بالإيجاب , وقالت : " إن الأمر يزداد سوءاً على سوء يا سيدي . فمثلاً , السيد بيدل وزوجته , اللذان كانا يعيشان في سعادة وهناء في منطقة بلوبور ـ والآن بعد أن تلقى السيد بيدل هذه الرسائل بدأ يفكر في أمور سيئة يا سيدي . "
ملت بجسدي للأمام وقلت لها : " سيدة بيكر هل لديك أية فكرة عن هوية كاتب هذه الرسائل المجهولة ؟ "
ولدهشتي الشديدة كالت برأسها للأمام . قالت : " كلنا لديه فكرة يا سيدي , كلنا يعرف بالظبط من يفعل هذا , من هو ذلك الآثم ؟ "
فكرت أنها تتردد في ذكر اسم معين , ولكنها أجابت بصراحة : " إنها السيدة كليت ـ هذا هو ما نحن جميعاً متأكدون منه ـ إنها كليت ولا شك . "
لقد سمعت الكثير من الأسماء الغريبة هذا الصباح .
ولقد اكتشفت أن السيدة كليت زوجة لرجل كهل يعمل بستانياً . وكانت تعيش في كوخ على طريق الطاحونة . إلا أنني لم أجد أي إجابات مرضية عنها . ولما سألتها لماذا تقدم السيدة كليت على فعل هذا أجابتني قائلة : " لأن هذا هو من صفاتها الشخصية . "
وفي النهاية تركتها تذهب بعد أن كررت لها نصيحتي بالذهاب للشرطة , والتي كنت متأكداً من أنها لن تأخذ بها . ولقد تركتني وأنا اشعر بأنني خذلتها بشكل ما .
وفكرت ملياً فيما قالته . فرغم غموض هذا الدليل الذي ساقته السيدة بيكر , أحسست بقبول فكرة أنه إذا ما اتفقت القرية كلها على أن السيدة كليت هي كاتبة هذه الخطابات فلابد أنهم محقون : وقررت أن أستشير جريفيث في هذا الأمر . فلابد أنه يعرف هذه المرأة المدعوة كليت , وإذا قبل نصيحتي فسأستطيع أنا أو هو أن نخبر الشرطة بأن هذه المرأة هي سبب كل الإزعاج الذي نشعر به .
وذهبت إلى جريفيث في الوقت الذي افترضت فيه أنه سيكون قد انتهى من عملياته الجراحية . وعندما خرج المريض الأخير من عنده , دلفت على غرفة الجراحة .
" مرحباً , أهذا أنت يا بيرتون ؟ "
" نعم , أريد أن أتحدث إليك . "
لخصت له محادثتي مع السيدة بيكر إلى أن انتيهيت إلى اتهامها للسيدة كليت بأنها السبب في هذا الأمر .
إلا أنني أصبت بالإحباط عندما هز جريفيث رأسه قائلاً : " ليس الأمر بهذه البساطة . "
" ألا تظن أن تلك المرأة المدعوة كليت هي السبب في هذا كله ؟ "
" ربما كانت بالفعل , ولكنني أستبعد هذا الاحتمال . "
" إذن لماذا يتهمها الجميع بهذا ؟ "
ابتسم قائلاً : " إنك لا تفهم . إن السيدة كليت تعتبر الساحرة الشريرة في القرية . "
صحت متعجباً : " يا إلهي الرحيم ! "
" نعم , هذا الكلام يبدو غريباً في وقتنا هذا , إلا أن هذا هو الواقع بالفعل . هناك اعتقادات راسخة تقول أن هناك بعض الأشخاص الذين ليس من الحكمة أن تهينهم . إن السيدة كليت تنتمي إلى أسرة من (( النساء الحكيمات )) , ولقد بذلت جهداً كبيراً كي تنشر هذه الأسطورة وتنميها . إنها امرأة شاذة الطباع وذات روح دعابة عالية . إنها قد لا تظهر أي قدر من التعاطف إذا ما حدث على سبيل المثال أن قطع طفل إصبعه أو سقط بشدة على الأرض أو أصيب بداء النكاف , فكل ما قد تفعله هو أن تهز رأسها قائلة : " هذا أفضل , فقد سرق تفاحاتي الأسبوع الماضي . " أو " لقد جذب ذيل قطتي . " . ومع الوقت بدأت الأمهات تبعدن أطفالهن عنها , وبعضهن بدأن في إهداءها العسل والكعك حتى يأمن ألا تتمنى المرض لأطفالهن . إنه لأمر خرافي وسخيف ولكنه حقيقي . ولذا فمن الطبيعي أن يعتقد أنها سبب كل هذا . "
" ولكن أليست هي كذلك ؟ "
" كلا ـ إنها ليست من هذا النوع ... ليس الأمر بهذه البساطة . "
نظرت له بفضول وقلت له : " أليس لديك أية فكرة ؟ "
أخذ يهز رأسه ولكن عيناه كانتا شاردتين وقال : " كلا ليس لدي أي فكرة , ولكن هذا الأمر لا يروقني يا بيرتون ــ هناك سوء كبير سوف ينجم عن هذا الأمر . "
يتبع..........

_________________

القيصر
01-05-2011, 08:25 PM
الفصل الرابع
1
كان قد مضى أسبوع عندما أخبرتني بارتريدج أن السيدة بيكر تريد التحدث إلي قليلاً .
لم يبد لي اسم السيد بيكر مألوفاً على الإطلاق .
تساءلت في تحير : " من الآنسة بيكر , ألا يمكنها التحدث مع الآنسة جوانا ؟ "
ولكن علمت أنها لا تريد أن تتحدث معي أنا بالذات , ثم علمت فيما بعد أن السيدة بيكر هي والدة الفتاة بياترس .
كانت بياترس قد غابت عن ذهني تماماً , ولم أنتبه لهذا إلا عندما رأيت تلك المرأة التي تجاوزت الأربعين عاماً , ونال الشيب من بعض خصلات شعرها , والتي كانت جاثية على ركبتيها تغسل أرضية الحمام والسلالم والردهات . ولقد أدركت أنها الخادمة الجديدة . ولولا تلك المرأة لما خطرت بياترس بذهني أبداً .
ولم أستطع أن أرفض مقابلة والدة بياترس , خاصة بعد أن علمت بأن جوانا ليست موجودة في المنزل , ولكنني أعترف بأنني كنت أشعر ببعض الضيق حيال هذا الأمر.
ولقد كنت آمل بشدة ألا أتهم بالتلاعب بعواطف بياترس .
وأخذت ألعن في داخلي تلك التصرفات السخيفة التي يقوم بها كاتب هذه الرسائل المجهولة , ولكنني لم أفعل شيئاً إلا أن أطلب من بارتريدج أن تحضر والدة بياترس لمقابلتي .
كانت السيدة بيكر ضخمة الجثة طويلة القامة , وكانت تتحدث بسرعة شديدة . ولكنني شعرت بالكثير من الراحة عندما لم ألمح في صوتها أي نبرة غضب أو اتهام . بدأت السيدة بيكر الحديث ما أن انغلق باب الغرفة خلف بارتريدج قائلة : " أرجو يا سيدي أن تغفر لي جرأتي في طلب مقابلتك . ولكنني ظننت يا سيدي أنك الشخص المناسب الذي ينبغي أن آتي إليه ، ولسوف أكون شاكرة إذا ما كنت ستنصحني بما ينبغي عمله في ظل هذه الظروف الراهنة ، لأنه في رأيي يا سيدي لا بد من القيام بشيء ما في هذا الصدد ، وإنني لست من هؤلاء الناس الذين يتركون الأمور تتفاقم ، وما أقوله هنا هو أنه لا فائدة من الشكوى والتذمر ، وإنما لا بد من ترك الكلام والبدء في الفعل كما قال رجل الدين الأسبوع قبل الماضي . "
شعرت ببعض الحيرة لأنني أحست كأن هناك شيئاً أساسياً فاتني أن أفهمه في هذه المحادثة .
قلت لها : " بكل سرور , ألن تتفضلي بالجلوس يا سيدة بيكر ؟ إنني سوف أسعد بتقديم العون لك . "
ثم صمت للحظة منتظراً منها أن تجلس .
وجلست السيدة بيكر على حافة مقعدها بعد أن قالت : " أشكرك يا سيدي , إن هذا تصرف في غاية الكرم من جانبك يا سيدي . وإنني في غاية السعادة لأنني أتيت لمقابلتك , ولقد قلت هذا لـ بياترس عندما كانت تبكي في فراشها , لقد قلت لها إن السيد بيرتون سوف يعرف ما ينبغي عمله , فهو سيد مهذب قادم من لندن . ولا بد بالفعل من عمل شيء ما , ما بال هؤلاء الشباب المندفعين الذين لا يصغون إلى صوت العقل , ولا يصغون إلى أي كلمة تقولها فتاة ؟ وعلى كل حال لقد قلت لبياترس إنني لو كنت مكانها لفعلت كا ما في وسعي لكي أنتقم منه , وماذا عن تلك التاة في الطاحونة ؟ "
ازدادت حيرتي مع كلامها , فقلت : " معذرة , ولكنني لا أفهم , ما الذي حدث ؟ "
" إنها الخطابات يا سيدي , خطابات بذيئة . وغير لائقة كذلك . وبها كلمات سيئة ومثير للاشمئزاز بشدة . "
وهنا استرجعت شريط الأحداث في ذهني وتكشفت لي الأمور ؛ فقلت لها بيأس : " هل تلقت ابنتك المزيد من الرسائل ؟ "
ليست هي يا سيدي , هي لم تتلق إلا رسالة واحدة . تلك الرسالة التي كانت سبب رحيلها من هذا المنزل . "
قلت لها : " لم يكن هناك ما يدعو لأن ــ ! " , إلا أن السيدة بيكر قاطعتني بأسلوب حازم ولكنه مهذب وقالت : " لا داعي لأن تكمل يا سيدي , إن كل ما جاء في هذه الخطابات لا يعدو أن يكون بعض الأكاذيب الدنيئة . إنك يا سيدي لست من هذا النوع من الرجال , لقد أكدت الآنسة بارتريدج هذا ـ ولقد لمست هذا بنفسي . ما هي إلا أكاذيب حقيرة , ولكني قلت إنه من الأفضل أن تغادر بياترس المنزل لأنك تعرف جيداً ما يقال يا سيدي , إن الناس سيقولون لا دخان بلا نار , ولقد انزعجت الفتاة بشدة , لقد وافقت بياترس عندما رفضت المجيء إلى هنا ثانية , رغمم أن كلينا قد شعر بالأسف للارتباك الذي سببناه لكم بهذا . "
توقفت السيدة بيكر قليلاً وأخذت نفساً عميقاً ثم قالت بعد جهد : " ولقد كنت آمل أن يوقف هذا التصرف هذه الشائعات الحقيرة . ولكن جورج عامل الممرآب , وهو خطيب بياترس , قد تلقى واحدة من هذه الرسائل التي تفتري على ابنتي بياترس افتراءً فظيعاً , وكيف أنها على علاقة آثمة مع توم ابن فريد ليد بيترز ... وأؤكد لك يا سيدي أن ابنتي لم تقترف أبداً شيئاً ينافي الذوق والأخلاق . "
وهنا بدأ رأسي يطن ، فلقد زاد الأمر تعقيداً بظهور قصة توم ليد بيترز هذا .
قلت لها امنحيني فرصة لكي أستوعب هذا الأمر جيداً ، لقد تلقى خطيب بياترس رسالة مجهولة المصدر تتهم بياترس بتورطها في علاقة مع شاب آخر، أليس كذلك؟
" هذا صحيح يا سيدي – ولقد كانت رسالة بعيدة كل البعد عن التهذيب ، ولقد كانت مليئة بألفاظ بذيئة أثارت جنون جورج ، فجاء مسرعاً إلى بياترس وقال لها إنه لا يقبل أبداً هذا التصرف من جانبها ، ويرفض بأن تواعد رجالاً آخرين من وراء ظهره ... وعندما أخبرته أن هذا كذب حقير ، قال لها : " لا دخان بلا نار ." ، واندفع خارجاً من المنزل في غاية الغضب ، وبدت التعاسة على بياترس المسكينة . وعندها قلت لها إني سوف أرتدي قبعتي وأذهب لمقابلتك يا سيدي ... "
صمتت السيدة بيكر متوقعة مني أن أرد عليها تماماً كما يتوقع الكلب الحصول على جائزة بعد أن يؤدي حركة جيدة . ولكنني سألتها : " ولكن لماذا لماذا أتيتي إلي أنا بالذات ؟ "
" لقد علمت يا سيدي أنك تلقيت واحدة من هذه الرسائل الدنيئة , ولقد فكرت في أنك تعرف ـ وأنت القادم من لندن ـ ما الذي يتوجب فعله لعلاج هذا الأمر ؟ "
قلت لها : " لو كنت مكانكي لذهبت إلى الشرطة ؛ فلابد من وضع حد لهذا الأمر . "
نظرت لي السيدة بيكر وعلى وجهها أمارات الصدمة وقالت : " كلا يا سيدي , لا أستطيع أن أذهب للشرطة . "
" ولِم لا ؟ "
" لم يسبق لي أن تعاملت مع الشرطة , ولا أي أحد من عائلتي كذلك . "
" قد يكون هذا صحيحاً , ولكن الشرطة فقط هي من تستطيع أن تضع حداً لهذا الأمر , فهم موكلون بهذا . "
" هل أذهب إلى بيرت راندل ؟ "
كنت قد علمت أن بيرت راندل هو أحد رجال الشرطة .
" لابد أن هناك رقيباً أو مفتشاً في قسم الشرطة . "
" أنا أذهب إلى قسم الشرطة . "
قالتها السيدة بيكر بصوت خافت جعلني أشعر بالضيق " هذه هي النصيحة الوحيدة التي يمكنني أن أسديها لك . ط
صمتت السيدة بيكر وكان واضحاً أنها لم تقتنع بكلامي . ثم قالت بحزم وصرامة : " لابد لهذه الرسائل أن تتوقف يا سيدي , يجب أن تتوقف , وإلا سوف تحدث مصيبة عاجلاً أم آجلاً . "
قلت لها : " أعتقد أن المصيبة قد وقعت بالفعل ؟ "
" إنني أعني العنف يا سيدي , هؤلاء الشباب تنتابهم المشاعر العنيفة ـ وكذلك الرجال الكبار . "
سألتها : " هل هناك الكثير من هذه الرسائل وصلت إلى الناس في هذه البلدة ؟ "
أومأت السيدة بيكر بالإيجاب , وقالت : " إن الأمر يزداد سوءاً على سوء يا سيدي . فمثلاً , السيد بيدل وزوجته , اللذان كانا يعيشان في سعادة وهناء في منطقة بلوبور ـ والآن بعد أن تلقى السيد بيدل هذه الرسائل بدأ يفكر في أمور سيئة يا سيدي . "
ملت بجسدي للأمام وقلت لها : " سيدة بيكر هل لديك أية فكرة عن هوية كاتب هذه الرسائل المجهولة ؟ "
ولدهشتي الشديدة كالت برأسها للأمام . قالت : " كلنا لديه فكرة يا سيدي , كلنا يعرف بالظبط من يفعل هذا , من هو ذلك الآثم ؟ "
فكرت أنها تتردد في ذكر اسم معين , ولكنها أجابت بصراحة : " إنها السيدة كليت ـ هذا هو ما نحن جميعاً متأكدون منه ـ إنها كليت ولا شك . "
لقد سمعت الكثير من الأسماء الغريبة هذا الصباح .
ولقد اكتشفت أن السيدة كليت زوجة لرجل كهل يعمل بستانياً . وكانت تعيش في كوخ على طريق الطاحونة . إلا أنني لم أجد أي إجابات مرضية عنها . ولما سألتها لماذا تقدم السيدة كليت على فعل هذا أجابتني قائلة : " لأن هذا هو من صفاتها الشخصية . "
وفي النهاية تركتها تذهب بعد أن كررت لها نصيحتي بالذهاب للشرطة , والتي كنت متأكداً من أنها لن تأخذ بها . ولقد تركتني وأنا اشعر بأنني خذلتها بشكل ما .
وفكرت ملياً فيما قالته . فرغم غموض هذا الدليل الذي ساقته السيدة بيكر , أحسست بقبول فكرة أنه إذا ما اتفقت القرية كلها على أن السيدة كليت هي كاتبة هذه الخطابات فلابد أنهم محقون : وقررت أن أستشير جريفيث في هذا الأمر . فلابد أنه يعرف هذه المرأة المدعوة كليت , وإذا قبل نصيحتي فسأستطيع أنا أو هو أن نخبر الشرطة بأن هذه المرأة هي سبب كل الإزعاج الذي نشعر به .
وذهبت إلى جريفيث في الوقت الذي افترضت فيه أنه سيكون قد انتهى من عملياته الجراحية . وعندما خرج المريض الأخير من عنده , دلفت على غرفة الجراحة .
" مرحباً , أهذا أنت يا بيرتون ؟ "
" نعم , أريد أن أتحدث إليك . "
لخصت له محادثتي مع السيدة بيكر إلى أن انتيهيت إلى اتهامها للسيدة كليت بأنها السبب في هذا الأمر .
إلا أنني أصبت بالإحباط عندما هز جريفيث رأسه قائلاً : " ليس الأمر بهذه البساطة . "
" ألا تظن أن تلك المرأة المدعوة كليت هي السبب في هذا كله ؟ "
" ربما كانت بالفعل , ولكنني أستبعد هذا الاحتمال . "
" إذن لماذا يتهمها الجميع بهذا ؟ "
ابتسم قائلاً : " إنك لا تفهم . إن السيدة كليت تعتبر الساحرة الشريرة في القرية . "
صحت متعجباً : " يا إلهي الرحيم ! "
" نعم , هذا الكلام يبدو غريباً في وقتنا هذا , إلا أن هذا هو الواقع بالفعل . هناك اعتقادات راسخة تقول أن هناك بعض الأشخاص الذين ليس من الحكمة أن تهينهم . إن السيدة كليت تنتمي إلى أسرة من (( النساء الحكيمات )) , ولقد بذلت جهداً كبيراً كي تنشر هذه الأسطورة وتنميها . إنها امرأة شاذة الطباع وذات روح دعابة عالية . إنها قد لا تظهر أي قدر من التعاطف إذا ما حدث على سبيل المثال أن قطع طفل إصبعه أو سقط بشدة على الأرض أو أصيب بداء النكاف , فكل ما قد تفعله هو أن تهز رأسها قائلة : " هذا أفضل , فقد سرق تفاحاتي الأسبوع الماضي . " أو " لقد جذب ذيل قطتي . " . ومع الوقت بدأت الأمهات تبعدن أطفالهن عنها , وبعضهن بدأن في إهداءها العسل والكعك حتى يأمن ألا تتمنى المرض لأطفالهن . إنه لأمر خرافي وسخيف ولكنه حقيقي . ولذا فمن الطبيعي أن يعتقد أنها سبب كل هذا . "
" ولكن أليست هي كذلك ؟ "
" كلا ـ إنها ليست من هذا النوع ... ليس الأمر بهذه البساطة . "
نظرت له بفضول وقلت له : " أليس لديك أية فكرة ؟ "
أخذ يهز رأسه ولكن عيناه كانتا شاردتين وقال : " كلا ليس لدي أي فكرة , ولكن هذا الأمر لا يروقني يا بيرتون ــ هناك سوء كبير سوف ينجم عن هذا الأمر . "
يتبع..........

_________________

القيصر
01-05-2011, 08:27 PM
2-
عندما عدت إلى المنزل وجدت ميجان جالسة على درجات الشرفة ، وكانت تسند ذقنها إلى ركبتيها .
حيتني بدون حرارة كالمعتاد قائلة : " مرحباً ، هل تعتقد أنه يمكنني أن آتي إلى مأدبة الغداء ؟ " .
قلت لها : " بكل تأكيد " .
" إذا كان الغداء هو أضلاع اللحم أو أي شيء معقد آخر ولن يكفي , فقط أخبرني . " , صاحت ميجان بهذا بينما كنت ذاهباً لأخبر بارتريدج بأن ثلاثة أشخاص سيكونون على الغداء اليوم .
واندهشت عندما رأيت ردة فعل بارتريدج . لقد أبدت لي دون أن تنبس ببنت شفة أنها لا تبالي على الإطلاق بالآنسة ميجان .
وعدت إلى الشرفة مرة أخرى .
سألتني ميجان بقلق : " هل كل شيء على ما يرام ؟ " .
قلت لها : " نعم ، كل شيء على ما يرام ، سيكون غداؤنا اليخنة الأيرلندية " .
" حسناً إنها لا تختلف كثيراً عن غذاء الكلاب ، أليس كذلك ؟ أعني أنها لا تزيد على البطاطس والدقيق ."
قلت لها : " نعم ، بالضبط . "
أخرجت علبة سجائري ، ومددت يدي بها إلى ميجان إلا أن الحمرة كست وجهها وقالت : " لكم كان هذا لطيفاً منك . "
" ألن تأخذي واحدة ؟ "
" كلا ، لا أدخن ، ولكنني أراه تصرفاً غاية في اللطف أن أتعرض على هذا – تماماً كما لو أنني كنت شخصاً حقيقياً . "
قلت لها بتعجب : " ألست شخصاً حقيقياً ؟ "
هزت رأسها وحاولت تغيير الموضوع بأن مدت ساقها الطويلة التي يغطيها التراب أمام ناظري وقالت بفخر : " لقد قمت برتق جواربي " .
أنا لا أعلم الكثير عن رتق الجوارب , إلا أنني حدثت نفسي أن حياكة بعض قطع الصوف المفتوحة ليس بإنجاز يستحق المرء أن يفخر به .
قالت ميجان : " ولكنني أشعر بأن جواربي كانت مريحة أكثر عندما كانت مثقوبة ."
قلت لها : نعم هذا ما يبدو . "
" هل أختك بارعة في رتق الجوارب ؟ "
حاولت أن أتذكر إذا ما كانت جوانا لها أي خبرة في مجال الأعمال اليدوية من هذا النوع .
واضطررت إلى أن أقر لها قائلاً : " لا أدري ! "
" ولكن ماذا تفعل إذا ثُقب أحد جواربها ؟ "
قلت متردداً : " أعتقد أنها تتخلص منه وتبتاع زوجاً جديداً . "
قالت ميجان : " هذا شيء جميل , ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا . فإن كل مصروف جيبي الذي أحصل عليه لا يتعدى الأربعين جنيهاً سنوياً . وهو مبلغ لا يستطيع المرء أن يفعل به الكثير . "
وافقتها على ذلك . فقالت بحزن : " لو أنني أمتلك جوارب سوداء , لكان بإمكاني أن أطلي قدمي باللون الأسود لكي لا تظهر الثقوب . وهذا هو ما كنت أفعله أيام المدرسة . فقد كانت الآنسة باتورثي ناظرة المدرسة , والتي كانت تولي اهتمامها لمظهرنا العام , كانت تماماً مثل اسمها كالخفاش الأعمى . وكنا نستغل هذا بشكل كبير . "
قلت لها : " لابد أنها كانت كذلك بالفعل . "
ران علينا الصمت كنت أدخن غليوني . لقد كان صمتاً مطبقاً . ولكن سرعان ما كسرت ميجان حاجز الصمت هذا قائلة فجأة وبحدة : " لابد أنك تعتقدني إنسانة فظيعة كما يعتقدني الآخرون . "
أجفلت بشدة , لدرجة أن غليوني سقط من فمي , لقد كان مصنوعاً من الميرشوم وكانت ألوانه جميلة . فقلت لميجان وأنا غاضب : " انظري ماذا فعلت . "
إلا أنها تصرفت تماماً كالأطفال الذين لا يمكن التنبؤ بردود أفعالهم وقالت وهي تبتسم : " إنك تروق لي بالفعل . "
كانت عبارتها تلك عبارة في غاية الدفء , عبارة قد يقولها كلبك إذا استطاع التحدث . لقد خطر لي أن ميجان ما هي إلا مجرد جواد يتخذ وضعية كلب . إنها لم تكن بشرية كاملة بكل تأكيد .
سألتها وأنا أجمع شظايا غليوني المكسور بحذر : " ماذا كنت تقولين قبل أن يسقط غليوني ؟ "
قالت : " لقد قلت أنك ربما تعتبرني إنسانة فظيعة . " ’ إلا أنها لم تنطق عذع العبارة بنفس اللهجة التي قالتها بها المرة السابقة .
" ولماذا قد اعتقد هذا ؟ "
قالت ميجان بكآبة : " لأنني كذلك بالفعل . "
قلت : " لا تكوني حمقاء . "
هزت ميجان رأسها وقالت : " إن هذا هو الواقع , أنا لست حمقاء , إن الناس يعتقدون هذا , وهم لا يعلمون أنني أعلم حقيقتهم , وأنني أكرههم . "
" تكرهينهم ؟ "
قالت ميجان : " نعم أكرههم . "
نظرت بعينيها الكئيبتين اللتين لا يمتان بصلة إلى مظهرها الطفولي إلى عيني مباشرة , دون أن ترمش ولو لمرة واحدة . لقد كانت نظرة طويلة كئيبة .
وقالت : " لقد كنت لتكره الناس لو كنت مكاني , إذا كنت منبوذاً . "
قلت لها : " ألا تظنين أنكي تبالغين في هذا الأمر قليلاً ؟ "
قالت ميجان : " نعم , هذا ما يقوله الناس دائماً عندما تخبرهم بالحقيقة . وهذه هي الحقيقة . إنني غير مرغوب فيّ ولا أدري لماذا ! لعلني أذكرها بأبي والذي كان قاسياً جداً عليها , وكان في غاية الفظاظة كما سمعت . إلا أن الأمهات لا يمكنهن أن يصرحن بأنهن يكرهن أطفالهن , أو أن يتخلصن منهن . إن القطط تأكل ما لا يروقها من صغارها , إن هذا أمر عقلاني , ولكن بشكل فظيع , فهو يسبب فوضى أو أذى . ولكن الأمهات من البشر لا يمكنهن ذلك , فعليهن أن يحفظن صغارهن وأن يعتنين بهم . ولكن الحقيقة أن أمي لا تريد سوى أن تعيش بمفردها هي وزوجها والأولاد . "
قلت لها بتمهل : " ما زلت أراك تهولين في الأمر يا ميجان , ولكن إذا ما كان كلامك صحيحاً , فلماذا لا تغادري هذا المنزل وتستلقي حياتك ؟ "
ابتسمت ابتسامة طفولية وقالت : " أتعني أن أحصل على عمل , وأكسب قوتي بنفسي ؟ "
" نعم . "
" وأي عمل هذا ؟ "
" أعتقد أنك يمكنك أن تتدربي على عمل ما , كأن تكوني كاتبة اختزال مثلاً , أو تكوني مسئولة حسابات . "
" لا أعتقد أنه بإمكاني فعل هذا . فأنا خرقاء للغاية في هذه الأمور . وبالإضافة إلى هذا ــــ "
" ماذا هناك ؟ "
أشاحت بوجهها عني , ثم أدراته ببطء ناحيتي من جديد . وكان وجهها مربداً , وترقرقت بعض الدموع في عينيها . وأخذت تتحدث وفي صوتها نبرة طفولية للغاية وقالت : " لماذا يجب علي أن أرحل ؟ وأن أُجبر على الرحيل ؟ إنهم لا يريدونني ولكنني سأبقى . سأبقى وسأسبب لهم التعاسة . سوف أجعلهم يشعرون بالضيق والتعاسة . يا لهم من خنازير حقودة ! إنني أكره كل من في لايمستوك . إنهم جميعاً يرونني حمقاء وقبيحة . لسوف أريهم . لسوف أريهم . لسوف ــــ "
لقد كانت ثورة غضبها طفولية مثيرة للشفقة بشكل غريب . سمعت وقع أقدام على الأرضة المفروشة بالحصى التي تحيط بالمنزل , فقلت لها بغلظة : " انهضي واذهبي إلى الطابق الأول , حيث الحمام في نهاية الممر كي تغسلي وجهك , هيا أسرعي . "
قفزت ونظرت إلي بحرج وارتباك , واندفعت نحو النافذة عندما ظهرت جوانا بجواري وقالت : " يا إلهي , إنني أشعر بالحر الشديد , إنني أمقت هذه الأحذية الأيرلندية اللعينة . لقد مشيت بها لأميال , إن المرء لا يجدر به أن يجعل هذه الأحذية تثقب , فالحصى بنفذ من خلالها إلى القدم , وأعتقد يا جيري أننا نحتاج لأن نقتني كلباً . "
قلت لها :" وأنا كذلك أعتقد هذا . بالمناسبة , إن ميجان ستتناول الغداء معنا اليوم ."
" حقاً , عظيم ! "
سألتها : " هل تروق لك ؟ "
قالت جوانا : " أعتقد أنها طفلة , طفلة كالتي في تلك الخرافة تقول , إن الجنيات يستبدلن بعض الأطفال بأطفال آخرين , إنه من الممتع أن يلتقي المرء بإحدى الأطفال الآخرين . إيه ــ علي أن أذهب وأغتسل . "
قلت لها : " ليس الآن ؛ فميجان تغتسل الآن في الحمام . "
" لقد تلطخت قدماها بالوحل مرة أخرى , أليس كذلك ؟ "
ثم أخرجت جوانا مرآتها وأخذت تنظر إلى وجهها باهتمام وقالت : " لا أعتقد أنني أحب أحمر الشفاة هذا . "
وهنا دلفت ميجان من الباب , وكانت مهندمة الثياب ونظيفة , ولم تبد عليها أي من آثار ثورتها السابقة . وأخذت تنظر إلى جوانا بريبة .
قالت لها جوانا وهي لا تزال منشغلة بالنظر إلى وجهها : " مرحباً , لقد سعدت تماماً عندما سنعت أنك ستتناولين طعام الغداء معنا اليوم . يا إلهي ! إن هناك نمشاً على أنفي , لابد أن أفعل شيئاً حيال ذلك . إن النمش هو شيء خطير . ذو طابع اسكوتلاندي . "
وهنا أتت بارتريدج وأخبرتنا أن الطعام قد أُعد .
قالت جوانا : " هيا , إنني أتضور جوعاً . "
وتأبطت ذراع ميجان ورافقتها إلى المنزل .
يتبع ...

القيصر
01-05-2011, 08:28 PM
الفصل الخامس
1
أعلم أن هناك شيئا مفقودا ً في قصتي هذه . فحتى الآن لم أذكر شيئا عن السيدة دين كالثروب ، وكذلك عن رجل الدين كاليب دين كالثروب .
والشيء الغريب أن رجل الدين هذا وزوجته كانا ذوي شخصيتين مختلفتين تماماً .
كان دين كالثروب أكثر من رأيتهم زهداً في الحياة الدنيوية على الإطلاق . وكانت حياته كلها تدور في نطاق كتبه ودراسته وعلمه الغزير بالتاريخ الديني . ولكن على النقيض من هذا ، كانت زوجته إنسانة اجتماعية بشكل مبالغ فيه . إنني ربما أغفلت ذكرها لأنني كنت أخشاها بعض الشيء . لقد كانت امرأة ذات شخصية متميزة ، وذات علم غزير . لم تبد لي مناسبة لأن تكون زوجة لرجل الدين – ولكنني عندما فكرت في الأمر قليلاً ، سألت نفسي ما الذي أعرفه أنا عن زوجات رجال الدين ؟
فالإنسانة الوحيدة التي كنت أعرفها وكانت لزوج رجل الدين , كانت السيدة عادية لا يميزها شيء ، وكانت في غاية الإخلاص لزوجها الذي كان ضخم الحجم قوي الشكيمة ، له طريقة ساحرة في اجتذاب الآخرين إليه .
وقد كانت متشددة الفكر بحيث لا يمكن للمرء أن يكمل محادثة معها .
وغير هذا منت أستمد رؤيتي لزوجات رجال الدين من تلك الصورة الهزلية التي كانت تصورهن نسوة فضوليات يدسسن أنوفهن في كل شيء , ويتلفظن بالتفاهات . إلا أنني أشك أن هذه الصورة حقيقية .
فالسيدة دين كالثروب لم تدس أنفها يوماً في اي شيء , إلا أنه كانت لديها قدرة فير قابلة للتفسير على الإحاطة بكل الأمور علماً , وسرعان ما اكتشفت أن كل من في القرية يخشونها . مع إنها لم تكن تتدخل فيما لا يعنيها ولم تكن كذلك تسدي النصح لأي كائن من كان , ومع ذلك كانت بالنسبة لهؤلاء الذين يخشونها سيفاً مسلطاً على رقابهم .
لم أر في حياتي امرأة لا تبالي بالطبيعة حولها مثل هذه المرأة . في الأيام التي يكون الطقس فيها حاراً , كانت ترتدي تنورة من الصوف , أما في الأيام التي تهطل فيها الأمطار كنت أراها تسير شاردة الذهن وهي ترتدي ثوباً قطنياً أو قميصاً خفيفاً زاهي الألوان . لقد كان لها وجه نحيف يشبه وجوه كلاب الجري هاوند وكان لها أسلوب في الكلام مبالغاً في الصراحة .
في ذلك اليوم الذي أتت فيه ميجان لتناول الغداء معنا , قابلتني السيدة دين كالثروب في الشارع الرئيسي وأوقفتني لتتحدث معي , ولقد شعرت بالدهشة كالعادة لأن طريقة مشي السيدة دين كالثروب كانت أقرب إلى الركض منها إلى السير , وكانت دائماً ما تثبت عينيها على الأفق البعيد فتشعر وكأنها تسعى لهدف على بعد الميل ونصف الميل .
قالت : " أوه , سيد بيرتون ! "
قالتها بانتصار وكأنما نجحت في حل أحجية عويصة , قلت لها إنني بالفعل السيد بيرتون , فتوقفت السيدة دين كالثروب وهي تنظر إلى الأفق البعيد , وكانت تتظاهر بأنها تنظر إلى .
" والآن ما الذي كنت أريدك بشأنه ؟ "
لم يكن باستطاعتي مساعدتها , فوقفت وهي متجهمة ومرتبكة للغاية . قالت : " إنه لشيء بغيض . "
قلت لها وأنا مذهول : " إني آسف لهذا . "
صاحت السيدة دين كالثروب : " آه , إنني أرى هذه القصة شيئاً بغيضاً , ما هذه القصة التي أحضرتها إلى البلدة, أعني قصة الخطابات هذه ؟ تلك الخطابات مجهولة الهوية ؟"
قلت لها : " لم أحضرها , لقد كانت موجودة قبل حضوري . "
قالت لي وفي صوتها نبرة اتهام : " لم يتلق أي أحد خطاباً قبل حضورك . "
قلت لها : " بلا , لقد كان بالفعل هناك من تلقى مثل هذه الخطابات يا سيدة دين كالثروب , لقد كانت المشكلة موجودة منذ فترة . "
قالت السيدة دين كالثروب : " يا إلهي , إن هذا لا يروق لي . "
وظلت واقفة تشخص بنظرها ثم قالت : " لا أستطيع إلا أن أشعر بأن هذا الأمر كله سيء . إننا لسنا معتادين على هذا , لسنا معتادين على الأحقاد والضغائن , وكل أنواع الخطايا الصغيرة تلك . ولكنني لا أستطيع أن أفكر في شخص ما يمكنه أن يأتي بمثل هذا العمل ـ كلا , لا أستطيع . وهذا ما يزعجني ويسبب لي الضيق , لأنني كما تعلم ينبغي لي أن اعرف . "
وهنا تحولت عيناها عن الأفق البعيد وتركزت على عيني وكانت هاتين العينين قلقتين قلقاً طفولياً .
" إنني دائماً ما أعرف , فلطالما ظننت أن هذه هي مهمتي في الحياة , إن كاليب بارع في إلقاء المواعظ وإسداء النصح وهذا هو دور رجل الدين , ولكن إذا ما كان هناك شيء يسمى الزواج من رجل دين فستكون مهمة الزوجة هي أن تعرف ما يفكر به الناس حتى وإن كانت لا تستطيع فعل شيء إزاء هذا الأمر , ولكنني لا توجد لدي أدنى فكرة عمن يكون قد ... "
قطعت حديثها لفترة ثم قالت : " هناك بعض الخطابات السخيفة الأخرى . "
" هل تلقيت أي رسائل من هذا النوع ؟ "
كنت أشعر ببعض الحرج عندما سألتها هذا السؤال , إلا أنها أجابت بكل تلقائية وعيناها متسعتان : " نعم , إثنتان منها , بل ثلاث , لكنني نسيت ما كان مكتوباً فيها بالظبط . ولكنه شيء سخيف عن علاقة كاليب بإحدى المدرسات , كما أذكر أنه شيء في غاية العبث , لكن كاليب هو أزهد الناس في النساء , ولم يكن يوماً لديه الرغبة فيهن . من حسن حظه أن أصبح رجل دين . "
قلت لها : " هذا صحيح تماماً . "
قالت : " لقد كان كاليب غارقاً دائماً في طلب العلم . "
لم أجد في نفسي الصلاحية لكي أرد على هذا النقد , وعلى أي حال مضت السيدة كالثروب في التحدث تارة عن زوجها , وتارة أخرى عن تلك الخطابات , حتى أنها أصابتني بالارتباك .
" الغريب في الأمر هو أن هناك العديد من الأمور التي يمكن أن تفصح عنها هذه الرسائل , إلا أنها لا تفعل هذا , وهذا هو الأمر المحير . "
قلت لها بضيق : " لا أعتقد أن هذه الرسائل تركت حداً للتهذيب والأخلاق ولم تتجاوزه . "
قالت : " ولكن كتّاب هذه الرسائل يبدو أنهم لا يعرفون شيئاً . إن أي شيء يذكرونه لا يمت للحقيقة بصلة على الإطلاق . "
" ماذا تعنين ؟ "
ومن جديد تلاقت عيناها الغامضتين بعيني وقالت : " إن هذه البلدة متخمة بالفساد الخلقي , وكل شيء آخر , كل الأسرار تتواجد في هذه البلدة . لماذا لا يكتب مرسل هذه الخطابات عنها ؟ "
توقفت للحظة عن الحديث ثم سألتني : " ماذا كان فحوى رسالتك ؟ "
" لقد زعموا بأن أختي ليست أختي في الحقيقة . "
سألتني السيدة دين كالثروب دون أدنى حرج : " وهل هي أختك بالفعل ؟ "
" بالتأكيد جوانا هي أختي . "
أومأت السيدة دين كالثروب برأسها وقالت : " هذا هو ما أعنيه , وإنني لأجرؤ على القول بأن هناك أموراً أخرى أيضاً ــــ "
ثم أخذت تحدق إلي بعينيها الضافيتين الشاردتين , وفجأة أحسست بأنني أفهم لماذا يخشى كل سكان لايمستوك السيدة دين كالثروب .
دفي حياة كل منا مواقف وأشياء خفية نريد ألا يكتشفها أحد . ولقد شعرت بأن السيدة دين كالثروب تعلم هذه الأشياء الخفية .
وللمرة الأولى في حياتي شعرت بالسرور عندما سمعت صوت إيمي جريفيث يشق السكون قائلاً : " مرحباً يا مود , إنني سعيدة لأنني قابلتك . كنت أريد أن أقترح عليك تأخير موعد المزاد , صباح الخير يا سيد بيرتون . "
ثم أكملت قائلة : " علي أن أذهب إلى محل البقال وأوصيهم بإعداد طلب لي , ثم سأذهب إلى المعهد مباشرة , إذا كان هذا يناسبك . "

قالت السيدة دين كالثروب : " حسناً , حسناً , هذا يناسبني تماماً . "
وذهبت إيمي جريفيث إلى محلات (( إنترناشونال ستورز )) .
قالت السيدة دين كالثروب : " يا لها من مسكينة . "
أصابتني دهشة عظيمة , إذ لم أكن أعرف لماذا تشفق هي على إيمي جريفيث .
إلا أنها تابعت قائلة : " كما تعلم يا سيد بيرتون أنني أخشى أن ـــ "
" هل تعنين هذه الخطابات ؟ "
" نعم , كما ترى , إنها تعني ــ لابد أنها تعني ـــ "
صمتت في حيرة لبعض الوقت وزاغت عيناها . ثم قالت بلهجة من حل لغزاً : " الكراهية العمياء ... نعم الكراهية العمياء . ولكن حتى الرجل الأعمى قد يطعن في القلب عن طريق الصدفة البحتة ... وماذا سيحدث بعد يا سيد بيرتون ؟ "
ولقد كان لنا أن نعلم هذا قبل انقضاء يوم آخر ."
يتبع.........

القيصر
01-05-2011, 08:31 PM
من روائع الأدب العالمي
2
لقد كانت بارتريدج هي من حملت لنا خبر الكارثة . وبارتريدج تحب الكوارث . ودائماً ما كان أنفها يختلج في نشوة عندما تكون حاملة لأية أخبار سيئة .
فقد دخلت غرفة جوانا وأنفها آخذ في الاختلاج , وعيناها تلمعان , وشفتاها ممطوطتان تتصنعان الحزن . قالت وهي تزيح ستائر الغرفة : " هناك أخبار مفزعة هذا الصباح يا آنستي . "
وكانت جوانا تمتلك تلك العادة في أن تستغرق دقيقة أو دقيقتين لكي تستعيد وعيها بعد أن تستيقظ في الصباح . ولهذا فكل ما قالته هو : " أوه . " ثم تقلبت في فراشها دون أدنى اهتمام .
وضعت بارتريدج قدح شاي الصباح بجوارها , ثم بدأت تتحدث من جديد قائلة : " أخبار رهيبة , صدمة لم أستطع أن أصدقها حين سمعتها في البداية . "
قال جوانا وهي تجاهد لتستعيد وعيها : " أية أخبار مفزعة تلك ؟ "
قالت بارتريدج : " السيدة سيمنجتون المسكينة . "
ثم صمتت للحظة بشكل درامي ثم أردفت : " ماتت . "
ثم انتفضت جوانا في فراشها قائلة : " ماتت ؟ "
" نعم يا آنسة جوانا , لقد حدث هذا البارحة بعد الظهيرة , وأسوأ ما في الأمر أنها انتحرت . "
" يا إلهي ! مستحيل يا بارتريدج . "
كانت جوانا مصدومة للغاية , فالسيدة سيمنجتون لم تكن من نوعية الفتيات التي تصيبهم المآسي .
" نعم يا آنسة . لقد تعمدت قتل نفسها . ولكن هذا لم يكن ليحدث لو لم يكن هناك ما يدفعها لاقتراف ذلك . يا لها من مسكينة . "
قالت جوانا : " يدفعها شيء ما ؟ "
فأومأت بارتريدج برأسها موافقة وقالت : " هذا صحيح يا آنستي , بسبب واحد من تلك الخطابات البغيضة . "
" وماذا جاء في هذا الخطاب ؟ "
ولكن هذا ما عجزت بارتريدج عن معرفته وهو الأمر الذي جعل بارتريدج في غاية الأسف .
قالت جوانا : " إنها تصرفات دنيئة , ولكن مع هذا لا أفهم ما الذي في هذه الخطابات يمكنه أن يجعل المرء يقتل نفسه ؟ "
أخذت بارتريدج نفساً عميقاً ثم قالت : " قد تفعل فقط إذا ما كانت حقيقية . "
قالت جوانا : " يا إلهي . "
تناولت جوانا قدح الشاي بعد أن غادرت بارتريدج الغرفة ـ ثم ارتدت معطفها وأتت إلي لكي تبلغني هذه الأخبار .
أخذت أتفكر فيما قاله أوين جريفيث . لقد قال إن عاجلاً أو آجلاً ستنطلق الرصاصة ولا ندري من ستصيب . ويبدو أنها أصابت السيدة سيمنجتون . إنها لم تكن تبدو من طراز هؤلاء النساء اللاتي يحملن أسراراً خفية في ماضيهن ... لقد كان إحساسي صحيحاً , لقد كنت أرى وراء شراستها الشديدة تلك امرأة هشة ضعيفة . لقد كانت من طراز النسوة الضعيفات اللاتي يعتمدن على الآخرين واللاتي ينهرن بسهولة .
وكزتني جوانا بذراعها وسألتني عما أظنه بشأن هذا الأمر .
فكررت لها ما قاله أوين جريفيث , فقالت : " بالطبع , لابد أنه يعرف كل شيء على الموضوع . فهذا الرجل يعرف كل شيء . "
قلت : " إنه بارع . "
قالت جوانا : " بل هو متغطرس , متغطرس للغاية . "
ثم صمتت لدقيقة أو اثنتين وقالت : " يا له من أمر فظيع لزوجها ولابنتها . ترى ما هو شعور ميجان الآن ؟ "
لم يكن لدي أدنى فكرة , وأعلنت لها ذلك بصراحة , لقد كان من العجيب أنه لا يستطيع أحد أن يخمن ما تشعر به ميجان الآن أو بماذا تفكر .
أومأت جوانا برأسها قائلة : " لا يستطيع أحد أن يعرف ماذا يدور بخلد تلك الطفلة ربيبة الجنيات . "
ثم صمتت للحظة وقالت : " هل تعتقد ـ إذا ما كنت توافق على هذا ـ أنها قد تحب أن تأتي وتمكث معنا ليوم أو يومين ؟ لقد تلقت هذه الفتاة صدمة شديدة . "
قلت لها موافقاً : " يمكننا أن نقترح عليها هذا . "
قالت جوانا : " أعتقد أن الأولاد سيكونون بخير , فلديهم مربية الأطفال تلك . ولكن أعتقد أن تلك المرأة يمكنها أن تقود ميجان إلى الجنون . "
فكرت أن هذا محتمل للغاية , فقد كان يمكنني أن أتخيل تلك المرأة وهي تستمر بالتفوه بتلك التفاهات , ولا تنفك تعرض عليها احتساء المزيد من أقداح الشاي . إنها مخلوقة طيبة السريرة ولكنني لا أظنها مناسبة لإنسانة حساسة كميجان .
لقد كنت أفكر بالفعل بأن تبتعد ميجان عن منزلها في هذه الفترة العصيبة . ولقد سعدت عندما علمت أن جوانا تفكر في نفس الشيء بشكل عفوي دون إيعاز مني . وبعدما انتهينا من تناول الإفطار ذهبنا إلى بيت آل سيمنجتون .
وكن منزعجين بعض الشيء , فقد كان قدومنا يبدو تطفلاً شديداً . ولكن لحسن الحظ قابلنا أوين جريفيث وهو خارج من بوابة القصر . وقد بدا قلقاً ومنشغلاً .
إلا أنه حياني بشيء من الحرارة وقال : " مرحباً يا بيرتون , إنني مسرور لرؤيتك. إن ما كنت أخشى أن يقع عاجلاً أو آجلاً قد وقع بالفعل . إنه لأمر لعين . "
قالت جوانا بصوت لا تستخدمه إلا عندما تتحدث مع إحدى عماتنا الصم : " صباح الخير دكتور جريفيث . "
فوجئ جريفيث وكست وجهه الحمرة وقال : " أو ـ صباح الخير يا آنسة بيرتون . "
قالت جوانا : " لقد ظننت أنك ربما لم تلاحظ وجودي . "
ازداد وجه جريفيث احمراراً , وكاد يذوب خجلاً . قال : " إنني في غاية الأسف , لقد كنت منشغلاً بأمر ما , فلم أنتبه . "
إلا أن جوانا تابعت كلامها دون رحمة وشفقة : " مع أنني في ذات حجم البشر الأسوياء ويمكن لأي أحد أن ينتبه لوجودي . "
انتحيت بها جانباً وقلت لها : " على رسلك أينها الشرسة . "
تابعت حديثي مع جريفيث قائلاً : " لقد كنت وأختي نتساءل يا جريفيث إذا ما كانت فكرة جيدة أن تمكث الفتاة معنا ليوم أو يومين . ما رأيك ؟ إنني لا أريد أن أدس أنفي في الموضوع ـ ولكن لابد أن الموقف عصيب للغاية على تلك الطفلة المسكينة, فماذا تظن رأي سيمنجتون في الأمر ؟ "
أخذ جريفيث يقلب الفكرة في رأسه لدقيقة أو اثنتين , ثم قال في النهاية : " أعتقد أن هذه الفكرة ممتازة , فهي فتاة عصبية , تقلبة المزاج , وسوف يكون من مصلحتنا أن تبتعد تماماً عن هذا الأمر . صحيح أن الآنسة هولاند تفعل العجائب مع الأولاد والسيد سيمنجتون نفسه , ولكن هذا يكفينا . فالسيد سيمنجتون مفطور القلب ـ مشتت التفكير . "
سألته بتردد : " هل كانت المسألة انتحاراً ؟ "
أومأ جريفيث برأسه قائلاً : " نعم بالفعل , لا يوجد احتمال في أن يكون الأمر حادثة . لقد كتبت رسالة قبل أن تموت قالت فيها : " لا يمكنني أن أستمر . " لابد أن البريد وصل في الظهيرة بالبارحة . لقد كان المظروف على الأرض بالقرب من مقعدها بينما كان الخطاب نفسه مكوراً ومرمياً في المدفأة . "
" ماذا كان ـــ "
ثم توقفت عن الكلام وأنا منزعج من نفسي .
ثم اعتذرت قائلاً : " أستميحك عذراً . "
ابتسم جريفيث ابتسامة خاطفة وحزينة وقال : " لا تخجل من سؤالك , لابد وأن يقرأ الخطاب في أثناء سير التحقيقات . إن هذا الأمر حتمي مع أنه فظيع . لقد كانت واحدة من تلك الرسائل التي تعرفها ـ بذات الأسلوب البذيء . ولقد كان الاتهام هذه المرة بأن الصبي الأصغر كولين ليس من صلب سيمنجتون . "
سألته وأنا أكاد لا أصدق : " وهل تظن هذا صحيحاً ؟ "
هز جريفيث كتفيه وقال : " لا أستطيع أن أقطع برأي في هذا الأمر . إنني أعيش في هذه البلدة منذ خمس سنوات فقط , ولم أعرف عن الزوجين سيمنجتون سوى أنهما زوجين سعيدين في حياتهما الزوجية ومخلصان لعلاقتهما ولأطفالهما . صحيح أن ذلك الولد لا يشبه والديه تماماً ـ فهو ذو شعر أحمر لامع ـ لكن الأطفال غالباً ما يشبهون أجدادهم وجداتهم . "
" لعل عدم التشابه هذا قد يكون هو ما أدى إلى هذه الشائعات , إنه اتهام شرير ولا يستند إلى دليل . "
" إنه من المحتمل جداً لأن أصحاب هذه الأقلام المسمومة لا يكونون ذوي معرفة كبيرة بهؤلاء الناس , لأنهم يتحركون بدافع حقد أعمى . "
قال جوانا : " ولكن يبدو أن هذا الاتهام قد نكأ جرحاً غائراً , وإلا لم تكن لتقتل نفسها , أليس كذلك ؟ "
قال جريفيث في تشكك : " أشك في هذا , لقد كانت السيدة سيمنجتون تعاني من بعض المتاعب الصحية لبعض الوقت , ولقد كانت تمر بنوبات عصبية وهستيرية , لقد كنت أعالجها من حالتها العصبية المظطربة تلك . من المحتمل أن الصدمة التي نتجت عن تلقيها هذه الرسالة قد وضعتها في تلك الحالة مرة أخرى , وأصابتها بنوبة فزع دفعتها للانتحار , ولعلها خشيت ألا يصدقها زوجها إذا ما أنكرت هذه القصة , أو لعله اعتراها شعور بالخزي والاشمئزاز مما جعلها تتخذ هذا القرار غير المتزن . "
قالت جوانا : " إذن فهو انتحار ناتج عن حالة عقلية مضطربة ؟ "
قال جريفيث : " بالضبط , وأعتقد أنه سيقابل ذلك بتفهم كبير أثناء التحقيقات . "
قالت جوانا : " هذا صحيح . "
كان هناك شيء في نبرة صوتها جعل جريفيث يقول بصوت غاضب : " نعم سوف تلقى تفهماً , ألا تتفقين معي يا آنسة بيرتون . "
قالت جوانا : " بل أتفق معك تماماً , وكنت لأفعل نفس الشيء لو كنت مكانك . "
نظر لها أوين بشك , ثم سار مبتعداً عنا , ودلفت أنا وجوانا إلى داخل المنزل . كان باب المنزل مفتوحاً , ولقد رأينا أن ندخل مباشرة بدلاً من قرع الجرس , خاصة وقد سمعنا صوت إلسي هولاند يدوي من داخل المنزل . كانت تخاطب السيد سيمنجتون الذي كان يجلس على أحد المقاعد , وكان في حالة إعياء شديدة . قالت له : " إنك لم تتناول طعام الإفطار , وكذلك لم تأكل شيئاً من الليلة الماضية , ناهيك عن الصدمة التي تلقيتها . إنك بهذا الشكل سوف تضر صحتك , وأنت في هذه المرحلة تحتاج لكل قواك . هذا ما قاله الطبيب قبل أن ينصرف . "
قال سيمنجتون بصوت لا حياة فيه : " إنك عطوفة للغاية يا آنسة هولاند , لكن ـــ "
قالت الآنسة هولاند : " إليك قدح الشاي هذا . " قالتها وهي تدفع إليه القدح بحزم .
كنت أفضل شخصياً أن تعطيه بعض الصودا أو العصائر . فقد بدا بحاجة إليها بالفعل , إلا أنه تناول منها الشاي وقال وهو ينظر إليها : " لا أستطيع شكرك بما يكفي يا آنسة هولاند , إنك إنسانة رائعة . "
فاحمر وجه الفتاة خجلاً وبدت مسرورة لهذا الإطراء . ثم قالت : " ولطيف منك أن تقول هذا يا سيد سيمنجتون , ولكن عليك أن تدعني أفعل ما بوسعي لأساعدك . ولا تقلق بشأن الأولاد ـ إنني سوف أعتني بهم , ولقد استطعت أن أسيطر على الخدم وأهدأ من روعهم , وإذا كان بإمكاني أن أفعل أي شيء يمكنني فعله كأن أكتب خطاباً لأحد ما , أو أن أتصل بأحد ما , فرجاء لا تتردد في طلب ذلك مني . "
كرر السيد سيمنجتون : " إنك عطوفة للغاية . "
وبينما كانت إلسي هولاند تستدير لتمضي إلى شأنها , لمحتنا فهرعت إلينا في بهو المنزل , وقالت بصوت هامس : " أليس هذا أمراً فظيعاً ؟ "

يتبع.........

القيصر
01-05-2011, 08:33 PM
وبينما كنت أنظر إليها : " خطر لي أنها فتاة لطيفة للغاية ؛ فهي عطوفة , وذات كفاءة , وعملية جداً في وقت الأزمات . كانت عيناها الواسعتان الزرقاوان تحيط بهما هالتان ورديتان مما يدل على أنها رقيقة القلب للغاية لكي تذرف الدمع لوفاة مستخدمتها .
قالت لها جوانا : " هل يمكننا أن نحادثك قليلاً , فنحن لا نريد أن نزعج السيد سيمنجتون . "
أومأت إلسي هولاند برأسها وقادتنا نحو غرفة الطعام في الجانب الآخر من البهو , وقالت : " لقد كان أمراً فوق احتماله , يا لها من صدمة . من كان يظن أن شيئاً مثل هذا قد يحدث ؟ ولكنني الآن أدرك بالطبع أنها أحياناً كانت غريبة الأطوار . أحياناً كانت تنتابها نوبات عصبية , وكانت تبكي بشكل غريب . كنت أظن أنها مريضة , رغم أن الدكتور جريفيث كان يؤكد دائماً أنها سليمة ولا شيء بها . ولكنها كانت عدوانية وسريعة الغضب وأحياناً لم نكن نستطيع التعامل معها . "
قالت جوانا : " لقد أتينا اليوم لكي نسأل إذا كان من الممكن أن نصطحب ميجان لكي تمكث معنا لأيام قليلة ـ إذا كانت هي تريد هذا . "
قالت في شيء من الدهشة : " ميجان ؟ لا أدري . إن هذا لطف منكما , ولكنها فتاة غريبة الأطوار , ولا أحد يمكنه أن يعلم بماذا تفكر أو بماذا تشعر . "
قالت جوانا بغموض : " إننا نعتقد أننا بهذا نقدم بعض المساعدة . "
" بالتأكيد , إنكما بهذا سوف تساعدانني كثيراً . فإنني أعتني بالوالدين , فهما الآن مع الطاهية وكذلك السيد سيمنجتون المسكين ـ إنه بالفعل بحاجة للرعاية كأي أحد آخر , وهناك العديد من الأشياء الأخرى علي القيام بها . وإنني بالقطع ليس لدي أي وقت لأعتني بميجان . أعتقد أنها في الطابق العلوي في غرفة الأطفال القديمة التي في أعلى المنزل . لا أدري إذا ــ "
نظرت لي جوانا بسرعة , فهرعت إلى الغرفة في الطابق العلوي .
كانت غرفة الأطفال القديمة في أعلى المنزل . فتحت الباب ودلفت , كانت الغرفة التي تحتها تطل على الحديقة ولم تكن ستائرها قد أسدلت بعد . أما الغرفة التي كانت تطل على الطريق فقد كانت ستائرها مسدلة .
رأيت ميجان من خلال ضوء الغرفة الخافت . كانت تجلس على أريكة في مقابل الجدار , وذكري مشهدها هذا بالحيوانات المذعورة التي تختبئ من مفترسيها . لقد كانت في غاية الخوف .
ناديتها قائلاً : " ميجان . "
تقدمت إليها ودون وعي مني اكتسب صوتي نبرة من يهدئ حيواناً مذعوراً . ولقد شعرت بأنني أمد لها يدي بجزرة أو بقطعة سكر . أخذت تحدق إلي دون أن تتحرك قيد أنملة , أو يتغير الترتيب الذي كان مرتسماً على وجهها .
قلت لها مرة أخرى : " ميجان , لقد أتيت أنا وجوانا لنسألك إذا كنت تحبين أن تأتي معنا لتقضي معنا أياماً قليلة . "
قالت بصوت خاو من وراء الضوء الخافت : " أمكث معكما ؟ في منزلكما ؟ "
" نعم . "
" أتعني أنكما سوف تأخذاني من هنا ؟ "
" نعم يا عزيزتي . "
فجأة بدأت ترتجف من رأسها حتى أخمص قدميها , لقد كانت ترتعب بقوة وبشكل مرعب .
" نعم , خذاني من هنا أرجوكما,إنه لشيء فظيع أن أبقى هنا وأشعر بأنني شريرة. "
تقدمت لها فأمسَكَت بكم معطفي وتشبثت به بقوة , واستطردت : " إنني جبانة وحقيرة , لم أكن أعرف أنني جبانة إلى هذا الحد . "
قلت لها :" لا عليك يا طفلتي العزيزة . إن الأمور مختلطة بعض الشيء , هيا بنا ."
" هل يمكننا أن نذهب الآن ؟ دون أن نمكث هنا لدقيقة ؟ "
" أعتقد أنك عليك أن تحزمي بعض أغراضك . "
" أية أغراض ؟ لماذا ؟ "
" يا طفلتي العزيزة , إننا سنوفر لك فراشاً وحماماً وأشياء أخرى , ولكنني لا أستطيع أن أعيرك فرشاة أسناني مثلاً . "
ضحكت ضحكة خفيفة مرهقة وقالت : " فهمت , أعتقد أنني حمقاء بعض الشيء اليوم : لا تبال بي . سوف أذهب لكي أحزم بعض الأغراض . وأنت ـ أنت لن تذهب ؟ سوف تنتظرني ؟ "
" سوف أنتظرك على الباب . "
" أشكرك . أشكرك شكراً جزيلاً , أنا آسفة للغاية . ولكنك تعرف أن الوضع يكون خطيراً عندما تموت أمك . "
قلت لها : " أنا أعرف . "
وربت على كتفها بعطف , فنظرت لي بامتنان ثم توارت في غرفة النوم . وذهبت أنا نازلاً الدرج وقلت لإلسي هولاند : " لقد قابلت ميجان , وستأتي معنا . "
قالت إلسي هولاند : " هذا شيء طيب , إن هذا سوف ينسيها حزنها , إنها لفتاة عصبية كما تعلم , إنها صعبة المراس . إنني سوف أرتاح جداً عندما أخرجها من دائرة الأشياء التي يجب أن أقلق بشأنها. وهذا لطف منك أنت أيضاً يا آنسة بيرتون. أرجو ألا تسبب لك إزعاجاً . يا إلهي , إن جرس الهاتف يدق , لابد أن أرد عليه . إن السيد سيمنجتون لا يستطيع أن يرد عليه . "
قالتها وأسرعت تغادر الغرفة , فقالت جوانا : " يا لها من ملاك متفانٍ . "
قلت لها : " إنك تسخرين منها , مع أنها فتاة لطيفة و عطوفة , وتؤدي عملها بكفاءة إلى حد ما . "
" إلى حد ما , وهي تعرف هذا . "
قلت لها : " هذا لا يليق بك يا جوانا . "
" أعني لماذا لا تستطيع الفتاة أن تُعنى بنفسها . "
" فعلاً . "
قالت جوانا : " إنني لا أطيق هؤلاء الناس الذين يختالون بأنفسهم , فهذا يثير طباعي السيئة . كيف وجدت ميجان . "
" وجدتها في غرفة مظلمة جالسة على أريكة كظبي شارد . "
" يا للطفلة المسكينة , هل رحبت بالفكرة ؟ "
" لقد كانت تتوق لذلك بشدة . "
وسمعنا صوت ميجان , وهي تدحرج حقيبتها في طريقها إلينا , فذهبت إليها وأخذت منها الحقيبة . وقالت جوانا : " هيا , فلدي أقداح شاي كثيرة علي أن أتناولها . "
ذهبنا إلى السيارة , وضايقني أنه تعين على جوانا أن تدخل الحقيبة بنفسها في السيارة . لقد كنت أستطيع في هذا الوقت أن أمشي بعكاز واحد , إلا أنني لم أكن أستطيع القيام بأي حركات رياضية .
قلت لميجان : " هيا ادخلي السيارة . "
استقللنا السيارة , فأدارت جوانا المحرك , ومضينا في طريقنا . وصلنا إلى ليتل فيرز وجلسنا في غرفة الرسم .
تهاوت ميجان على مقعدها وانفجرت باكية . أخذت تنتحب بشكل طفولي ـ غادرت الغرفة طلباً للراحة . وأعتقد أن جوانا وقفت هناك عاجزة عن فعل شيء .
ثم سمعت ميجان تقول بصوت مخنوق : " أنا آسفة لأنني أفعل هذا , هذا يبدو تصرفاً أحمق . "
قالت جوانا : " لا , لا عليك , إليك منديل آخر . "
أعتقد أنها قامت بالتصرف السليم . دلفت الغرفة وقدمت لميجان كوباً من العصير .
" ما هذا ؟ "
قلت لها : " بعض العصير الطازج . "
قالت ميجان وقد جفت دموعها بسرعة : " حقاً ؟ أشكرك بشدة . "
ارتشفت ميجان شرابها باستمتاع , ثم أشرق وجهها بابتسامة , ثم أعادت رأسها إلى أسفل وازدرت شرابها حتى الثمالة . ثم قالت : " إنه لذيذ , هل يمكنني أن أحصل على كوب آخر . "
قلت لها : " لا . "
" لماذا ؟ "
" حتى لا تفقدي شهيتك للطعام . "
" يا إلهي . "
ثم حولت ميجان اهتمامها إلى جوانا قائلة : " إنني في غاية الأسف لأنني أحدثت هذه الضوضاء , عندما أخذت أبكي وأنتحب بهذا الشكل . ولا أدري لماذا , لقد كان هذا سخيفاً جداً خاصة أنني في غاية السعادة لوجودي هنا . "
قالت جوانا : " هذا صحيح , نحن في غاية السرور لأنك معنا . "
" لا يمكن أن تكونا سعداء لوجودي . إنه عطفكما ورقتكما , ولكنني ممتنة لكما . "
قالت جوانا : " لا أريدك أن تتفوهي بهذه الكلمات , إن هذا يحرجني للغاية . إنني صادقة للغاية عندما أقول إننا سعداء لوجودك معنا . فأنا وجيري قد تحدثنا في كل الموضوعات الممكنة , ولا يمكننا أن نجد أي شيء آخ يمكننا أن نقوله لبعضنا البعض . "
قلت : " ولكن الآن , سوف نستطيع أن نتحدث عن جونريل وريجان وأشياء من هذا القبيل . "
تهللت أسارير ميجان وقالت : " لقد كنت أفكر في هذا الأمر , أعتقد أنني أعرف لماذا . إن هذا لأن والدهما المسن البغيض هذا كان يريدهما دائماً أن يتملقاه . فعندما يضطر المرء لأن يقول دائماً شكراً , وهذا عطف منك , فسوف ينتهي به الأمر لأن يصبح غريب الأطوار وفاسد الأخلاق , لأنه سوف يتوق لأن يكون سريراً على سبيل التغيير ـ وعندما ينال الفرصة , سوف يتمادى في الأمر ويغالي فيه . إن العجوز لير كان بغيضاً للغاية , أليس كذلك ؟ إنه يستحق ذلك الازدراء الذي عاملته به كورديليا . "
قلت : " أرى أننا سوف نحظى بمناقشات شقية عن شكسبير . "
قالت جوانا : " أرى أنكما سوف تكثران من التحذلق .
فإنني دائماً ما أرى شكسبير في غاية الملل , حيث هذه الفصول المسرحية الطويلة التي يكون فيها الجميع مخمورين ويحاولون أن يبدوا مضحكين . "
قالت لميجان : " كيف حالك الآن ؟ "
" بخير شكراً لك . "
" ألا تشعرين بالدوار , ألا ترين اثنين من جوانا , أو أي شيء من هذا القبيل . "
" كلا , كل ما هنالك هو أنني أشعر بأنني أريد أن أتحدث كثيراً . "
قلت لها : " ستكونين بخير يا صغيرتي , والآن عليك الذهاب لتأخذي قسطاً من الراحة . "
صحبتها جوانا للطابق العلوي لتخرج الأشياء من حقيبتها . وأتت بارتريدج وقد بدت متكدرة , وقالت أنها لم تصنع إلا موبين من الكاسترد فقط من أجل الغداء , ولا تدري ما العمل .
يتبع..الفصل السادس باذن الله.................

القيصر
01-15-2011, 02:37 PM
الفصل السادس
1
بدأ التحقيق بعد الحادث بثلاثة أيام . لقد تم كل شيء على شكل لائق قدر الإمكان , إلا أن الحضور كان كبيراً , وكما لاحظت جوانا كان هناك العديد من النسوة .
تم تحديد الوقت الذي توفيت فيه السيدة سيمنجتون وقد كان بين الثالثة والرابعة ظهراً , لقد كانت بمفردها في المنزل ؛ فقد كان السيد سيمنجتون في مكتبه , وكانت الخادمات في إجازة , وإلسي هولاند والأطفال في الخارج . وميجان كانت في نزهة على الدراجة .
لابد أن الخطاب وصل في بريد بعد الظهيرة , ولابد أن السيدة سيمنجتون أخرجته من الصندوق , وقرأته ـ ثم لابد وأنها في ثورة غضبها ذهبت إلى خزانة المطبخ وأخرجت منها بعض السيانيد الذي كان ملفوفاً هناك لكي يوضع في شبكة صيد الدبابير , ثم أذابت بعض الماء في تجرعته بعد أن كتبت هذه الكلمات الأخيرة " لا أستطيع أن أستمر . "
وأدلى أوين جريفيث بشهادته الطبية , وشدد على وجهة نظره التي أوضحها لنا بخصوص الحالة العصبية للسيدة سيمنجتون وضعف قدرتها على التحمل . كان المحقق لطيفاً وحكيماً , فقد تحدث بمرارة عن إدانته لهؤلاء الذين يكتبون هذه الأشياء الحقيرة , الرسائل المجهولة . وقال أياً كان كاتب هذه الرسائل الشريرة الكاذبة فهو مسئول أخلاقياً عن جريمة القتل . وقد تمنى أن تكشف الشرطة المجرم سريعاً وتتخذ الإجراءات اللازمة ضده أو ضدها , فعمل قذر كهذا تفوح منه رائحة الحقد الأعمى يستحق أقسى عقوبة يفرضها القانون . وبناء على توجيهاته , نطق القضاة بالحكم النهائي , ألا وهو , انتحار أثناء جنون مؤقت .
لقد بذل المحقق ما بوسعه , وكذلك أوين جريفيث أيضاً , ولكنني سمعت فيما بعد من نساء القرية نفس الهمسات الكريهة والتي بدأت ~أعرفها جيداً . " لا دخان بلا نار . هذا رأيي ! لابد أن هناك شيئاً , وإلا ما كات لتقدم على هذه الفعلة ... "
كرهت لايمستوك وحدودها الضيقة ونساءها النمامات الهامسات .
2
من الصعب تذكر الأشياء بترتيبها الزمني الصحيح . بالطبع , كانت زيارة المفتش ناش ثاني أهم المعالم . ولكني أعتقد بعد ذلك أننا تلقينا زيارات من أشخاص مختلفين بالقرية , وكانت كل زيارة مهمة في حد ذاتها , وقد ألقت بعض الضوء على على بعض الشخصيات وصفاتهم .
جاءت إيمي جريفيث في الصباح بعد الاستجواب , كانت تبدو كعادتها وافرة الصحة والنشاط ونجحت كعادتها أيضاً في مضايقتي على الفور . وبما أن ميجان وجوانا كانتا بالخارج فقد قمت أنا بواجبات الضيافة .
قالت الآنسة جريفيث : " صباح الخير , ل4قد سمعت أنكما تستضيفان ميجان هنا ."
" أجل . "
" هذا تصرف كريم من جانبكم , أنا متأكدة من ذلك , ولكن أخشى أن يسبب لكم بعض الإزعاج . وقد جئت لأقول إنه بإمكانها المجيء إلينا إذا كنتما تريدان ذلك . يمكنني القول بأنه بوسعي جعلها مفيدة في البيت . "
نظرت إلى إيمي جريفيث باستياء شديد . ثم قلت : " يا لعطفك الشديد , ولكننا سعداء بوجودها . إنها تقضي وقتاً طيباً هنا معنا . "
" لا يمكنني القول بأن تلك الطفة مغرمة بالتسكع , وأظنها لا تستطيع فعل شيء سوى ذلك , فهي ذات ذكاء محدود للغاية . "
قلت : " أعتقد أنها فتاة غاية في الذكاء . "
حدقت إلي جريفيث بقسوة , ثم غلقت قائلة : " لأول مرة أسمع شخصاً يقول هذا عنها . فعندما تتحدث إليها تنظر إليك كما لو أنها لا تفهم ما تقوله . "
قلت : " ربما كانت لا تهتم بما يقال , وهذا كل ما في الأمر . "
قالت إيمي جريفيث : " إذا كان الأمر كذلك , فهي تتسم بالوقاحة . "
قلت : " ربما , ولكنها ليست ذات ذكاء محدود . "
أعلنت الآنسة جريفيث بحدة : : إنها شاردة الذهن غافلة , على أفضل تقدير إن ما تحتاج إليه ميجان هو العمل الجاد ـ شيء يجعلها تهتم بالحياة . لا تتصور مدى الفارق الذي يشكله هذا بالنسبة لفتاة . إنني أعرف الكثير عن الفتيات . حتى أنه ليدهشك مدى الاختلاف الذي يحدثه كون الفتاة عضواً في فريق الكشافة . إن ميجان أكبر من أن تقضي وقتها في التسكع والبطالة . "
قلت : " إن من الصعب عليها فعل أي شيء الآن , فيبدو أن السيدة سيمنجتون كانت تعتبرها في الثانية عشر من عمرها . "
تنهدت الآنسة جريفيث بحنق : " أعرف , ولم أكن أطيق موقفها ذاك . لقد رحلت الآن , لذا لا أريد قول المزيد , ولكنها كانت مثالاً لما أطلق عليه ربة منزل ليست ذكية , لا تهتم إلا بلعب الورق والقيل والقال والاهتمام بشؤون أطفالها ـ حتى الأطفال كانت الفتاة تعتني بهم . أخشى أنني لم أكن معجبة بالسيدة سيمنجتون , على الرغم من ذلك فلم أشك بالحقيقة أبداً . "
قلت محتداً : " الحقيقة ؟ "
احمر وجه الآنسة جريفيث , وقالت : " لقد أسفت بشدة على ديك سيمنجتون لنشر كل تلك الأشياء في الاستجواب , لقد كان ذلك شيئاً فظيعاً بالنسبة له . "
" ولكنك بالتأكيد سمعته يقول أن ما ورد بالخطاب لا أساس له من الصحة على الإطلاق ـ لقد كان متأكداً من ذلك تماماً . "
" لقد قال ذلك بالطبع , وهذا صحيح , فالرجل لابد أن يدافع عن زوجته , هذا ما كان ليفعله ديك . "
لقد عرفت ديك سيمنجتون منذ وقت طويل . "
اندهشت بعض الشيء .
قلت : " حقاً ! لقد علمت من أخيك أنه اشترى هذه العيادة منذ بضع سنوات قليلة . "
" أوه ,نعم , ولكن ديك سيمنجتون قد اعتاد على المجيء والإقامة عندنا في الشمال. لقد عرفته منذ سنوات . "
إن النساء يتوصلن إلى نتائج لا يتوصل إليها الرجال . إلا أن النعومة المفاجئة التي طرأت على إيمي جريفيث جعلت ـ على حد وصف خادمتنا العجوز ـ بعض الأفكار تدور في رأسي .
نظرت إلى إيمي بفضول , بينما واصلت هي حديثها بنفس النبرة الناعمة : " أعرف ديك حق المعرفة ... إنه رجل يعتز بكبريائه ومتحفظ جداً , ولكنه مع ذلك غيور جداً . "
قلت متعمداً : " وهذا يفسر سبب خشية السيدة سيمنجتون من أن تريه الرسالة أو أن تخبره بما ورد فيها . فلعلعا كانت تخشى ألا يصدق إنكارها لما ورد بها , وذلك بسبب غيرته . "
نظرت إلي الآنسة جريفيث نظرة تنم عن الحنق والاحتقار .
" يا إلهي , أتعتقد أن امرأة يمكن أن تقدم على ابتلاع سيانيد البوتاسيوم بسبب اتنهام كاذب . "
" يبدو أن المحقق اعتقد أن ذلك ممكن . كما أن أخاك أيضاً ـــ "
قاطعتني إيمي : " أنتم معرش الرجال تفكرون بنفس الطريقة . فكلكم تريدون المحافظة على الآداب العامة . ولكنني لا أصدق هذا الشخف , فإن تلقت امرأة بريئة رسالة حقيرة من مجهول,فإنها تضحك أو تلقيها في سلة المهملات.وهذا ما فعلته ــ" توقفت فجأة , ثم أنهت كلامها قائلة : " ما كنت لأفعله . "
ولكنني لاحظت مقاطعتها هذه , كنت متأكداً تقريباً من أنها كانت بصدد قول : " فعلته . "
قررت أن أنقل المعركة إلى ساحة العدو .
قلت ضاحكاً : " إذن , هل تلقيت أنت أيضاً واحدة من هذه الرسائل ؟ " . كانت إيمي جريفيث من النساء اللواتي يحتقرن الكذب . صمتت لبرهة ـ واحمر وجهها , ثم قالت : " نعم , ولكنني لم أدعها تقلقني . "
سألتها بتعاطف : " أكاذيب بذيئة ؟ "
" بالطبع , فهذه الأشياء بذيئة دائماً . إنها هذيان شخص مخبول . لقد قرأت كلمات قليلة منها , فأدركت فحواها فألقيتها في سلة المهملات بلا تردد . "
" ألم تفكري في إبلاغ الشرطة . "
" كلا , فكثرة الكلام تزيد المشاكل سوءاً ـ هذا هو ما فكرت فيه عندئذ . "
ألح علي هاجس أن أقول لها : " ا دخان بدون نار ! " ولكني منعت نفسي , ولكي أتجنب هذا الإغراء غيرت مجرى الحديث إلى ميجان . فسألتها : " ألديك فكرة عن وضع ميجان المالي ؟ إنه ليس نوعاً من الفضول , وإنما أريد أن أعرف إذا ما كان يتحتم عليها العمل لكسب قوتها . "
" لا أعتقد أنه يتحتم عليها بمعنى الكلمة , فقد تركت لها جدتها لأبيها مصدراً صغيراً للدخل على ما أظن , وعلى أي حال , فإن ديك سيمنجتون كان يوفر لها السكن ويتكفل بها حتى لو لم تترك لها أمها شيئاً . غير أنها مسألة مبدأ . "
" أي مبدأ ؟ "
" العمل يا سيد بيرتون , فليس هناك شيء أهم من العمل بالنسبة للرجل والمرأة . فالكسل ذنب لا يغتفر . "
يتبع..........

القيصر
01-15-2011, 02:41 PM
قلت : " لقد فصل السيد إدوارد جيري , الذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد , من جامعة أكسفورد بسبب كسله الفظيع . كما أن الدوق ويلنتجون ـ على حد علمي ـ كان كسولاً وغير مهتم بكتبه . ثم , ألم يخطر ببالك يا آنسة جريفيث أنك لم تكوني لتستطيعي استقلال القطار إلى لندن لو أن جورج ستيفنسون كان قد خرج مع أقرانه من الشباب للعمل بدلاً من التسكع في مطبخ أمه شاعراً بالملل حتى انتبه عقله الكسول إلى الحركة الرتيبة لغطاء غلاية الشاي ؟ "
لم تقل إيمي شيئاً سوى أن تنهدت بحنق .
فقلت معضداً فكرتي : " إنها نظريتي الخاصة . إذ أرى أننا ندين للكسل ـ سواءً كان اختيارياً أو جبرياً ـ بمعظم ابتكاراتنا وإنجازاتنا العظيمة . فالعقل البشري يفضل أن يتغذى على أفكار الآخرين دون بذل جهد يذكر , ولكن إذا حرم من تلك الرفاهية , فسوف يبدأ التفكير لنفسه ـ وتذكري أن مثل هذا التفكير الخلاق وربما يؤدي إلى نتائج قيمة . "
واصلت حديثي قبل أن تتاح لإيمي فرصة لإطلاق تنهيدة حانقة أخرى : " فضلاً عن ذلك , فإن الكسل به جانب فني . "
نهضت وأخذت من على مكتبي صورة طالما لازمتني , إنها صورتي الصينية المفضلة , وهي تصور رجلاً عجوزاً جالساً تحت شجرة يلعب تشبيك الخيوط بأطراف أصابع يديه .
قلت : " كانت في المعرض الصيني وقد أعجبتني , اسمحي لي بأن أريك إياها . إنها تدعى " رجل عجوز يستمتع بالكسل . "
لم تعجب إيمي بصورتي الجميلة , فقالت : " أوه , حسناً , إننا جميعاً نعرف طباع الصينيين . "
سألتها : " ألا تروق لك ؟ "
" بصراحة كلا , فأنا لا أهتم بالفن كثيراً , كما أن طريقة تفكيرك يا سيد بيرتون لا تختلف عن طريقة تفكير معظم الرجال . فأنتم تكرهون عمل المرأة ــــ ومنافستها لكم ــــ "
أصابتني الدهشة , فهاأنذا قد أصبحت عدواً للحركة النسائية . استمرت إيمي في دفاعها وقد احمرت وجنتاها .
" إنه لا تروق لك فكرة خروج المرأة من لميدان العمل , تماماً كوالدي . فقد كنت مهتمة بدراسة الطب ولكنهما لم يكونا مهتمين بدفع مصاريف الدراسة , ومع ذلك فقد كانا مستعدين لدفعها لأوين . لقد كان بإمكاني أن أصبح طبيبة أفضل من أخي ."
قلت : " أنا آسف لما حدث معك , فلابد أنه كان شيئاً قاسياً عليك . فحينما يريد المرء فعل شيء ــ "
واصلت كلامها بسرعة : " أوه , لقد تغلبت على هذا الآن , لفدي إرادة شديدة لا تقهر , وحياتي مشحونة بالأنشطة المختلفة . إنني واحدة من أسعد الناس في لايمستوك , ولدي الكثير لأفعله . ولكنني أسعى لهدم الفكرة البالية القائلة بأن مكان المرأة هو بيتها . "
قلت : " آسف إن كنت قد آلمتك . وهذه لم تكن وجهة نظري حقاً , وأنا لا أتصور أن ميجان يمكن أن تصبح ربة منزل تقليدية . "
" كلا , إنها طفلى مسكينة , ولكنني أخشى لا تصلح لأي شيء . " هدأت إيمي وعادت لتتكلم بطريقتها المعتادة مرة أخرى قائلة : " إن أباها , كما تعرف ـــ "
توقفت , فقلت مغتاظاً : " لا أعرف , فالجميع هنا يقولون (( إن أباها )) ثم يخفضون أصواتهم , ثم لا شيء . ماذا فعل ذلك الرجل ؟ ألا يزال حياً ؟ "
" في الحقيقة , لا أعرف , وأخشى أنه غامض بالنسبة لي شخصياً , ولكنه كان بلا ريب سيئاً . أعتقد أنه من أرباب السجون , وشخصية غريبة الأطوار إلى حد كبير , لذلك لن أُدهش إذا كانت ميجان مختلفة بعض الشيء . "
قلت : " إن ميجان في كامل قواها العقلية , وكما قلت من قبل , فإنني أعتبرها فتاة ذكية . وأختي تعتبرها كذلك أيضاً , إن جوانا تحبها كثيراً . "
قالت إيمي : " أخشى أن أختك تجد الحياة مملة هنا بالتأكيد . "
ما أن قالتها , حتى عرفت شيئاً آخر , إن إيمي جريفيث تكره أختي , فلقد بدا ذلك واضحاً في نبرة صوتها .
" لقد تساءلنا جميعاً كيف يمكنكما العيش هنا في هذه البقعة النائية . "
لقد أجبت عن هذا السؤال سابقاً .
صمتُّ لبرهة ثم أضفت قائلاً : " إنها أوامر الأطباء , أن أذهب إلى مكان هادئ جداً لا يحدث فيه شيء مزعج . ولكن هذا لا ينطبق على لايمستوك في الوقت الراهن ."
" كلا , كلا , أنت محق . "
بدت قلقة ثم نهضت وهي تهم بالمغادرة , وقالت عندئذ : " يجب وضع حد لكل هذه الوحشية ! فنحن لا نستطيع استمرار تحمل هذا الوضع . "
" ألا تفعل الشرطة شيئاً ؟ "
" من المفترض أن يفعلوا , ولكنني أعتقد أنه يجب أن نتعامل مع هذه السخافات بأنفسنا . "
" إننا لا نمتلك ما يملكونه من أسلحة . "
" هراء ! ربما كنا أكثر منهم حنكة وذكاء . ولا ينقصنا سوى القليل من العزيمة . "
ثم ودعتني بسرعة وذهبت . وعندما عادت جوانا وميجان قدمت صورتي الصينية لميجان , فتهللت أساريرها وقالت : " إنها رائعة , أليس كذلك ؟ "
" هذا هو رأيي . "
قطبت جبينها بالطريقة التي أعرفها جيداً .
" ولكنه أمر صعب حقاً , أليس كذلك ؟ "
" أن يكون الأمر كسولاً ؟ "
" لا , ليس أن يكون كسولاً ـ بل أن يستمتع به , لابد أنه عجوز جداً ــ "
توقفت عن الكلام , فقلت : " إنه رجل عجوز بالفعل . "
" لا أقصد أن يكون عجوزاً بهذا المعنى . بل أقصد أن يكون عجوزاً بـ ... "
قلت : " تقصدين أن على المرء أن يرقى إلى درجة عالية من التحضر حتى تظهر له الأمور على هذا النحو ـ إنها وجهة نظر معقدة ؟ أعتقد أنه يجب أن تكملي تعليمك يا ميجان عن طريق قراءة مائة قصيدة مترجمة عن الصينية . "
3
قابلت سيمنجون في وقت متأخر من اليوم .
سألته : " هل تمانع في أن تبقى ميجان معنا لبعض الوقت ؟ إن جوانا سعيدة بها ـ فهي تشعر بالوحدة أحياناً لعدم وجود أحد من أصدقاءها . "
" أوه ـ من ـ ميجان ؟ أوه , هذا كرم بالغ منك . "
كرهت سيمنجتون منذ ذلك الحين كراهية لم أتمكن من التغلب عليها . فقد بدا واضحاً أنه نسي كل شيء يمت بصلة لميجان . لم أكن لأبالي بو أنه كره الفتاة ـ فالرجل أحياناً يغار من أطفال الرجل السابق ـ بيد أنه لم يكن يكرهها , بل إنه لم يكن يلاحظ وجودها من الأساس . فمثل سيمنجتون وميجان مثل رجل لا يهتم بالكلاب وكان هناك كلب بمنزله , فلا ينتبه لوجوده إلا عندما يصطدم به فيوبخه , وأحياناً يربت عليه شذراً عندما يأتي ويتمسح به . لقد ضايقتني اللامبالاة التي أبداها سيمنجتون تجاه ابنة زوجته .
قلت : " ما خططك بشأنها ؟ "
بدا وكأنه فوجئ بسؤالي , فقال : " بشأن ميجان ؟ حسناً , سوف تعيش كما كانت في المنزل . أقصد بالطبع , أنه منزلها . "
كانت جدتي التي أحببتها كثيراً , تغني أغاني قديمة على الجيتار الخاص بها . وأذكر أن نهاية إحدى هذه الأغاني كانت كالتالي :
(( أوه يا عزيزتي , أن لست هنا
ليس لي مكان أو بيت ,
لم يعد لي مأوى , في البحر أو على الشط ,
فمكاني الوحيد في قلبك . ))
ظللت أرددها وأنا في طريق المنزل .
4
جاءت إيميلي بارتون بعد أنم انتهينا من تناول الشاي مباشرة . كانت تريد الحديث عن الحديقة , فأخذنا نتحدث ونحن نتجول هناك لمدة نصف ساعة تقريباً . ثم عدنا أدراجنا إلى المنزل .
وعندئذ أخفضت صوتها , وتمتمت قائلة : " أتمنى ألا تكون هذه الطفلة ـ مستاءة من هذا الحدث المروع . "
" أتقصدين موت أمها ؟ "
" نعم , بالطبع , ولكني في الحقيقة قصدت الإساءة المختلفة عنه . "
اعتراني الفضول , فأردت أن أعرف ردة فعل الآنسة بارتون .
" ما رأيك في تلك الإساءات ؟ أكانت حقيقية ؟ "
" كلا , كلا , بالتأكيد لم يكن بها شيء من الحقيقة . فأنا متأكدة تماماً أن السيدة سيمنجتون لم تكن ـ لم أعني أنه لم يكن."احمر وجه الآنسة بارتون ورتبكت ــــ " أقصد أن تلك الإساءات ليست حقيقية على الإطلاق ـ على الرغم من أنها قد تكون بمثابة حكم . "
قلت محدقاً إليها : " حكم ؟ "
ازداد احمرار وجه إيميلي بارتون وارتعشت شفتاها .
" لا أستطيع منع نفسي من الشعور بأن هذه الخطابات المروعة , وكل الحزن والألم الذي سببته , ربما يتم إرسالها لغرض ما . "
قلت مقطباً جبيني : " لقد أرسلت لغرض ما بكل تأكيد . "
" كلا , كلا يا سيد بيرتون , لقد أسأت فهمي . إنني لا أتحدث عن هذا المخلوق الضال الذي كتبها ـ فلابد أنه شخص منبوذ تماماً . وإنما أعني أن الله قد ابتلانا بها ليوقظ ضميرنا وينبهنا إلى أخطائنا ."
قلت : " إن الله لا يجبر الإنسان على فعل الشر , فالإنسان هو الذي يوعز إلينا بالشرور . "
" ما لا أستطيع فهمه أبداً هو ما الذي يدفع أي إنسان إلى فعل شيء كهذا ؟ "
هززت كتفي قائلاً : " عقلية مريضة . "
" يبدو أنه إنسان تعيس جداً . "
" لا يبدو لي أنه تعيس , وإنما هو ملعون , وأنا لست نادماً على هذا الوصف , بل أعنيه تماماً . "
اختفت الحمرة عن وجنتا الآنسة بارتون وأصبحتا شاحبتين .
" ولكن لماذا يا سيد بيرتون , لماذا؟أية سعادة يحصل عليها المرء من شيء كهذا؟ "
" لا أستطيع أنا ولا أنتي فهم ذلك , وهذا من فضل الله علينا . "
أخفضت إيميلي بارتون صوتها قائلة : " يقولون أنها السيدة كليت ـ ولكنني لا أستطيع تصديق هذا . "
هززت رأسي , بينما واصلت حديثها مهتاجة : " لم يحدث شيئ كهذا من قبل , على أن أذكر أنه قد كان مجتمعاً صغيراً يعيش في سعادة . ترى ماذا كانت أمي العزيزة لتقوله عما يحدث الآن ؟ حسناً , إنني أحمد الله لأنها ماتت قبل أن ترى مثل هذه الأشياء . "
من خلال ما عرفته عن السيدة بارتون الراحلة فإنها كانت صلبة بما فيه الكفاية لتحمل أي شيء , بل وربما كانت لتستمتع بهذا الحديث المثير .
واصلت إيميلي حديثها : " إنها تحزنني كثيراً . "
" ألم ـ ألم تتلق رسالة من هذه الرسائل المجهولة ؟ "
احمر وجهها وقالت : " أوه , لا ـ أوه , لا , حقاً . أوه ! هذا الشيء كان ليصيبني بالرعب . "
اعتذرت بسرعة , ولكنها غادرت مستاءة .
دخلت إلى المنزل ,كانت جوانا تقف في حجرة الرسم بجوار النار التي أشعلتها للتو, حيث كان الجو بارداً الليلة .
" جيري ! لقد وجدت هذا في صندوق الخطابات , مرسلاً باليد . حيث تقول بداية الخطاب : " أنت أيتها الساقطة . "
" ماذا بها أيضاً غير ذلك ؟ "
" قطبت جوانا جبينها قائلة : " نفس السخافات السابقة . "
ألقتها في النار , فقفزت قفزة سرعت آلمت ظهري والتقطتها قبل أن تلمسها النار .
قلت : " كلا , قد نحتاج إليها . "
" نحتاج إليها ؟ "
" لتقديمها للشرطة . "
5
في صباح اليوم التالي جاء المفتش ناش لرؤيتي . منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها أعجبت به , فقد كان نموذجاً مثالياً لرجل الشرطة , كان طويل القامة , ذا مظهر عسكري , وعيناه تنمان عن الذكاء والفطنة .
قال : " صباح الخير يا سيد بيرتون , أعتقد أنك تعرف سبب مجيئي إليك . "
" نعم , أعتقد أنها مسألة الرسائل . "
أومأ برأسه قائلاً : " أظن أنك تلقيت واحدة منها . "
" نعم , بعد وصولنا هنا مباشرة . "
" ما فحواها بالضبط ؟ "
فكرت قليلاً ثم ذكرت له كلمات الرسالة بأكبر قدر ممكن من الدقة .
استمع مفتش الشرطة بوجه خال من التعبيرات , وعندما أنهيت كلامي قال : " إذن لم تحتفظوا بالرسالة سيد بيرتون ؟ "
" آسف , لم نفعل.فقد كنت أظنه مجرد نوعاً من النكاية في وافدين جدد في القرية. "
أحنى مفتش الشرطة رأسه متفكراً . ثم قال في اقتضاب : " يا للأسف . "
قلت : " ومع ذلك فقد تلقت أختي واحدة في الأمس . وأنقذتها بصعوبة بعدما ألقتها في النار . "
" شكراً لك يا سيد بيرتون , فقد كان هذا جميلاً منك . "
ذهبت إلى مكتبي وفتحت الدرج الذي وضعتها فيه , فقد فكرت أنه ليس من المناسب أن تراها بارتريدج.أخذتها وأعطيتها لناش.فنظر إليها بسرعة , قم نظر إلي وقال: "
هل لها نفس مظهر الرسالة السابقة ؟ "
" أعتقد ذلك , إن لم تخني الذاكرة . "
" نفس الفارق بين المظروف ونص الرسالة . "
قلت : " نعم , فقد كان المظروف مطبوعاً على آلة كاتبة , أما الرسالة نفسها فقد كانت عبارة عن كلمات مأخوذة من كتاب وملصقة على ورقة بيضاء . "
أومأ ناش ووضعها في محفظته , ثم قال : " إنني أتساءل يا سيد بيرتون إن كنت تمانع في مرافقتي إلى قسم الشرطة ؟ حيث نستطيع هناك التحاور مع أفراد آخرين ونوفر على أنفسنا الكثير من الوقت والتداخل . "
قلت : " بالطبع , هل يمكن أن آتي الآن ؟ "
" إن لم يكن لديك مانع . "
كانت سيارة الشرطة تنتظر أمام الباب , فاستقللنا السيارة متوجهين نحو قسم الشرطة .
قلت : " أتظن أنك ستصل إلى نتيجة بخصوص هذه المشكلة ؟ "
أومأ ناش بثقة واضحة .
" أوه , نعم , سوف نصل إلى الفاعل بسهولة . إنها مسألة وقت وروتين , فهذه القضايا تسير ببطء , ولكن حلها أمر مؤكد . إنها مسألة تضييق الاحتمالات . "
قلت : " أتعني التركيز على أسماء بعينها واستثناء الأخرى ؟ "
" نعم , بالإضافة إلى بعض المهام الروتينية . "
" أتقصد مراقبة صناديق البريد , وفحص الآلات الكاتبة , والبصمات , وما إلى ذلك ؟ "
ابتسم قائلاً : " تماماً , كما تقول . "
في قسم الشرطة وجدنا سيمنجتون وجريفيث هناك وعرفني ناش على رجل ذي ذقن بارز وطويل يرتدي ملابس مدنية , وقال لي إنه المفتش جريفز .
شرح ناش قائلاً : " لقد جاء المفتش جريفز من لندن لمساعدتنا . إنه خبير في الرسائل مجهولة المصادر . "
ابتسم المفتش جريفز ابتسامة كئيبة . فتراءى لي على الفور أن الحياة التي يمضيها صاحبها في اقتفاء أثر كاتبي الرسائل المجهولة لابد وأن تصيبه بالاكتئاب . ومع ذلك فقد أظهر المفتش جريفز حماساً به مسحة من الكآبة .
قال بصوت عميق حزين أشبه بكلب بوليسي محبط : " إن هذه القضايا متشابهة إلى حد كبير . فقد تدهش من مدى تشابه كلمات وصياغة هذه الرسائل . "
قال ناش : " لقد قابلنا قضية مشابهة قبل سنتين وساعدنا المفتش حينئذ . "
رأيت بعض الرسائل على الطاولة أمام جريفز , لابد وأنه كان يتفحصها .
قال ناش : " من الصعب الحصول على رسائل من هذا النوعية , وذلك لأن الناس إما يحرقونها أو أنهم لا يعترفون بتلقيها من الأساس. فالناس هنا ـ كما رأيت بنفسك ـ أغبياء, ويخشون التعامل مع الشرطة , فهم متخلفون إلى حد كبير . "
قال جريفز : " غير أننا تلقينا عدداً من هذه الرسائل يكفي لبدأ التحري وكشف الجاني . " في تلك الأثناء أخرج ناش من جيبه الرسالة التي أعطيته إياها وسلمها لجريفز .
ألقى الأخير نظرة سريعة عليها , ثم وضعها بجانب الرسائل الأخرى وقال في سعادة ورضى : " رائع جداً ـ رائع جداً . "
لم أكن أظن أن هذه الرسائل البذيئة قد تبث السعادة في نفس أحد , غير أنه يبدو أن للخبراء وجهة نظر خاصة في هذا الصدد .
قال المفتش جريفز : " أعتقد أننا حصلنا على عدد كاف من الرسائل للبدء في العمل , وسوف أطلب منكم أيها السادة , إذا تلقيتم المزيد منها , أن تبلغونا على الفور ؛ وكذلك إذا سمعتم أن أحداً تلقى رسالة مجهولة المصدر ـ وبخاصة أنت , أيها الطبيب بين مرضاك , فابذلوا ما بوسعكم لإقناعه بالمجيء إلينا وإبلاغنا عنها . لدينا ـ " قلب الرسائل بأطراف أصابعه , مستطرداً : " واحدة للسيد سيمنجتون تلقاها منذ شهرين , وواحدة للسيد جريفيث , وواحدة للآنسة " جينش " , وأخرى لجينيفر كلارك , النادلة بمطعم " ثري كراونز " , والرسالة التي تلقتها السيدة سيمنجتون , وأخيراً تلك التي تسلمتها الآنسة بيرتون . أوه , نعم , ورسالة بعثها لنا مدير البنك . "
قلت : " إنها مجموعة تمثل جميع الشرائح . "
" ولا تختلف عن القضايا المماثلة ! فهي شديدة الشبه بتلك الرسائل التي كانت تكتبها تلك المرأة المخبولة , كما أنها صورة طبق الأصل من تلك الرسائل التي واجهناها في نوثرمبلاند ـ والتي كتبتها إحدى الطالبات بالمدرسة . بوسعي أن أعلن لكم أيها السادة أنني أود رؤية شيء مختلف . "
قلت متمتماً : " لا جديد تحت الشمس . "
" بالضبط يا سيدي . ولو كنت تعمل في نفس مهنتنا لتبين لك صدق هذه المقولة . "
تنهد ناش قائلاً : " نعم , بالفعل . "
سأل سيمنجتون : " هل توصلتم إلى رأي محدد بشأن كاتب هذه الرسائل ؟ "
" هناك أوجه شبه مشتركة بين كل هذه الرسائل . وسوف أوضحها لكم أيها السادة لعلها توحي لكم بشيء يساعدنا . إن نص الرسائل يتألف من كلمات مصنوعة من أحرف منفصلة قطعت من كتاب مطبوع , إنه كتاب قديم وأظنه طبع عام 1830 . ومن الواضح أن هذا النهج قد اتُبع لتجنب خطر التعرف على الكاتب من خلال خط يده والذي يعتبر أمراً في غاية السهولة . كما يعرف الجميع الآن .... وما يسمى استخدام اليد الخفية في الكتابة أصبح أمراً غير ذي جدوى إن واجهه خبير محنك . وليس هناك بصمات على الرسائل , كما أن المظاريف لها أشكال مختلفة , وقد تعامل معها رجال البريد , والمرسل إليهم , وهناك رسائل أخرى عليها بصمات غير واضحة , ولكن لا يجمعها شيء واحد , مما يشير إلى أن الراسل كان حريصاً على أن يرتدي قفازات , وقد تمت كتابة العناوين على المظاريف بآلة كاتبة مهترئة من طراز وندسور 7 بها حرفا الألف والتاء خارجان على الخط المستقيم . وقد أُرسل معظمها من البريد المحلي أو وضعت باليد في صندوق الرسائل المنزلي . وقد كتبتها امرأة , وأنا أعتقد أنها امرأة في متوسط العمر أو أكبر ,وربما كانت غير متزوجة,على الرغم من أني غير متأكد. "
استمعنا بإنصات لدقيقة أو اثنتين دون أن نقاطعه , ثم قلت : " إنك تراهن على الآلة الكاتبة , أليس كذلك ؟ فلابد أنه من السهل الوصول إليها في قرية صغيرة كهذه . "
هز المفتش جريفز رأسه بحزن وقال : " إنك مخطئ في هذا يا سيدي . "
قال مراقب الشرطة ناش : " الآلة الكاتبة , للأسف , يسهل الوصول إليها . فهي آلة قديمة من مكتب السيد سيمنجتون , وقد تبرع بها لصالح جمعية المرأة , وأعتقد أنه من السهل الوصول إليها , حيث يذهب الكثير من السيدات هنا إلى الجمعية . "
" ألا تستطيع تحديد شيء معين من اللمسة الفنية , كما تطلقون عليها ؟ "
أومأ جريفز مرة أخرى .
" نعم , هذا ممكن بالطبع ـ غير أن المظاريف قد طُبعت كلها بواسطة شخص يستخدم إصبعاً واحداً . "
هو إذن شخص غير بارع في استخدام الآلة الكاتبة ؟ "
" كلا , أنا لا أعني ذلك . بل أعني أنه شخص يجيد استخدام الآلة الكاتبة ولكنه لا يريدنا أن نتعرف على حقيقته . "
" أياً كان كاتب هذه الأشياء فلابد أنه ماكر . "
قال جريفز : " إنها يا سيدي تستخدم كل الحيل الممكنة . "
قلت : " لم أكن أظن أن هؤلاء النسوة القرويات لديهن هذه العقول . "
سعل جريفز , قائلاً : " أخشى أنني لم أكن واضحاً , ولكن هذه الرسائل كتبت على يد امرأة مثقفة . "
" ماذا ؟ أتعني أنها " ليدي " ؟ "
خرجت مني الكلمة عفوياً . فلم أستخدم هذه الكلمة منذ سنوات . ولكنها الآن جاءت على شفتي تلقائياً , بعد مضي أيام طوال منذ أن عرفتها , منذ أن كانت جدتي تقول بصوت تفوح منه رائحة العجرفة التلقائية : " بالطبع إنها ليست ليدي يا عزيزي . "
فهم ناش ما أقصده على الفور , فقد كانت كلمة ليدي لا تزال تعني شيئاً له .
قال : " ليس بالضرورة أن تكون ليدي , ولكنها بالتأكيد ليست امرأة قروية . فمعظمهن أميات هنا لا يستطعن هجاء الكلمات , وقطعاً لا يستطعن التعبير بطلاقة . "
لذت بالصمت بعدما صدمت بهذه التعقيدات . إذ إن المجتمع هنا صغير للغاية . وقد تخيلت في اللاوعي أن كاتبة الرسائل هي السيدة كليت وأضرابها من النساء , فهي امرأة ماكرة .
صاغ سيمنجتون أفكاري بكلمات , حيث قال بحدة : " ولكن هذا يضيق نطاق البحث إلى ست أو اثنتي عشر امرأة على الأكثر ! "
" هذا صحيح . "
" لا أصدق ! "
عندئذ قال سيمنجتون بصوت تكسوه المرارة , وكأنه يخرج الكلمات بصعوبة : " لقد سمعت ما ذكرته في الاستجواب . وإذا ما كنت تعتقد أن تلك الشهادة كانت بناء على رغبة مني لحماية ذكرى زوجتي , فإنني أود أن أكرر الآن أنني مقتنع تمام الاقتناع بأن كل ما ورد في الرسالة التي تسلمتها زوجتي كان محض افتراءات . لقد كانت زوجتي حساسة ورقيقة للغاية , وربما يمكنكم اعتبارها عصبية . ومثل هذه الرسالة من شأنها أن تسبب لها صدمة نفسية عنيفة , بالإضافة إلى أنها كانت معتلة الصحة . "
رد جريفز على الفور : " هذا صحيح إلى حد كبير يا سيدي , فهذه الرسائل لا تشير إلى أن كاتبها واثق من معلوماته . إنها مجرد اتهامات عمياء . ولم يكن هناك ابتزاز . ولا يبدو أن بها أي تحيز ديني ــ كما يحدث في بعض الأحيان . إنها فقط مليئة بالجنس والبغضاء ! وهذا يعطينا مؤشراً جيداً للتعرف على الكاتب . "
نهض سيمنجتون , وقال بشفتين مرتعشتين : " أتمنى أن تجد الشيطانة التي كتبت هذه الرسائل اللعينة سريعاً . لقد قتلت زوجتي كما لو أنها غرست سكيناً في قلبها . " صمت قليلاً ثم أضاف : " إنني أتساءل , ما شعورها الآن ؟ " . خرج تاركاً السؤال بدون إجابة.
سألت : " ما شعورها الآن يا جريفيث ؟ " وبدا لي أن الإجابة في نطاق اختصاصه .
" الله أعلم . ومن جانب آخر , فقد تكون مستمتعة بقوتها . فلابد أن موت السيدة سيمنجتون قد أشبع جنونها . "
قلت برعشة خفيفة : " لا أتمنى ذلك . لأنها إن كانت كذلك , فسوف ــ "
ترددت فيما أنهى ناش عبارتي قائلاً : " فسوف تحاول مرة أخرى ؟ إن هذا ما نتمنى حدوثه يا سيد بيرتون . وتذكر أن الضمآن يذهب إلى البئر كثيراً . "
صحت قائلاً : " سوف تكون مجنونة إن واصلت عملها هذا . "
قال جريفز : " سوف تواصل . فهذا النوع دائماً ما يفعل . إنه شيء يجري في دمائهم ولا يستطيعون التخلص منه . "
هززت رأسي وأنما أرتعد . ثم سألتهم إن كانوا يحتاجون إلي في شيء آخر , فقد كنت أريد الخروج في الهواء , حيث بدا الجو هنا مفعماً بالشر .
قال ناش : " لا يوجد لدينا المزيد يا سيد بيرتون كل ما عليك هو أن تبقي عينيك مفتوحتين , وتبذل ما بوسعك للدعاية ـ كأن تحث الجميع على إبلاغنا بأي رسالة يتلقونها من هذا النوع . "
أومأت برأسي قائلاً : " أعتقد أنه ما من أحد هنا إلا وتلقى رسالة من هذا النوع . "
قال جريفز : " هل تعرف أحداً , على وجه التحديد , لم يتلق رسالة ؟ "
" يا له من سؤال غريب ! فليس من المتوقع أن يبوح كل السكان بأسرارهم . "
" كلا , كلا يا سيد بيرتون , إنني لم أقصد ذلك , فقط أردت أن أتساءل إن كنت تعرف أي شخص وتثق تماماً أنه لم يتلق رسالة مجهولة ؟ "
ترددت ثم قلت : " حسناً , أعرف إلى حد ما . "
يتبع.........

القيصر
01-15-2011, 02:42 PM
قلت : " لقد فصل السيد إدوارد جيري , الذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد , من جامعة أكسفورد بسبب كسله الفظيع . كما أن الدوق ويلنتجون ـ على حد علمي ـ كان كسولاً وغير مهتم بكتبه . ثم , ألم يخطر ببالك يا آنسة جريفيث أنك لم تكوني لتستطيعي استقلال القطار إلى لندن لو أن جورج ستيفنسون كان قد خرج مع أقرانه من الشباب للعمل بدلاً من التسكع في مطبخ أمه شاعراً بالملل حتى انتبه عقله الكسول إلى الحركة الرتيبة لغطاء غلاية الشاي ؟ "
لم تقل إيمي شيئاً سوى أن تنهدت بحنق .
فقلت معضداً فكرتي : " إنها نظريتي الخاصة . إذ أرى أننا ندين للكسل ـ سواءً كان اختيارياً أو جبرياً ـ بمعظم ابتكاراتنا وإنجازاتنا العظيمة . فالعقل البشري يفضل أن يتغذى على أفكار الآخرين دون بذل جهد يذكر , ولكن إذا حرم من تلك الرفاهية , فسوف يبدأ التفكير لنفسه ـ وتذكري أن مثل هذا التفكير الخلاق وربما يؤدي إلى نتائج قيمة . "
واصلت حديثي قبل أن تتاح لإيمي فرصة لإطلاق تنهيدة حانقة أخرى : " فضلاً عن ذلك , فإن الكسل به جانب فني . "
نهضت وأخذت من على مكتبي صورة طالما لازمتني , إنها صورتي الصينية المفضلة , وهي تصور رجلاً عجوزاً جالساً تحت شجرة يلعب تشبيك الخيوط بأطراف أصابع يديه .
قلت : " كانت في المعرض الصيني وقد أعجبتني , اسمحي لي بأن أريك إياها . إنها تدعى " رجل عجوز يستمتع بالكسل . "
لم تعجب إيمي بصورتي الجميلة , فقالت : " أوه , حسناً , إننا جميعاً نعرف طباع الصينيين . "
سألتها : " ألا تروق لك ؟ "
" بصراحة كلا , فأنا لا أهتم بالفن كثيراً , كما أن طريقة تفكيرك يا سيد بيرتون لا تختلف عن طريقة تفكير معظم الرجال . فأنتم تكرهون عمل المرأة ــــ ومنافستها لكم ــــ "
أصابتني الدهشة , فهاأنذا قد أصبحت عدواً للحركة النسائية . استمرت إيمي في دفاعها وقد احمرت وجنتاها .
" إنه لا تروق لك فكرة خروج المرأة من لميدان العمل , تماماً كوالدي . فقد كنت مهتمة بدراسة الطب ولكنهما لم يكونا مهتمين بدفع مصاريف الدراسة , ومع ذلك فقد كانا مستعدين لدفعها لأوين . لقد كان بإمكاني أن أصبح طبيبة أفضل من أخي ."
قلت : " أنا آسف لما حدث معك , فلابد أنه كان شيئاً قاسياً عليك . فحينما يريد المرء فعل شيء ــ "
واصلت كلامها بسرعة : " أوه , لقد تغلبت على هذا الآن , لفدي إرادة شديدة لا تقهر , وحياتي مشحونة بالأنشطة المختلفة . إنني واحدة من أسعد الناس في لايمستوك , ولدي الكثير لأفعله . ولكنني أسعى لهدم الفكرة البالية القائلة بأن مكان المرأة هو بيتها . "
قلت : " آسف إن كنت قد آلمتك . وهذه لم تكن وجهة نظري حقاً , وأنا لا أتصور أن ميجان يمكن أن تصبح ربة منزل تقليدية . "
" كلا , إنها طفلى مسكينة , ولكنني أخشى لا تصلح لأي شيء . " هدأت إيمي وعادت لتتكلم بطريقتها المعتادة مرة أخرى قائلة : " إن أباها , كما تعرف ـــ "
توقفت , فقلت مغتاظاً : " لا أعرف , فالجميع هنا يقولون (( إن أباها )) ثم يخفضون أصواتهم , ثم لا شيء . ماذا فعل ذلك الرجل ؟ ألا يزال حياً ؟ "
" في الحقيقة , لا أعرف , وأخشى أنه غامض بالنسبة لي شخصياً , ولكنه كان بلا ريب سيئاً . أعتقد أنه من أرباب السجون , وشخصية غريبة الأطوار إلى حد كبير , لذلك لن أُدهش إذا كانت ميجان مختلفة بعض الشيء . "
قلت : " إن ميجان في كامل قواها العقلية , وكما قلت من قبل , فإنني أعتبرها فتاة ذكية . وأختي تعتبرها كذلك أيضاً , إن جوانا تحبها كثيراً . "
قالت إيمي : " أخشى أن أختك تجد الحياة مملة هنا بالتأكيد . "
ما أن قالتها , حتى عرفت شيئاً آخر , إن إيمي جريفيث تكره أختي , فلقد بدا ذلك واضحاً في نبرة صوتها .
" لقد تساءلنا جميعاً كيف يمكنكما العيش هنا في هذه البقعة النائية . "
لقد أجبت عن هذا السؤال سابقاً .
صمتُّ لبرهة ثم أضفت قائلاً : " إنها أوامر الأطباء , أن أذهب إلى مكان هادئ جداً لا يحدث فيه شيء مزعج . ولكن هذا لا ينطبق على لايمستوك في الوقت الراهن ."
" كلا , كلا , أنت محق . "
بدت قلقة ثم نهضت وهي تهم بالمغادرة , وقالت عندئذ : " يجب وضع حد لكل هذه الوحشية ! فنحن لا نستطيع استمرار تحمل هذا الوضع . "
" ألا تفعل الشرطة شيئاً ؟ "
" من المفترض أن يفعلوا , ولكنني أعتقد أنه يجب أن نتعامل مع هذه السخافات بأنفسنا . "
" إننا لا نمتلك ما يملكونه من أسلحة . "
" هراء ! ربما كنا أكثر منهم حنكة وذكاء . ولا ينقصنا سوى القليل من العزيمة . "
ثم ودعتني بسرعة وذهبت . وعندما عادت جوانا وميجان قدمت صورتي الصينية لميجان , فتهللت أساريرها وقالت : " إنها رائعة , أليس كذلك ؟ "
" هذا هو رأيي . "
قطبت جبينها بالطريقة التي أعرفها جيداً .
" ولكنه أمر صعب حقاً , أليس كذلك ؟ "
" أن يكون الأمر كسولاً ؟ "
" لا , ليس أن يكون كسولاً ـ بل أن يستمتع به , لابد أنه عجوز جداً ــ "
توقفت عن الكلام , فقلت : " إنه رجل عجوز بالفعل . "
" لا أقصد أن يكون عجوزاً بهذا المعنى . بل أقصد أن يكون عجوزاً بـ ... "
قلت : " تقصدين أن على المرء أن يرقى إلى درجة عالية من التحضر حتى تظهر له الأمور على هذا النحو ـ إنها وجهة نظر معقدة ؟ أعتقد أنه يجب أن تكملي تعليمك يا ميجان عن طريق قراءة مائة قصيدة مترجمة عن الصينية . "
3
قابلت سيمنجون في وقت متأخر من اليوم .
سألته : " هل تمانع في أن تبقى ميجان معنا لبعض الوقت ؟ إن جوانا سعيدة بها ـ فهي تشعر بالوحدة أحياناً لعدم وجود أحد من أصدقاءها . "
" أوه ـ من ـ ميجان ؟ أوه , هذا كرم بالغ منك . "
كرهت سيمنجتون منذ ذلك الحين كراهية لم أتمكن من التغلب عليها . فقد بدا واضحاً أنه نسي كل شيء يمت بصلة لميجان . لم أكن لأبالي بو أنه كره الفتاة ـ فالرجل أحياناً يغار من أطفال الرجل السابق ـ بيد أنه لم يكن يكرهها , بل إنه لم يكن يلاحظ وجودها من الأساس . فمثل سيمنجتون وميجان مثل رجل لا يهتم بالكلاب وكان هناك كلب بمنزله , فلا ينتبه لوجوده إلا عندما يصطدم به فيوبخه , وأحياناً يربت عليه شذراً عندما يأتي ويتمسح به . لقد ضايقتني اللامبالاة التي أبداها سيمنجتون تجاه ابنة زوجته .
قلت : " ما خططك بشأنها ؟ "
بدا وكأنه فوجئ بسؤالي , فقال : " بشأن ميجان ؟ حسناً , سوف تعيش كما كانت في المنزل . أقصد بالطبع , أنه منزلها . "
كانت جدتي التي أحببتها كثيراً , تغني أغاني قديمة على الجيتار الخاص بها . وأذكر أن نهاية إحدى هذه الأغاني كانت كالتالي :
(( أوه يا عزيزتي , أن لست هنا
ليس لي مكان أو بيت ,
لم يعد لي مأوى , في البحر أو على الشط ,
فمكاني الوحيد في قلبك . ))
ظللت أرددها وأنا في طريق المنزل .
4
جاءت إيميلي بارتون بعد أنم انتهينا من تناول الشاي مباشرة . كانت تريد الحديث عن الحديقة , فأخذنا نتحدث ونحن نتجول هناك لمدة نصف ساعة تقريباً . ثم عدنا أدراجنا إلى المنزل .
وعندئذ أخفضت صوتها , وتمتمت قائلة : " أتمنى ألا تكون هذه الطفلة ـ مستاءة من هذا الحدث المروع . "
" أتقصدين موت أمها ؟ "
" نعم , بالطبع , ولكني في الحقيقة قصدت الإساءة المختلفة عنه . "
اعتراني الفضول , فأردت أن أعرف ردة فعل الآنسة بارتون .
" ما رأيك في تلك الإساءات ؟ أكانت حقيقية ؟ "
" كلا , كلا , بالتأكيد لم يكن بها شيء من الحقيقة . فأنا متأكدة تماماً أن السيدة سيمنجتون لم تكن ـ لم أعني أنه لم يكن."احمر وجه الآنسة بارتون ورتبكت ــــ " أقصد أن تلك الإساءات ليست حقيقية على الإطلاق ـ على الرغم من أنها قد تكون بمثابة حكم . "
قلت محدقاً إليها : " حكم ؟ "
ازداد احمرار وجه إيميلي بارتون وارتعشت شفتاها .
" لا أستطيع منع نفسي من الشعور بأن هذه الخطابات المروعة , وكل الحزن والألم الذي سببته , ربما يتم إرسالها لغرض ما . "
قلت مقطباً جبيني : " لقد أرسلت لغرض ما بكل تأكيد . "
" كلا , كلا يا سيد بيرتون , لقد أسأت فهمي . إنني لا أتحدث عن هذا المخلوق الضال الذي كتبها ـ فلابد أنه شخص منبوذ تماماً . وإنما أعني أن الله قد ابتلانا بها ليوقظ ضميرنا وينبهنا إلى أخطائنا ."
قلت : " إن الله لا يجبر الإنسان على فعل الشر , فالإنسان هو الذي يوعز إلينا بالشرور . "
" ما لا أستطيع فهمه أبداً هو ما الذي يدفع أي إنسان إلى فعل شيء كهذا ؟ "
هززت كتفي قائلاً : " عقلية مريضة . "
" يبدو أنه إنسان تعيس جداً . "
" لا يبدو لي أنه تعيس , وإنما هو ملعون , وأنا لست نادماً على هذا الوصف , بل أعنيه تماماً . "
اختفت الحمرة عن وجنتا الآنسة بارتون وأصبحتا شاحبتين .
" ولكن لماذا يا سيد بيرتون , لماذا؟أية سعادة يحصل عليها المرء من شيء كهذا؟ "
" لا أستطيع أنا ولا أنتي فهم ذلك , وهذا من فضل الله علينا . "
أخفضت إيميلي بارتون صوتها قائلة : " يقولون أنها السيدة كليت ـ ولكنني لا أستطيع تصديق هذا . "
هززت رأسي , بينما واصلت حديثها مهتاجة : " لم يحدث شيئ كهذا من قبل , على أن أذكر أنه قد كان مجتمعاً صغيراً يعيش في سعادة . ترى ماذا كانت أمي العزيزة لتقوله عما يحدث الآن ؟ حسناً , إنني أحمد الله لأنها ماتت قبل أن ترى مثل هذه الأشياء . "
من خلال ما عرفته عن السيدة بارتون الراحلة فإنها كانت صلبة بما فيه الكفاية لتحمل أي شيء , بل وربما كانت لتستمتع بهذا الحديث المثير .
واصلت إيميلي حديثها : " إنها تحزنني كثيراً . "
" ألم ـ ألم تتلق رسالة من هذه الرسائل المجهولة ؟ "
احمر وجهها وقالت : " أوه , لا ـ أوه , لا , حقاً . أوه ! هذا الشيء كان ليصيبني بالرعب . "
اعتذرت بسرعة , ولكنها غادرت مستاءة .
دخلت إلى المنزل ,كانت جوانا تقف في حجرة الرسم بجوار النار التي أشعلتها للتو, حيث كان الجو بارداً الليلة .
" جيري ! لقد وجدت هذا في صندوق الخطابات , مرسلاً باليد . حيث تقول بداية الخطاب : " أنت أيتها الساقطة . "
" ماذا بها أيضاً غير ذلك ؟ "
" قطبت جوانا جبينها قائلة : " نفس السخافات السابقة . "
ألقتها في النار , فقفزت قفزة سرعت آلمت ظهري والتقطتها قبل أن تلمسها النار .
قلت : " كلا , قد نحتاج إليها . "
" نحتاج إليها ؟ "
" لتقديمها للشرطة . "
5
في صباح اليوم التالي جاء المفتش ناش لرؤيتي . منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها أعجبت به , فقد كان نموذجاً مثالياً لرجل الشرطة , كان طويل القامة , ذا مظهر عسكري , وعيناه تنمان عن الذكاء والفطنة .
قال : " صباح الخير يا سيد بيرتون , أعتقد أنك تعرف سبب مجيئي إليك . "
" نعم , أعتقد أنها مسألة الرسائل . "
أومأ برأسه قائلاً : " أظن أنك تلقيت واحدة منها . "
" نعم , بعد وصولنا هنا مباشرة . "
" ما فحواها بالضبط ؟ "
فكرت قليلاً ثم ذكرت له كلمات الرسالة بأكبر قدر ممكن من الدقة .
استمع مفتش الشرطة بوجه خال من التعبيرات , وعندما أنهيت كلامي قال : " إذن لم تحتفظوا بالرسالة سيد بيرتون ؟ "
" آسف , لم نفعل.فقد كنت أظنه مجرد نوعاً من النكاية في وافدين جدد في القرية. "
أحنى مفتش الشرطة رأسه متفكراً . ثم قال في اقتضاب : " يا للأسف . "
قلت : " ومع ذلك فقد تلقت أختي واحدة في الأمس . وأنقذتها بصعوبة بعدما ألقتها في النار . "
" شكراً لك يا سيد بيرتون , فقد كان هذا جميلاً منك . "
ذهبت إلى مكتبي وفتحت الدرج الذي وضعتها فيه , فقد فكرت أنه ليس من المناسب أن تراها بارتريدج.أخذتها وأعطيتها لناش.فنظر إليها بسرعة , قم نظر إلي وقال: "
هل لها نفس مظهر الرسالة السابقة ؟ "
" أعتقد ذلك , إن لم تخني الذاكرة . "
" نفس الفارق بين المظروف ونص الرسالة . "
قلت : " نعم , فقد كان المظروف مطبوعاً على آلة كاتبة , أما الرسالة نفسها فقد كانت عبارة عن كلمات مأخوذة من كتاب وملصقة على ورقة بيضاء . "
أومأ ناش ووضعها في محفظته , ثم قال : " إنني أتساءل يا سيد بيرتون إن كنت تمانع في مرافقتي إلى قسم الشرطة ؟ حيث نستطيع هناك التحاور مع أفراد آخرين ونوفر على أنفسنا الكثير من الوقت والتداخل . "
قلت : " بالطبع , هل يمكن أن آتي الآن ؟ "
" إن لم يكن لديك مانع . "
كانت سيارة الشرطة تنتظر أمام الباب , فاستقللنا السيارة متوجهين نحو قسم الشرطة .
قلت : " أتظن أنك ستصل إلى نتيجة بخصوص هذه المشكلة ؟ "
أومأ ناش بثقة واضحة .
" أوه , نعم , سوف نصل إلى الفاعل بسهولة . إنها مسألة وقت وروتين , فهذه القضايا تسير ببطء , ولكن حلها أمر مؤكد . إنها مسألة تضييق الاحتمالات . "
قلت : " أتعني التركيز على أسماء بعينها واستثناء الأخرى ؟ "
" نعم , بالإضافة إلى بعض المهام الروتينية . "
" أتقصد مراقبة صناديق البريد , وفحص الآلات الكاتبة , والبصمات , وما إلى ذلك ؟ "
ابتسم قائلاً : " تماماً , كما تقول . "
في قسم الشرطة وجدنا سيمنجتون وجريفيث هناك وعرفني ناش على رجل ذي ذقن بارز وطويل يرتدي ملابس مدنية , وقال لي إنه المفتش جريفز .
شرح ناش قائلاً : " لقد جاء المفتش جريفز من لندن لمساعدتنا . إنه خبير في الرسائل مجهولة المصادر . "
ابتسم المفتش جريفز ابتسامة كئيبة . فتراءى لي على الفور أن الحياة التي يمضيها صاحبها في اقتفاء أثر كاتبي الرسائل المجهولة لابد وأن تصيبه بالاكتئاب . ومع ذلك فقد أظهر المفتش جريفز حماساً به مسحة من الكآبة .
قال بصوت عميق حزين أشبه بكلب بوليسي محبط : " إن هذه القضايا متشابهة إلى حد كبير . فقد تدهش من مدى تشابه كلمات وصياغة هذه الرسائل . "
قال ناش : " لقد قابلنا قضية مشابهة قبل سنتين وساعدنا المفتش حينئذ . "
رأيت بعض الرسائل على الطاولة أمام جريفز , لابد وأنه كان يتفحصها .
قال ناش : " من الصعب الحصول على رسائل من هذا النوعية , وذلك لأن الناس إما يحرقونها أو أنهم لا يعترفون بتلقيها من الأساس. فالناس هنا ـ كما رأيت بنفسك ـ أغبياء, ويخشون التعامل مع الشرطة , فهم متخلفون إلى حد كبير . "
قال جريفز : " غير أننا تلقينا عدداً من هذه الرسائل يكفي لبدأ التحري وكشف الجاني . " في تلك الأثناء أخرج ناش من جيبه الرسالة التي أعطيته إياها وسلمها لجريفز .
ألقى الأخير نظرة سريعة عليها , ثم وضعها بجانب الرسائل الأخرى وقال في سعادة ورضى : " رائع جداً ـ رائع جداً . "
لم أكن أظن أن هذه الرسائل البذيئة قد تبث السعادة في نفس أحد , غير أنه يبدو أن للخبراء وجهة نظر خاصة في هذا الصدد .
قال المفتش جريفز : " أعتقد أننا حصلنا على عدد كاف من الرسائل للبدء في العمل , وسوف أطلب منكم أيها السادة , إذا تلقيتم المزيد منها , أن تبلغونا على الفور ؛ وكذلك إذا سمعتم أن أحداً تلقى رسالة مجهولة المصدر ـ وبخاصة أنت , أيها الطبيب بين مرضاك , فابذلوا ما بوسعكم لإقناعه بالمجيء إلينا وإبلاغنا عنها . لدينا ـ " قلب الرسائل بأطراف أصابعه , مستطرداً : " واحدة للسيد سيمنجتون تلقاها منذ شهرين , وواحدة للسيد جريفيث , وواحدة للآنسة " جينش " , وأخرى لجينيفر كلارك , النادلة بمطعم " ثري كراونز " , والرسالة التي تلقتها السيدة سيمنجتون , وأخيراً تلك التي تسلمتها الآنسة بيرتون . أوه , نعم , ورسالة بعثها لنا مدير البنك . "
قلت : " إنها مجموعة تمثل جميع الشرائح . "
" ولا تختلف عن القضايا المماثلة ! فهي شديدة الشبه بتلك الرسائل التي كانت تكتبها تلك المرأة المخبولة , كما أنها صورة طبق الأصل من تلك الرسائل التي واجهناها في نوثرمبلاند ـ والتي كتبتها إحدى الطالبات بالمدرسة . بوسعي أن أعلن لكم أيها السادة أنني أود رؤية شيء مختلف . "
قلت متمتماً : " لا جديد تحت الشمس . "
" بالضبط يا سيدي . ولو كنت تعمل في نفس مهنتنا لتبين لك صدق هذه المقولة . "
تنهد ناش قائلاً : " نعم , بالفعل . "
سأل سيمنجتون : " هل توصلتم إلى رأي محدد بشأن كاتب هذه الرسائل ؟ "
" هناك أوجه شبه مشتركة بين كل هذه الرسائل . وسوف أوضحها لكم أيها السادة لعلها توحي لكم بشيء يساعدنا . إن نص الرسائل يتألف من كلمات مصنوعة من أحرف منفصلة قطعت من كتاب مطبوع , إنه كتاب قديم وأظنه طبع عام 1830 . ومن الواضح أن هذا النهج قد اتُبع لتجنب خطر التعرف على الكاتب من خلال خط يده والذي يعتبر أمراً في غاية السهولة . كما يعرف الجميع الآن .... وما يسمى استخدام اليد الخفية في الكتابة أصبح أمراً غير ذي جدوى إن واجهه خبير محنك . وليس هناك بصمات على الرسائل , كما أن المظاريف لها أشكال مختلفة , وقد تعامل معها رجال البريد , والمرسل إليهم , وهناك رسائل أخرى عليها بصمات غير واضحة , ولكن لا يجمعها شيء واحد , مما يشير إلى أن الراسل كان حريصاً على أن يرتدي قفازات , وقد تمت كتابة العناوين على المظاريف بآلة كاتبة مهترئة من طراز وندسور 7 بها حرفا الألف والتاء خارجان على الخط المستقيم . وقد أُرسل معظمها من البريد المحلي أو وضعت باليد في صندوق الرسائل المنزلي . وقد كتبتها امرأة , وأنا أعتقد أنها امرأة في متوسط العمر أو أكبر ,وربما كانت غير متزوجة,على الرغم من أني غير متأكد. "
استمعنا بإنصات لدقيقة أو اثنتين دون أن نقاطعه , ثم قلت : " إنك تراهن على الآلة الكاتبة , أليس كذلك ؟ فلابد أنه من السهل الوصول إليها في قرية صغيرة كهذه . "
هز المفتش جريفز رأسه بحزن وقال : " إنك مخطئ في هذا يا سيدي . "
قال مراقب الشرطة ناش : " الآلة الكاتبة , للأسف , يسهل الوصول إليها . فهي آلة قديمة من مكتب السيد سيمنجتون , وقد تبرع بها لصالح جمعية المرأة , وأعتقد أنه من السهل الوصول إليها , حيث يذهب الكثير من السيدات هنا إلى الجمعية . "
" ألا تستطيع تحديد شيء معين من اللمسة الفنية , كما تطلقون عليها ؟ "
أومأ جريفز مرة أخرى .
" نعم , هذا ممكن بالطبع ـ غير أن المظاريف قد طُبعت كلها بواسطة شخص يستخدم إصبعاً واحداً . "
هو إذن شخص غير بارع في استخدام الآلة الكاتبة ؟ "
" كلا , أنا لا أعني ذلك . بل أعني أنه شخص يجيد استخدام الآلة الكاتبة ولكنه لا يريدنا أن نتعرف على حقيقته . "
" أياً كان كاتب هذه الأشياء فلابد أنه ماكر . "
قال جريفز : " إنها يا سيدي تستخدم كل الحيل الممكنة . "
قلت : " لم أكن أظن أن هؤلاء النسوة القرويات لديهن هذه العقول . "
سعل جريفز , قائلاً : " أخشى أنني لم أكن واضحاً , ولكن هذه الرسائل كتبت على يد امرأة مثقفة . "
" ماذا ؟ أتعني أنها " ليدي " ؟ "
خرجت مني الكلمة عفوياً . فلم أستخدم هذه الكلمة منذ سنوات . ولكنها الآن جاءت على شفتي تلقائياً , بعد مضي أيام طوال منذ أن عرفتها , منذ أن كانت جدتي تقول بصوت تفوح منه رائحة العجرفة التلقائية : " بالطبع إنها ليست ليدي يا عزيزي . "
فهم ناش ما أقصده على الفور , فقد كانت كلمة ليدي لا تزال تعني شيئاً له .
قال : " ليس بالضرورة أن تكون ليدي , ولكنها بالتأكيد ليست امرأة قروية . فمعظمهن أميات هنا لا يستطعن هجاء الكلمات , وقطعاً لا يستطعن التعبير بطلاقة . "
لذت بالصمت بعدما صدمت بهذه التعقيدات . إذ إن المجتمع هنا صغير للغاية . وقد تخيلت في اللاوعي أن كاتبة الرسائل هي السيدة كليت وأضرابها من النساء , فهي امرأة ماكرة .
صاغ سيمنجتون أفكاري بكلمات , حيث قال بحدة : " ولكن هذا يضيق نطاق البحث إلى ست أو اثنتي عشر امرأة على الأكثر ! "
" هذا صحيح . "
" لا أصدق ! "
عندئذ قال سيمنجتون بصوت تكسوه المرارة , وكأنه يخرج الكلمات بصعوبة : " لقد سمعت ما ذكرته في الاستجواب . وإذا ما كنت تعتقد أن تلك الشهادة كانت بناء على رغبة مني لحماية ذكرى زوجتي , فإنني أود أن أكرر الآن أنني مقتنع تمام الاقتناع بأن كل ما ورد في الرسالة التي تسلمتها زوجتي كان محض افتراءات . لقد كانت زوجتي حساسة ورقيقة للغاية , وربما يمكنكم اعتبارها عصبية . ومثل هذه الرسالة من شأنها أن تسبب لها صدمة نفسية عنيفة , بالإضافة إلى أنها كانت معتلة الصحة . "
رد جريفز على الفور : " هذا صحيح إلى حد كبير يا سيدي , فهذه الرسائل لا تشير إلى أن كاتبها واثق من معلوماته . إنها مجرد اتهامات عمياء . ولم يكن هناك ابتزاز . ولا يبدو أن بها أي تحيز ديني ــ كما يحدث في بعض الأحيان . إنها فقط مليئة بالجنس والبغضاء ! وهذا يعطينا مؤشراً جيداً للتعرف على الكاتب . "
نهض سيمنجتون , وقال بشفتين مرتعشتين : " أتمنى أن تجد الشيطانة التي كتبت هذه الرسائل اللعينة سريعاً . لقد قتلت زوجتي كما لو أنها غرست سكيناً في قلبها . " صمت قليلاً ثم أضاف : " إنني أتساءل , ما شعورها الآن ؟ " . خرج تاركاً السؤال بدون إجابة.
سألت : " ما شعورها الآن يا جريفيث ؟ " وبدا لي أن الإجابة في نطاق اختصاصه .
" الله أعلم . ومن جانب آخر , فقد تكون مستمتعة بقوتها . فلابد أن موت السيدة سيمنجتون قد أشبع جنونها . "
قلت برعشة خفيفة : " لا أتمنى ذلك . لأنها إن كانت كذلك , فسوف ــ "
ترددت فيما أنهى ناش عبارتي قائلاً : " فسوف تحاول مرة أخرى ؟ إن هذا ما نتمنى حدوثه يا سيد بيرتون . وتذكر أن الضمآن يذهب إلى البئر كثيراً . "
صحت قائلاً : " سوف تكون مجنونة إن واصلت عملها هذا . "
قال جريفز : " سوف تواصل . فهذا النوع دائماً ما يفعل . إنه شيء يجري في دمائهم ولا يستطيعون التخلص منه . "
هززت رأسي وأنما أرتعد . ثم سألتهم إن كانوا يحتاجون إلي في شيء آخر , فقد كنت أريد الخروج في الهواء , حيث بدا الجو هنا مفعماً بالشر .
قال ناش : " لا يوجد لدينا المزيد يا سيد بيرتون كل ما عليك هو أن تبقي عينيك مفتوحتين , وتبذل ما بوسعك للدعاية ـ كأن تحث الجميع على إبلاغنا بأي رسالة يتلقونها من هذا النوع . "
أومأت برأسي قائلاً : " أعتقد أنه ما من أحد هنا إلا وتلقى رسالة من هذا النوع . "
قال جريفز : " هل تعرف أحداً , على وجه التحديد , لم يتلق رسالة ؟ "
" يا له من سؤال غريب ! فليس من المتوقع أن يبوح كل السكان بأسرارهم . "
" كلا , كلا يا سيد بيرتون , إنني لم أقصد ذلك , فقط أردت أن أتساءل إن كنت تعرف أي شخص وتثق تماماً أنه لم يتلق رسالة مجهولة ؟ "
ترددت ثم قلت : " حسناً , أعرف إلى حد ما . "

القيصر
01-15-2011, 02:43 PM
ثم ذكرت له الحوار الذي دار بيني وبين إيميلي بارتون وما قالته لي .
تلقى جريفز المعلومة بوجه جامد خال من التعبير , ثم قال : " حسناً , قد يأتي هذا بفائدة. سوف أسجله . "
خرجت في شمس ما بعد الظهيرة مع أوين جريفيث . وما أن وطأت الشارع حتى صحت بأعلى صوتي : " ما هذا المكان الذي جئت إليه من أجل الاسترخاء والاستمتاع بدفء الشمس والاستشفاء ؟ إنه مكان مليء بالسموم الفتاكة , على الرغم من أنه يبدو ظاهرياً مكاناً آمناً وجميلاً كجنة على الأرض . "
قال جريفيث بطريقة جافة : " حتى أفضل الأماكن بها شياطين . "
" أخلصت إلى شيء يا جريفيث ؟ هل خرجت منهم بأي فكرة عن الموضوع . "
" لا أدري , فالشرطة لديها أساليبها الخاصة . حيث يبدون صرحاء معك , ولكنهم لا يخبرونك بشيء . "
" نعم , إن ناش شرطي لطيف . "
" كما أنه قدير كذلك . "
قلت بنبرة اتهام : " إن كان هناك معتوه في البلدة , فيجب أن تعرفه . "
هز جريفيث رأسه , وبدا محبطاً , ولكنه كان أكثر من ذلك ـ لقد كان قلقاً . فتساءلت إن كان لديه فكرة من نوع ما .
أخذنا نسير عبر الشارع الرئيسي , ثم توقفت عند باب وكلاء العقارات .
" أعتقد أن الدفعة الثانية من الإيجار قد حان وقتها . لقد فكرت في دفعها , ثم الرحيل مباشرة أنا وجوانا . "
قال أوين : " لا تفعل . "
" لم لا ؟ "
لم يجب لكنه قال ببطء بعد دقيقة أو دقيقتين : " على كل ـــ أعتقد أنك محق . فلم تعد لايمستوك مكاناً صحياً . بل ربما كانت ضارة عليك أنت وأختك . "
قلت : " لا شيء يضر جوانا , فهي صلبة , ولكنني أنا الضعيف . فهذه الأحداث تؤثر على حالتي بشدة . "
قال أوين : " تؤثر على حالتك ؟ "
دفعت باب الوكلاء ففتحته نصف فتحة .
قلت : " ولكنني لن أذهب . فالفضول أقوى عندي من الألم . إنني أريد معرفة الحل . "
دلفت إلى الداخل .
نهضت امرأة كانت تكتب على الآلة الكاتبة , وتقدمت نحوي . كان شعرها متجعداً وابتسامتها متكلفة , ولكنني وجدتها أكثر ذكاء من تلك الفتاة ذات النظارات والتي كانت تتمايل في المكتب الخارجي .
بعد دقيقة خطر ببالي شيء مألوف فقلت : " إنها الآنسة جينش , التي أصبحت فيما بعد كاتبة لدى سيمنجتون . " ثم علقت على هذه الحقيقة قائلاً : " لقد كنت تعملين بمكتب " جالبرث سيمنجتون . " أليس كذلك . "
" بلى , بلى , حقاً . ولكنني كنت أعتقد أنه من الأفضل أن أترك ذلك المكان . فهذه وظيفة جيدة ,وإن كان مرتبها ليس كبيراً.ولكن هناك أشياء أهم من المال , أليس كذلك؟ "
قلت : " بلا شك . "
تنهدت الآنسة : " تلك الرسائل الرهيبة , لقد تلقيت واحدة منها , تتحدث عني وأنا وسيمنجتون ـ أوه , لقد كانت فظيعة , وكل ما بها كان مرعباً . لقد عرفت واجبي وأخذتها إلى الشرطة , على الرغم من أنها لم تكن لطيفة أبداً , أليس كذلك ؟ "
" بلى , بلى , إنها رسائل وقحة . "
" ولكنهم شكروني وقالوا إنني فعلت الصواب . ولكنني شعرت بعد ذلك بأنه من المؤكد أن الناس في البلدة كانوا يتحدثون عني ــ ولابد أنهم كانوا يفعلون , وإلا من أين حصل كاتب الرسالة على الفكرة ؟ يجب علي تجنب الشائعات , على الرغم من أنه لم هناك أي شيء بيني وبين السيد سيمنجتون . "
شعرت بالحرج الشديد .
" بلى , بلى , بالطبع لم يكن بينك وبينه شيئ . "
" ولكن عقول الناس مليئة بالشر , نعم إنها عقول شريرة . "
على الرغم من المحاولات المضنية , إلا أن عيني التقت بعينيها واكتشفت شيئاً فظيعاً .
فقد كانت الآنسة جينش مستمتعة بما حدث .
ها قد وجدت اليوم شخصاً يتفاعل بسعادة مع الرسائل المجهولة . لقد كان مفتش الشرطة جريفز حماساً مهيناً . أما استمتاع الآنسة جينش فقد تراءى لي موحياً بشيء وكريهاً في الوقت ذاته .
ولمعت فكرة في ذهني المشوش .
هل الآنسة جينش هي من يكتب الرسائل ؟

يتبع ...

بهــــاء الزعيم
01-15-2011, 04:00 PM
ننتظر .........................

القيصر
01-15-2011, 07:27 PM
تكرم عينيك ابن الاخ بهاء .......

القيصر
01-16-2011, 12:21 PM
http://www.albdoo.com/vb/albdoo-vb-design/post/insaed_04.gifالفصل السابع

1
عدت إلى البيت فوجدت السيدة دين كالثروب جالسة تتحدث مع جوانا . بدت لي كئيبة ومريضة . قالت : " لقد كانت هذه صدمة مروعة لي يا سيد بيرتون , مسكينة , مسكينة . "
قلت : " نعم , إنه لشيء مروع أن تفكري في يقوده أحدهم إلى الإنتحار . "
" أوه , أتقصد السيدة سيمنجتون ؟ "
" ألا ترين أنت ذلك ؟ "
هزت السيد كالثروب رأسها قائلة : " بالطبع إن المرء ليأسف عليها , ولكن ذلك كان سيحدث على أية حال , أليس كذلك ؟ "
قالت جوانا بجفاء : " سيحدث ؟ "
التفتت دين كالثروب إلى جوانا .
" أوه , أعتقد ذلك يا عزيزتي . إذا كان اانتحار وسيلة لهروبك من المشاكل فلا يهم كثيراً نوعية المشكلة التي أدت إلى ذلك . فلو أنها واجهت صدمة كبيرة , لارتكبت نفس الفعلة . إذن فالمهم أنها كانت من هذه النوعية من النساء اللاتي يبغضهن الجميع , فقد كانت أنانية وغبية ومتشبثة بالحياة . يخيل لمن يراها أنها ليست من النوع الذي يحزن الإنسان من أجله ـ ولكنني بدأت أدرك كم كنت لا أعرف الكثير عن الآخرين . "
قلت معلقاً : " ولكنني ما زلت أشعر بالفضول لمعرغة من تقصدين بقولك (( مسكينة )) . "
أخذت تحدق إلي ثم قالت : " إنها المرأة التي تكتب الرسائل بالطبع . "
قلت بجفاء : " لا أعتقد أن مثل هذه المرأة تستحق أي تعاطف . "
مالت السيدة دين كالثروب للأمام . ووضعت يدها على كبتها قائلة : " لكن ألا تفهم ـ ألا تشعر ؟ استخدم خيالك . فكر في مدى الإحباط والتعاسة التي يعاني منها قطعاً كل من يكتب هذه الأشياء . كم هي وحيدة ومنعزلة عن الآخرين ! تتجرع السموم واحداً تلو الآخر ولا تجد متنفساً لها إلا بهذه الطريقة . لذا فإنني أشعر بتأنيب الضمير , لأن في هذه البلدة من يعيش في كل هذه التعاسة , ولا أعرف عنه شيئاً كان لابد أن أعرفه . يمكنك تغيير مجرى الأحداث , لا أفعل ذلك أبداً . ولكن الشعور بالتعاسة أشبه بذراع متعفنة , انتفخت وأسود لونها . ولو أحدثت فيها ثقباً وتركت السم يتدفق لتخلص من كل سمومها دون أن يصيبها بأذى . نعم , إنها مسكينة , مسكينة . "
نهضت وهمت بالمغادرة .
لم أكن متفقاً معها في الرأي . فلم أستطع أن أكن أي نوع من التعاطف مع كاتب رسائلنا المجهولة أياً كان ما به , ولكنني سألت بفضول : " سيدة كالثرب , ألديك أية فكرة عن هوية كاتبة الرسائل ؟ "
نظرت إلي بعينيها الصغيرتين المرتبكتين قائلة : " حسناً , أستطيع أن أخمن . لكنني قد أكون مخطئة , أليس كذلك ؟ "
وفيما كانت عند الباب مستعدة للخروج , استدارت لتسأل : " أخبرني , لماذا لم تتزوج إلى الآن يا سيد بيرتون ؟ "
لو أن شخصاً آخر هو من طرح هذا السؤال لقلت أنه وقح . ولكنك تشعر بأن الفكرة قد طرأت فجأة على ذهنها وأنا أرادت حقاً أن تعرف .
قلت مستجمعاً قواي : " هل يمكن القول أنني لم أقابل المرأة المناسبة ؟ "
قالت السيدة كالثروب : " يمكننا قول ذلك , ولكنها ليست بالإجابة السديدة , لأنه من الواضح أن الكثير من الرجال تزوجوا من نساء غير مناسبات ؟ "
في هذه المرة غادرت بالفعل .
قالت جوانا : " إنني أظن أنها مجنونة حقاً , ولكنني أحبها , إن الناس في القرية هنا يخشونها . "
" وهكذا أنا , إلى حد ما . "
" ألأنك لا تستطيع توقع تصرفاتها ؟ "
" نعم , بالإضافة إلى تخميناتها الغريبة . "
قالت جوانا ببطء : " هل تعتقد أن كاتب هذه الرسائل تعيس حقاً ؟ "
" لا أعرف ما الذي تفكر فيه أو تشعر به هذه الشيطانة اللعينة . فهذا لا يعنيني شيئاً . ولكن ضحاياها هم الذين آسف عليهم . "
بدا لي غريباً الآن أن تحليلنا لعقلية صاحب القلم المسموم أهمل أوضح الجوانب . فقد تصورت جريفيث أنه ربما تكون مبتهجة , بيسنما تخيلتها أنا نادمة ـ مذعورة مما جنت يداها . أما السيدة كالثروب فترى أنها تشعر بمعاناة شديدة .
غير أن رد الفعل الحتمي والواضح الذي نفكر فيه ـ أو بالأحرى لم أفكر أنا فيه ـ هو الخوف .
فبعد موت السيدة سيمنجتون , انتقلت الرسائل من فئة إلى أخرى . لا أعرف الموقف القانوني بالضبط ـ وإن كنت أعتقد أن سيمنجتون يعرف , ولكن من الواضح أنه مع موت شخص بفعل أحد هذه الرسائل , فقد أصبح موقف كاتبة الرسائل أكثر خطورة . فما لا شك فيه أنه إذا ما تم اكتشاف هوية كاتبة الرسائل المجهولة فلن يؤخذ الأمر على أنه مجرد هزل . وقد نشطت الشرطة وتم استدعاء خبير من سكوتلانديارد . وعلى هذا أصبح من الضروري على كاتبة الرسائل المجهولة أن تظل مجهولة .
ومع التسليم بأن الخوف هو الرد الأساسي , فإن ثمة أشياء قد تترتب عليه . ومع أنني أجهل ماهية هذه الأشياء , إلا أنني واثق من أنها ستحدث .
2
نزلت أنا وجوانا لتناول الإفطار في وقت متأخر من صباح اليوم التالي , وذلك التأخير لا يتناسب مع عادات سكان لايمستوك . فقد كانت الساعة التاسعة صباحاً , وحينما كنا في لندن كانت جوانا في تلك الساعة تفتح عينيها بالكاد , بينما أكون أنا لا أزال غارقاً في النوم . ومع ذلك فحينما قالت بارتريدج : " موعد الإفطار في الساعة الثامنة والنصف , أم التاسعة ؟ " لم أقو أنا ولا جوانا على اقتراح تأخيره ساعة أخرى .
وقد شعرت بالضيق حينما رأيت إيمي تتحدث مع مجان عند عتبة الباب .
وكعادتها أطلقت للسانها العنان عند رؤيتنا .
" مرحباً أيها الكسالى ! لقد استيقظت منذ ساعات . "
لقد كان هذا بالطبع شأنها وحدها . فعلى الطبيب أن يتناول إفطاره مبكراً , وعلى الأخت الوفية أن تصب له الشاي , أو القهوة . ولكن لا عذر لها في المجيء وإزعاج الجيران النائمين , فالتاسعة والنصف ليست بالموعد المناسب للزيارات الصباحية .
عادت ميجان إلى غرفة الطعام لإكمال إفطارها الذي ـ حسبما أعتقد ـ قطعته عليها إيمي .
قالت إيمي جريفيث : " من المناسب ألا أدخل . " ـ على الرغم من أنني لا أدري ما الذي يجعل إجبار الناس على المجيء والتحدث معهم على عتبة الباب أكثر ميزة من التحدث معهم داخل البيت . واصلت حديثها : " لقد أردت فقط أن أطلب من الآنسة بيرتون إذا كان لديها أية خضروات فائضة أن ترسلها إلى جمعية (( رد ستول )) على الطريق الرئيسي . إن كان الأمر كذلك , فسأبلغ أوين ليأخذها بسيارته . "
قلت : " لقد استيقظتِ مبكراً , وتتجولين مبكراً . "
قالت أيمي : " البركة في البكور كما يقولون . كما أن فرصتي أكبر في إيجاد الاس في هذا اليوم . سوف أذهب إلى السيد باي , ثم إلى برينتون عصر اليوم . "
قلت : " إن نشاطك يشعرني بأنني متعب جداً . " وفي تلك اللحظة دق جرس الهاتف فعدت للردهة للرد عليه , تاركاً جوانا تتمتم بشك على البازلاء والفاصوليا الفرنسية مظهرة جهلها بخضروات الحديقة .
قلت في الهاتف : " مرحباً . "
جاءني صوت مرتبك .
على الطرف الآخر من الخط كان هناك من يلتقط أنفاسه بارتباك ثم سمعت صوتاً أنثوياً يبدو عليه التشكك : " أوه ! "
قلت مرة أخرى مشجعاً : " مرحباً . "
قال الصوت مرة أخرى : " أوه ! " ثم تساءلت بارتباك : " هل هذا ـ أقصد ـ هل هذا منزل ليتل فيرز ؟ "
" نعم , هو ليتل فيرز . "
" أوه . " بدا لي أن هذه الكلمة لابد أن تأتي في افتتاحية كل جملة . تساءل الصوت بحذر : " أيمكنني محادثة الآنسة بارتريدج لدقيقة واحدة فقط ؟ "
قلت : " بكل تأكيد , أقول لها من ؟ "
" أوه , قل لها آجنس وودل . "
" آجنس وودل ؟ "
" نعم . "
مقاوماً إغراء أن أقول : " دونالد دك يتحدث معك . " وضعت سماعة الهاتف وصحت منادياً على بارتريدج في الطابق الثاني حيث كنت أسمع تحركاتها في الطابق الثاني .
" بارتريدج ! بارتريدج ! "
ظهرت بارتريدج أعلى السلم وبيدها ممسحة طويلة وفي عينيها نظرة تقول : " ما الأمر الآن ؟ " ؛ تلك النظرة التي تطل من خلف أسلوبها المهذب .
"نعم , سيدي . "
" آجنس وودل تريد الحديث معك على الهاتف . "
" معذرة يا سيدي . "
رفعت صوتي قائلاً : " آجنس وودل . "
" آجنس وودل ـ ماذا تريد الآن ؟ "
متخلية عن هدوئها , ألقت بارتريدج الممسحة وهرولت على السلم , حتى أن رداءها كان يُسمع له صوت لشدة اهتياجها .
ولكي لا أتطفل عليها عدت إلى غرفة الطعام , حيث وجدت ميجان تتناول إفطارها بنهم . وعلى العكس من إيمي جريفيث فلم تكن ميجان تبدي " وجهاً صبوحاً مشرقاً" , حتى أنها ردت علي تحية الصباح بتجهم , ثم تناولت طعامها في صمت .
فتحت جريدة الصباح وبعد دقيقتين أو ثلاثة دخلت جوانا وهي تبدو مشتتةً بعض الشيء .
قالت : " ووه ! لقد تعبت . أعتقد أنني كشفت عن جهلي التام بزراعة الخضراوات . ألا توجد فاصوليا في هذا الوقت من العام ؟ "
قالت ميجان : " في أغسطس . "
قالت جوانا : " حسناً , إن المرء يتطسع في لندن أكلها في أي وقت . "
قلت : " إنها معلبة , يا جميلتي الحمقاء , وجاءت لنا مجمدة على سفن من أقصى البلاد . "
سألت جوانا : " مثل العاج والأبنوس والطواويس ؟ "
ثم قالت متفكرة : " لكم أحب أن يكون لدي طواويس . "
قالت ميجان : " أما أن فأحب أن يكون لدي قرد . "
قالت جوانا وهي تقشر برتقالة : " إنني أتساءل كيف يكون شعوري لو كنت مثل إيمي جريفيث المفعمة بالصحة والحيوية والاستمتاع بالحياة . أتعتقدون أنها شعرت من قبل بالتعب , أو الاكتئاب ـ أو الحزن ؟ "
قلت إنني متأكدة من أن إيمي جريفيث لم تحزن يوماً , ولحقت بميجان عند الشرفة .
بينما أنا واقف أدخن غليوني سمعت بارتريدج تدخل حجرة الطعام قادمة من الردهة وسمعتها تقول بتجهم : " أمكن أن أتحدث معك لدقيقة يا سيدتي ؟ "
تمنيت ألا تبدي بارتريدج ملحوظة بأن إيميلي بارتون ستتضايق منا إذا فعلنا كذا وكذا .
واصلت بارتريدج حديثها : " يجب أن أعتذر يا سيدتي عن اتصال أحدهم بي هنا . أقصد أن الفتاة الصغيرة كان ينبغي أن تنتهج سلوكاً أفضل , فأنا لم أعتد على استخدام الهاتف ولم أسمح لإحدى صديقاتي بالاتصال بي هنا . وأنا آسفة جداً أن تصادف وتلقى سيدتي المكالمة . " قالت جوانا مهدئة إياها : " لماذا ؟ لا بأس بذلك إطلاقاً , لماذا ينبغي على صديقاتك ألا يتصلون بك إذا أرادوا محادثتك ؟ "
شعرت بأن وجه بارتريدج ـ وإن كنت لا أراه ـ قد أصبح أكثر صرامة وهي تقول : " إن مثل تلك الفعلة لم تحدث إطلاقاً في هذا البيت . ولم تكن الآنسة إيميلي بارتون لتسمح بذلك أبداً . وكما قلت فإنني آسفة على حدوثه , ولكن آجنس وودل التي فعلت هذه الفعلة كانت قلقة وهي صغيرة جداً أيضاً ولا تعرف السلوكيات اللائقة في بيوت السادة . "
قلت بيني وبين نفسي سعيداً : " هذه ضربة يا جوانا . "
واصلت بارتريدج : " إن المتصلة تدعى آجنس , يا سيدتي , وقد اعتادت على العمل هنا تحت إشرافي . كانت تبلغ 16 عاماً عندئذٍ , وقد جاءت إلى هنا من الملجأ مباشرة . ولأنه لم يكن لديها بيت , أو أم , أو أي من الأقارب يقدم لها النصيحة , فقد اعتادت اللجوء إلي لأقدم إليها النصائح . "
قالت جوانا : " ثم ماذا ؟ " قد كان واضح أن هناك المزيد من الكلام .
" لذا فإنني أتشجع لأسألك ما إذا كان من الممكن أن تسمحي لآجنس بأن تأتي إلى هنا وتتناول الشاي معي بعد الظهر في المطبخ . فاليوم هو عطلتنا , وكما ترين فهناك شيء يقلقها تريد استشارتي فيه , ولم أكن لأجرؤ على طلب شيء كهذا في الأحوال العادية ."
قالت جوانا مرتبكة : " ولكن لماذا ينبغي ألا يأتي أي أحد لتناول الشاي معك ؟ "
انتصبت بارتريدج عندئذٍ , هذا ما قالته جوانا فيما بعد , وبدت متحفزة وهي ترد قائلة : " لم نعتد على ذلك في هذا البيت يا سيدتي , فلم تسمح السيدة بارتون أبداً بقدوم زوار إلى المطبخ , فيما عدا يوم إجازتنا , وفي ذلك الوقت كانيُسمح لنا بقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء بدلاً من الخروج , ولكن بخلاف ذلك , في الأيام العادية , لم يكن يُسمح باستقبال أي زوار . وتحافظ الآنسة إيميلي على هذه القواعد القديمة . "
إن جوانا متلطفة جداً مع الخدم ومعظمهم يحبونها ولكنها لم تستطع إذابة الجليد بينها وبين بارتريدج .
قلتُ عندما ذهبت بارتريدج وانصممت لجوانا بالخارج : " لا فائدة يا عزيزتي , فإن عاطفتك ولينك لم يقابلا بالتقدير . فالقواعد القديمة المتكلفة تتناسب مع بارتريدج ولابد من اتباع السلوكيات اللائقة في بيوت السادة . "
" لم أسمع عن مثل هذه الغطرسة من قبل , كيف لا يسمحون لهم برؤية أصدقائهم ؟ حسناً يا جيري , ولكنهم لا يمكن أن يحبوا معاملتهم كالعبيد . "
قلت : " من الواضح أنهم يجبون هذه المعاملة , على الأقل بارتريدج . "
" لا يمكنني تخيل سبب بغضها لي , بينما معظم الناس يحبونني . "
" ربما تبغضك لأنك ربة منزل غير قديرة , فأنت لا تمررين يديك على الأرفف لتعرفي إن كان بها بقايا أتربة عالقة كما أنك لا تنظرين تحت السجاد , ولا تسألين عما حدث لبقايا كعكة الشيكولاتة , ولا تطلبين أبداً كريم الخبز اللذيذ . "
قالت جوانا : " أوه ! "
ثم استطردت بحزن : " لقد فشلت في كل شيء اليوم , فقد احتقرتني إيميلي جريفيث لجهلي بمملكة الخضروات , وازدرتني بارتريدج لمعاملتي لها بإنسانية . يجب أن أذهب الآن إلى الحديقة وآكل الدود . "
قلت : " إن ميجان هناك بالفعل . "
كانت ميجان تتجول هناك منذ بضع دقائق , وهي الآن تقف بلا هدف وسط العشب مثل طائر متأمل ينتظر طعامه .
غير أنها جاءت إلينا وقالت بعصبية : " أعتقد أنني يجب أن أعود إلى المنزل اليوم . "
قلت مستاءً : " ماذا ؟ "
واصلت كلامها بوجه تكسوه الحمرة , ولكنها كانت تتحدث بعزم وتصميم : " لقد كنتم في غاية الكرم معي وأعتقد أنني كنت مصدر إزعاج لكما , لكنني استمتعت برفقتكما كثيراً , وعلي أن أغادر الآن , لأنه منزلي على أية حال ولا يستطيع المرء أن يبتعد عن منزله للأبد , لذا أعتقد أنني سأغادر هذا الصباح . "
حاولت أنا وجوانا إثناءها عن رأيها , ولكنها كانت مصرة , وأخيراً أخرجت جوانا السيارة وصعدت ميجان للطابق العلوي,وهطت بعد بضع دقائق وهي تحمل متعلقاتها .
كانت بارتريدج الشخص الوحيد الذي بدا سعيداً , فقد كانت ترسم ابتسامة على وجهها المتجهم , حيث إنها لم تحب ميجان أبداً .
كنت أقف في وسط العشب عندما عادت جوانا .
سألتني إذا كنت أعتقد أنني ساعة شمسية .
" لماذا ؟ "
" لأنك تقف مثل تمثال الحديقة , غير أننا لا نستطيع أن نضع عليك المؤشر الذي يحدد الساعات الشمسية . لقد كنت متعكر المزاج . "
" إنني في حالة مزاجية سيئة . فقد استيقظنا على صوت إيمي جريفيث . " تمتمت جوانا : " يا إلهي ! أكان علي أن أتحدث عن تلك الخضروات ! " . وأضفت : " ثم غادرتنا ميجان , وقد كنت أنوي التريض بصحبتها حتى ليج بوتر . "
قالت جوانا : أعتقد أنك كنت ستأخذ معك طوقاً وحبلاً . "
" لماذا ؟ "
كررت جوانا جملتها بصووت مرتفع بينما استدارت نحو ركن المنزل متجهة إلى حديقة المطبخ : " لقد قلت : ( أعتقد أنك ستأخذ معك حبلاً وطوقاً ؟ ) لقد فقد السيد كلبه , وهذا ما يضايقك . "
3
يتبع............

القيصر
01-16-2011, 12:27 PM
يضايقك . "
3
يجب أن أعترف بأنني تضايقت من الطريقة التي غادرتنا بها ميجان . ربما ملت منا فجأة . فعلى كل حال , لم تكن حياتنا مسلية لفتاة في مثل سنها . أما في منزلها فهناك طفلان وإلسي هولاند .
سمعت وقع خطوات جوانا فتحركت بسرعة حتى لا تمطرني بمزيد من تعليقاتها الوقحة عن الساعة الشمسية .
جاء أوين جريفيث بسيارته قبل الغداء بوقت قصير , وقد كان البستاني في انتظاره بخضروات الحديقة .
وبينما كان آدمز العجوز يضع الخضرات في السيارة , دعوت أوين للدخول معي إلى البيت لتناول بعض العصير . ولم يكن مقرراً أن يبقى معنا إلى الغداء .
وعندما دخلت بالشراب وجدت جوانا قد نصبت شباكها .
لم يكن هناك أي مؤشرات للعداء حتى الآن . فقد كانت متكومة في ركن الأريكة وهي تطرح على أوين أسئلة عن عمله ؛ ما إذا كان يحب عمله كممارس عام , وما إذا كان يحب التخصص في ناحية معينة . وقد كانت ترى مهنة الطب واحدة من أروع الأشياء في العالم .
يمكنك أن تقول عنها ما تشاء , ولكن جوانا مستمعة رائعة . وبعد استماعها للكثير ممن يدّعون العبقرية والذين يخبرونها بمدى التجاهل الذي يلقونه وعدم تقدير عبقريتهم , فإن استماعها لأوين جريفيث أمر في غاية اليسر . ولم يمض الكثير من الوقت حتى كان أوين يخبرها ببعض التفاعلات والأمراض الغامضة مستخدماً تلك المصطلحات الطبية التي لا يمكن لأحد أن يفهمها إلا إذا كان طبيباً .
كانت جوانا تتظاهر بالذكاء والاهتمام البالغ .
شعرت للحظة بتأنيب الضمير . فلم يكن يجدر بجوانا أن تتلاعب بأوين جريفيث ذلك الرجل الطيب .
إن النساء ماكرات حقاً ...
ثم أخذت أدقق النظر إلى الجزءالجانبي من وجه أوين جريفيث , ورأيت لحيته الطويلة وشفتيه المتجهمتين , فشككت في قدرة جوانا على نَيْل مرادها . وعلى أية حال ينبغي على الرجل ألا يجعل نفسه دمية في يد امرأة تتلاعب به كيفما تشاء . وإن فعل فليحتمل العواقب .
وعندئذٍ قالت جوانا : " غير رأيك يا سيد جريفيث وابق معنا إلى الغداء . " , فاحمر وجه جريفيث , وقال إنه كان يتمنى ذلك إلا أن أخته تنتظر عودتها .
قالت جوانا بسرعة : " سوف نتصل بها ونشرح لها الأمر . " , ثم خرجت إلى الردهة ونفذت ما قالت .
أعتقد أن جريفيث كان مضطرباً بعض الشيء , وخطر ببالي أن كان يخشى أخته .
عادت جوانا مبتسمة وقالت أن الأمور على ما يرام .
ومكث معنا أوين جريفيث حتى موعد الغداء , وبدا لي أنه مستمتع . تحدثنا عن الكتب وعن السياسة وألاعيبها , كما تحدثنا عن الموسيقى والرسم وفن العمارة الحديثة .
لم نتحدث مطلقاً عن لايمستوك أو الرسائل المجهولة , أو انتحار السيدة سيمنجتون .
وأحسب أن أوين جريفيث كان سعيداً بحديثنا ؛ فقد أشرق وجهه الأسود الحزين , وكشف عن عقلية المشوقة .
عندما غادر قلت لجوانا : " إنه رجل طيب ولا يستحق منك التلاعب . "
قالت جوانا : " هذا ما تقوله أنت ! فأنتم معشر الرجال تشدون أزر بعضكم البعض ! "
" لماذا تحاولين الإيقاع به يا جوانا ؟ أهو كبرياؤك المجروح ؟ "
قالت أختي : " ربما . "
4
كان من المقرر اليوم أن نذهب عصر اليوم لتناول الشاي مع إيميلي بارتون في غرفتها التي تقيم بها في القرية . ذهبنا سيراً على الأقدام , وذلك لأنني شعرت بالقوة الكافية لصعود التل في طريق عودتنا .
ولابد أننا أخطأنا في تقدير الوقت اللازم لقطع الطريق فوصلنا مبكراً , وقد فتحت لنا الباب امرأة طويلة قاسية الملامح وأخبرتنا أن الآنسة إيميلي بارتون لم تعد بعد .
" ولكني أعرف أنها تنتظركما , لذا تفضلا بالدخول وانتظراها من فضلكما . "
كان من الواضح أن هذه المرأة هي المخلصة فلورنسا .
تبعناها صاعدين الدرج حتى فتحت لنا باباً وأدخلتنا في غرفة جلوس مريحة جداً , وإن بدت مكتظة بالأثاث إلى حد ما . وشككت أن بعض هذا الأثاث أتى من ليتل فيرز .
كان من الواضح أن المرأة فخورة بحجرتها . فقالت : " إنها غرفة جميلة , أليس كذلك ؟ "
قالت جوانا بحماس : " جميلة جداً . "
" أعمل على راحتها قدر الإمكان , وإن كنت لا أست\يع خدمتها كما ينبغي . فقد كان ينبغي أن تكون في منزلها , فهذا ما يليق بها , لا أن تعيش في حجرتين . "
كانت فلورنسا تنظر إلي أنا وجوانا نظرة تنم عن التوبيخ . فشعرت أن هذا ليس يوم حظنا , فقد تعرضت جوانا للتقريع على يد كل من إيمي جريفيث وبارتريدج , وها نحن نتعرض للتقريع من فلورنسا سليطة اللسان .
أضافت قائلة : " لقد عملت هناك مديرة للمنزل لمدة خمسة عشر عاماً . "
قالت جوانا وهي تشعر بالقهر : " حسناً , لقد ارتضت الآنسة بارتون ترك المنزل , وتركته تحت تصرف وكلاء العقار . "
قالت فلورنسا : " لقد أجبِرَت على ذلك , وهي تعيش حياة مقتصدة وحريصة , ومع ذلك لم تتركها الحكومة وشأنها ! فكان عليها أن تدفع الكثير من الضرائب . "
هززت أسي بحزن .
قالت فلورنسا : " لقد كان هناك الكثير من الأموال في أيام السيدة العجوز , ثم مات الجميع واحدة بعد الأخرى , آه يا عزيزاتي المساكين . وقد كانت الآنسة إيميلي تمرضهن واحدة بعد الأخرى . وقد أفنت زهرة شبابها وهي صابرة دون أن تتذمر أو تشكو . ولكن ذلك أثر عليها , ولم يقتصر الأمر على هذا وحسب , بل كان ينقصها القلاقل والأزمات المالية أيضاً لتضاعف أحزانها ! فلم تعد الأسهم تدر عليها عوائد كالعادة , ولكن لماذا لم تعد تدر عوائد ؟ أريد أن أعرف . كان عليهم أن يخجلوا من أنفسهم وهم يخدعون سيدة مثلها لم يعد ذهنها قادراً على التعامل مع الأرقام ولا تستطيع مسايرة حيلهم . "
قلت : " ولكن الجميع تعرضوا لهذه المشاكل . " , ولكت فلورنسا لم تلن أو تهدأ .
" لا بأس بذلك لمن لديهم القدرة على الاعتناء بأنفسهم , أما بالنسبة لها هي فالأمرمختلف . إنها تحتاج إلى رعاية , وما دامت معي ففلن أسمح لأحد بأن يقتلها أو يضايقها بأي كل من الأشكال . إنني مستعدة لفعل أي شيء من أجل الآنسة إيميلي . "
وحدقت إلينا لبضع لحظات حتى تتأكد من أننا فهمنا المقصود من هذه العبارة , ثم تركتنا فلورنسا القاسية وأغلقت الباب وراءها بحرص .
تساءلت جوانا : " ألا تشعر بأنك مصاص دماء يا جيري ؟ لأن هذا ما أشعر به . ما هذا الذي يحدث لنا ؟ "
قلت : " يبدو أننا لا نحظى بالقبول , فقد ملّت منا ميجان , ووبختك بارتريدج , وهاهي المخلصة فلورنسا توبخنا نحن الاثنان . "
تمتمت جوانا : " إنني أتساءل , لماذا غادرتنا ميجان ؟ "
" لابد أنها شعرت بالملل في صحبتنا . "
" لا أعتقد ذلك على الإطلاق . هل تعتقد أن إيمي جريفيث أخبرتها بشيء كان السبب في رحيلها ؟"
" تقصدين هذا الصباح , عندما كانتا تتحدثان عند عتبة الباب ؟ "
" نعم , لم تبقيا معاً لفترة طويلة , بالطبع , ولكن ـــ "
قاطعتها مكملاً جملتها : " ولكن وطأة تلك المرأة قوية ربما ـــ "
فُتح الباب ودخلت الآنسة إيميلي بارتون . كان وجهها محمراً بعض الشيء , وبدت مرهقة ومتقطعة الأنفاس لحد ما . كانت عيناها الزرقاوان تلمعان .
حيتنا بطريقة توحي بشرودها الذهني .
" أوه , يا أعزائي , آسفة لتأخيري . فقد كنت أقوم بجولة تسوقية في البلدة , ولم يرق لي الكعك في مخبز البلو روز , حيث بدا أنه غير طازج , لذا ذهبت إلى مخبز السيدة ليجون . إنني أحب دئماً شراء الكعك في نهاية جولتي التسوقية حتى أحصل عليه طازجاً بعد خروجه من الفرن مباشرة , بدلاً من شراء كعك اليوم السابق . ولكنني مستاءة من ترككما تنتظران ـ إن هذا الأمر لا يغتفر حقاً ـ "
قاطعتها جوانا قائلة : " إنه خطأنا نحن يا سيدة بارتون . فقد جئنا سيراً على الأقدام وأصبح جيري يقفز بسرعة الآن , لذا وصلنا قبل موعدنا . "
" كلا , لا تقولي هذا يا عزيزتي , فالمرء لا يمل أبداً من الصحبة الجميلة . "
ربتت السيدة العجوز على كتف جوانا بحنان .
تهللت أسارير جوانا ؛ فأخيراً بدا أنها أحرزت نجاحاً . ثم شملتني إيميلي بارتون بابتسامتها , ولكن بمسحة من التحفظ , تماماً كما يقترب المرء من نمر ضمن للحظة أنه لن يؤذيه .
" كم هو لطيف منك يا سيد بيرتون أن تحضر مناسبة نسائية مثل تناول الشاي . "
أعتقد أن إيميلي بارتون لديها صورة ذهنية عن الرجال تظهرهم كأناس يتناولون الكحوليات ويدخنون السجائر , وفي أوقات الاستراحة يخرجون لإغواء فتيات القرية وتكوين علاقات غرامية مع النساء المتزوجات .
عندما قلت ذلك لجوانا لاحقاً , ردت بأن إيميلي بارتون ربما كانت تفكر باللاوعي أن يقابلها رجل من هذه النوعية , ولكن ـ من أسفها ـ لم يحدث ذلك أبداً .
في هذه الأثناء كانت الآنسة إيميلي بارتون تضع أمامي أنا وجوانا مناضد صغيرة , وتضع عليها بعضاً من منافض السجائر بحذر , وبعد دقيقة فُتح الباب ودلفت فلورنسا حاملة صينية شاي عليها أكواب فاخرة خمنت أن إيميلي بارتون قد أحضرتها معها . كان الشاي صينياً ولذيذاً وكانت هناك شطائر رقيقة من الخبز والزبدة وبعض الكعك .
كانت فلورنسا متهللة الأسارير الآن , ونظرت إلى إيميلي كما تنظر الأم إلى طفلها الحبيب وهو يستمتع بدُمى حفلة الشاي .
أكلت أنا وجوانا أكثر مما كنا نريد , حيث كانت مضيفتنا تظغط علينا بإلحاح لتناول المزيد . كان من الواضح أن السيدة الصغيرة مستمتعة بحفلة الشاي التي أعدتها , وأدركت أنني وجوانا نُعتبر بالنسبة لإيميلي بارتون مغامرة كبرى , شخصين من عالم لندن الغامض والمعقد .
وبالطبع تطرق حديثنا إلى الأوضاع المحلية . تحدثت الآنسة بيرتون عن الطبيب جريفيث بحماس وعن شخصيته اللطيفة وعن مهاراتهكبيب . وكذلك السيد سيمنجتون , إنه محام بارع جداً وساعد السيدة بيرتون على استرداد بعض المال من ضرائب الدخل التي لولاه ما كانت لتعرف عنها شيئاً . كما أنه لطيف جداً مع أطفاله ويكرس نفسه لهم ولزوجته ـ قاطعت نفسها قائلة : " إنها مسكينة السيدة سيمنجتون , إنه لأم فظيع أن يُترك هؤلاء الأطفال أيتام الأم . ربما لم تكن أماً قوية قط ـ كما أن صحتها كانت معتلة مؤخراً . لابد أنها كانت نوبة عصبية . لقد قرأت عن مثل هذه الأشياء في الجرائد , حيث لا يشعر المرء بما يصدر منه من أفعال في مثل هذه الظروف . ولابد أنها لم تكن تعرف ما تفعل وإلا لتذكرت السيد سيمنجتون وأطفالها . "
قالت جوانا : " لابد أن تلك الرسالة المجهولة قد صدمتها صدمة عنيفة . "
احمر وجه السيدة بارتون , وقالت بنبرة من التوبيخ في صوتها : " أعتقد أنه لا يجدر بنا الخوض في هذا الموضوع غير اللطيف , أليس كذلك ؟ أعرف أن هناك رسائل , ولكننا لن نتحدث عنها , فهي أشياء مثيرة للاشمئزاز . لذا أعتقد أنه من الأفضل تجاهلها . "
حسناً , ربما كانت السيدة إيميلي بارتون قادرة على تجاهلها , ولكن بالنسبة لمعظم الناس لم يكن هذا بالأمر السهل . ومع ذلك فقد غيرت مجرى الحديث وتحدثنا عن إيمي جريفيث .
قالت إيميلي بارتون : " يا لها من فتاة رائعة , رائعة جداً . إن حيويتها وقدرتها التنظيمية كبيرة حقاً . كما أنها لطيفة مع الفتيات أيضاً , وهي عملية للغاية وعصرية في جميع المجالات . إنها تدير هذا المكان حقاً , بالإضافة إلى تكريسها حياتها لأخيها . إنه لأمر رائع أن ترى هذا الإخلاص بين أخ وأخته . "
سألت جوانا : " ألا يشعر بأنها تتحكم في حياته إلى حد ما ؟ "
حدقت إليها إيميلي بارتون بشيء من الفزع . وقالت لها بنبرة تنم عن التوبيخ : " لقد ضحت بالكثير من أجله . "
رأيت عيني جوانا تشيران بعلامات السخرية . فسارعت بتغيير دفة الحديث إلى السيد باي .
كانت إيميلي بارتون مرتبكة بعض الشيء عندما تحدثنا عن السيد باي .
فكل ما قالته عنه , وكررته بنبرة تشكك , أنه لطيف جداً ـ نعم لطيف جداً , وأنه طيب وكريم أيضاً . وأنه أحياناً يأتيه زوار غرباء جداً , ولكن هذا طبيعياً لأنه كان يسافر كثيراً .
اتفقنا معها على أن السفر لا يعمل على توسيع أفق المرء فحسب , بل إنه أيضاً يؤدي إلى تكوين معارف غريبة .
قالت إيميلي بارتون بحزن : " لكم تمنيت الخروج في رحلة بحرية . فأنا أقرأ الكثير عن هذه الرحلات في الصحف وهي تبدو جذابة . "
سألتها جوانا : " لِم لا تخرجين في رحلة كهذه ؟ "
يبدو أن محاولة تحويل هذا الحلم إلى حقيقة قد دق جرس الإنذار عند إيميلي بارتون , فقالت : " أوه , لا , لا , هذا مستحيل . "
" ولكن لماذا ؟ إنها رخيصة جداً . "
" أوه , ليست التكلفة وحسب هي السبب , ولكنني لا أحب السفر وحدي , فهذا يبدو لي وضعاً شاذاً جداً , أليس كذلك ؟ "
قالت جوانا : " كلا . "
نظرت إليها الآنسة إيميلي بتشكك .
" ولا أعرف كيف أتعامل مع أمتعتي ـ والوقوف على أرصفة الموانئ الأجنبية ـ وكل تلك العملات المختلفة ـ "
بدا لي أن عدداً من القبعات لا يحصى قد ظهرت أمام السيدة الصغيرة الخائفة , فأسرعت جوانا بتهدئتها عن طريق سؤالها عن مهرجان الحدائق ومعرض المشغولات اليدوية . وقد قادنا هذا تلقائياً إلى السيدة دين كالثروب .
بدت مسحة خفيفة من التشنج على وجه السيدة إيميلي بارتون .
قالت : " إنها امرأة غريبة حقاً يا عزيزتي , وخاصة تلك الأشياء التي تقولها أحياناً . "
سألتها عن هذه الأشياء .
" أوه , لا أعرف بالضبط , إنها أشياء غير متوقعة تماماً . والطريقة التي تنظر إليك بها , كما لو كنت ليس موجوداً هناك بل شخصاً آخر ـ إنني أعبر عن ذلك بطريقة سيئة ولكن من الصعب توصيل الانطباع الذي أقصده . ثم إنها لن , حسناً , لن تتدخل أبداً . فهناك الكثير من القضايا التي تستطيع زوجة رجل الدين تقديم النصح بشأنها . ويمكنهم تقويم الناس وجعلهم يصلحون حياتهم . ولأن الناس يصغون إليها , فأنا متأكدة من أنهم سيهابونها . ولكنها تصر على الانعزال والابتعاد , ولديها تلك العادة الغريبة بالشعور بالأسف على أناس لا يستحقون أي أسف على الإطلاق . "
تبادلت نظرة سريعة مع جوانا , قائلاً : " هذا مثير حقاً . "
" ومع ذلك فهي امرأة كريمة النسب , فهي سليلة أسرة فارواي من بيلباث , وهي أسرة عريقة ولكن تلك الأسر العريقة تكون غريبة الأطوار أحياناً , ولكنها تكرس حياتها لزوجها , ذلك الرجل الحاد الذكاء ـ والذي أخشى أنه ضيع هذا الذكاء في تلك البلدة . إنه رجل طيب ونقي , ولكني دائماً أجد عباراته اللاتينية مربكة . "
قلت بحماس موجهاً كلامي لجوانا : " اسمعي , اسمعي . "
قالت جوانا : " لقد تلقى جيري تعليمه في مدرسة عامة مرتفعة التكاليف , لذا فإنه لا يفهم اللاتينية . "
وقد جعل هذا إيميلي بارتون تتطرق إلى موضوع جديد . قالت : " إن مديرة المدرسة هنا شابة كريهة جداً . أخشى أنها شيوعية حتى النخاع . " , وقد أخفضت صوتها عند نطق كلمة " شيوعية " . وأثناء صعودنا التل في طريق عودتنا , قالت لي جوانا : " إنها امرأة لطيفة . "
5
على العشاء في تلك الليلة , قالت جوانا لبارتريدج إنها تتمنى أن تكون حفلة الشاي التي أ4قامتها قد نجحت .
احمر وجه بارتريدج وزادت صلابتها .
" شكراً لك يا سيدتي , ولكن آجنس وودل لن تحضر على أية حال . "
" أوه , آسفة . "
قالت بارتريدج : " إن الأمر لم يكن يهمني من الأساس . "
كانت مستاءة إلى الحد الذي جعلها تتنازل وتفضي لنا بضيقها .
" لم أكن أنا التي فكرت في طلبها ! بل هي التي اتصلت وقالت أن هناك شيئاً يقلقها , وطلبت المجيء إلى هنا , على أساس أنه يوم إجازتها . وقلت لها أنني لا أوافق إذا سمحت أنت بذلك , وقد سمحت لي . وبعد ذلك لم أسمع أو أرى منها شيئاً ! ولم تكلف نفسها وتعتذر عن عدم المجيء , وإن كنت أتمنى أن أتلقى منها رسالة اعتذار صباح الغد . إن هؤلاء الفتيات لا يعرفن حدودهن وليست لديهن فكرة عن السلوكيات اللائقة . "
حاولت جوانا تضميد مشاعر بارتريدج الجريحة .
" ربما داهمتها بعض النتاعب الصحية , ألم تتصلي بها لتستكشفي الأمر ؟ "
انتصبت بارتريدج مرة أخرى .
" كلا , لم أفعل يا سيدتي . إن كانت آجنس تحب التصرف بوقاحة فهذا من شأنها , ولكنني سأوبخها عندما نتقابل . "
خرجت بارتريدج من الغرفة وهي لا تزال متصلبة الملامح وضحكنا أنا وجوانا .
قلت : " ربما كانت إحدى حالات " عمود نصائح العمة نانسي ( إن مشاعر خطيبي باردة جداً تجاهي , ما الذي ينبغي علي فعله حيال هذا الأمر ؟ ) ومع فشل العمة نانسي , كان عليها اللجوء إلى بارتريدج لطلب النصيحة , بيْد أنه تم حل المشكلة وأتوقع في هذه اللحظة أن آجنس وخطيبها يتنزهان معاً وهم في غاية السعادة . "
ضحكت جوانا وقالت إنها توقعت الأمر نفسه .
بدأنا نتحدث عن الرسائل المجهولة وتساءلنا عما يمكن أن يكون قد توصل إليه ناش وجريفز الكئيب : " لقد مضى أسبوع بالتمام منذ أن انتحرت السيدة سيمنجتون . ولابد أنهم قد توصلا إلى شيء ما الآن . بصمات الأصابع أو خط اليد أو شيء ما . "
أجبتها وأنا شارد الذهن , ففي عقلي الباطن كان هناك شيء لا يريحني وآخذ في التنامي , وكان يرتبط على نحو ما بعبارة " أسبوع التمام " التي استخدمتها جوانا .
أجرؤ على القول أنه كان يتوجب علي التوصل إلى هذه الحقيقة مسبقاً .فربما كان عقلي متشككاً بالفعل .
على أية حال فإن الخميرة تعمل الآن , والقلق آخذ في التزايد , حتى بلغ مبلغه .
لاحظت جوانا فجأة أنني لم أكن أنصت إليها .
" ما الخطب يا جيري ؟ "
لم أرد عليها لأن ذهني كان مشغولاً بترتيب الأشياء . انتحار السيدة سيمنجتون ... وجودها بمفردها عصر ذلك اليوم ... بمفردها في المنزل , وذلك لأن الخادمات كن في يوم إجازتهن .. منذ أسبوع بالتمام .
" جيري , ماذا ـ "
قاطعتها : " جوانا , إن الخادمات يأخذن عطلات مرة واحدة في الأسبوع , أليس كذلك ؟ "
قالت جوانا : " نعم ويتناوبن أيام الأحد , ما الذي ــ "
" لا عليك بأيام الأحد , هل يخرجن في نفس اليوم طوال الأسبوع ؟ "
" نعم , هذا هو المعتاد . "
كانت جوانا تتحدث إلي بفضول , فلم يلتقط عقلها الخيط الذي التقطته أنا .
وقفت وقمت بدق الجرس , فجاءت بارتريدج .
قلت : " أخبريني عن آجنس وودل هذه , هل تعمل خادمة ؟ "
" نعم يا سيدي , في بيت السيدة سيمنجتون , أو حرى بي الآن أن أقول بيت السيد سيمنجتون . "
أخذت نفساً عميقاً ونظرت إلى الساعة . فوجدتها تشير إل العاشرة والنصف .
" هل تعتقدين أنها عادت إلى المنزل الآن ؟ "
كانت بارتريدج تنظر إلى باستهجان .
" أجل سيدي , إن الخادمات يجب أن يكنَّ هناك قبل العاشرة . إنهن يتبعن التقاليد القديمة . "
قلت : " سوف أجري مكالمة هاتفية . "
خرجت إلى الردهة وتبعتني جوانا وبارتريدج . كانت بارتريدج مغتاظة جداً , بينما كانت جوانا متحيرة , فقالت بينما كنت أطلب الرقم : " ماذا تفعل يا جيري ؟ "
" أود التأكد من الفتاة قد عادت بسلام . "
تنهدت بارتريدج , مجرد تنهيدة لا أكثر . ولكنني لا أبالي إطلاقاً بتنهيدت بارتريدج .
ردت إلسي هولاند على الهاتف .
قلت : " آسف على الاتصال . معك جيري بيرتون . هل ـ أجاءت ـ خادمتكم آجنس إلى البيت ؟ " لم أشعر بالحماقة إلا بعدما قلت ما قلت . لأنه إذا ما كانت الفتاة في البيت ولم يمسها سوء , فكيف سأبرر اتصالي وسؤالي عنها .
كان من الأفضل أن أدع جوانا تطرح هذا السؤال , وإن كان هذا أيضاً يحتاج لمبرر . لقد تنبأت بموجة جديدة من النميمة في لايمستوك تدور حولي أنا وآجنس وودل المجهولة .
بدت إلسي هولاند مندهشة .
" آجنس ! أوه بالتأكيد غنها هنا الآن . "
شعرت بالحماقة و ولكنني واصلت : " هلا تأكدت من وجودها يا آنسة هولاند ؟ "
هناك شيء لابد من قوله عن كياسة المربيات , إنهن معتادات على فعل ما يؤمن به دون أن يسألن عن السبب ! وضعت إلسي السماعة وذهبت طائعة .
بعد دقيقتين سمعت صوتها .
" هل لا تزال على الخط يا سيد بيرتون ؟ "
" نعم . "
" لم تصل آجنس بعد , وقد تأكدت من ذلك . "
عرفت عندئذٍ أن حدسي كان في محله . سمعت ضوضاء على الطرف الآخر من الخط , ثم تحدث إلي السيد سيمنجتون نفسه : " مرحباً سيد بيرتون و ما الخطب ؟ "
" لم ترجع خادمتك آجنس بعد ؟ "
" كلا , لقد تأكدت الآنسة هولاند تواً من ذلك . ما الخطب ؟ لم يقع لها حادث , أليس كذلك ؟ "
" لا , ليس حادثاً . "
" أتعني بأن لديك سبباً للاعتقاد بأن ثمة شيئاً قد حدث للفتاة ؟ "
قلت متجهماً : " لن أندهش إن حدث لها شيء . "
يتبع ...

القيصر
01-19-2011, 09:38 PM
19/1/2011, 11.40مساء"http://www.albdoo.com/vb/albdoo-vb-design/post/insaed_04.gif
الفصل الثامن
1
لم أهنأ بالنوم تلك الليلة . فقد كانت أجزاء اللغز تسبح أمام ذهني . وأعتقد أنني لو فكرت فيها بإمعان , لكن قد توصلت إلى حل اللغز بأكمله عندئذٍ وأنا مستلقي على فراش , وإلا فلماذا تلح هذه الأجزاء على مخيلتي بهذا الشكل ؟
ما مقدار ما نعرفه في أي وقت ؟ أعتقد أننا نعرف أكثر مما ندرك معرفتنا به ! ولكننا لا نستطيع النفاذ إلى تلك المعرفة الخفية . إنها هناك , ولكننا لا نستطيع الوصول إليها .
استلقيت على سريري وأخذت أتقلب متململاً , ولم يطرأ على ذهني سوى أجزاء غامضة من اللغز , الأمر الذي عذبني طوال الليل .
كان هناك نمط منتظم في إرسال هذه الخطابات , فقط لو استطعت لإمساك بهذا الخيط . كان يجب أن أعرف كاتب هذه الرسائل اللعينة : هناك في مكان ما , فقط لو استطعت تتبعه ...
حينما أغمضت عيني لأنام , تراقصت الكلمات أمام ذهني المشوش دونما ترتيب .
" لا دخان بلا نار . " لا دخان بدون نار . دخان .... دخان ؟ الساتر الدخاني .... لا , كان ذلك في الحرب ـ عبارة حربية. حرب ... قصاصة ورق ... مجرد قصاصة ورق . بلجيكا ـ ألمانيا.
رحت في نوم عميق , وحلمت بأنني آخذ السيدة دين كالثروب , للتنزه بعد أن تحولت إلى كلب صيد في عنقه طوق أمسكه بحبل .
2
استيقظت فجأة على رنين هاتف , رنين متصل ملح . جلست في الفراش ونظرت إلى ساعتي . كانت الساعة السابعة والنصف . لم ينادني أحد . كان الهاتف يدق في الطابق الأسفل في الردهة .
قفزت من على الفراش , وارتديت ملابس النوم , وهرعت للأسفل . سبقت بارتريدج التي كانت قادمة عبر الباب الخلفي للمطبخ . رفعت السماعة .
" مرحباً . "
" أوه ـ كا بالصوت نبرة استغاثة ـ أهذا أنت ؟ "
إنه صوت ميجان . بدا صوتها مذعوراً ؟ " أوه , من فضلك تعال ـ تعال . أوه أرجوك تعال . هل ستأتي ؟ "
" سآتي فوراً . هل تسمعيني ؟ فوراً ؟ "
صعدت السلم درجتين درجتين وهرعت إلى جوانا .
" جوانا , إنني ذاهب إلى منزل سيمنجتون . "
رفعت جوانا شعرها الأشقر من على الوسادة وفركت عينيها كطفلة صغيرة .
" لماذا ـ ماذا حدث ؟ :"
" لا أعرف , إنها تلك الطفلة ــ ميجان . لقد بدت مذعورة ! "
" ما الذي حدث في اعتقادك ؟ "
" إنها الفتاة آجنس , إن لم أكن مخطئاً . "
" انتظر , سوف آتي معك لأوصلك بالسيارة . "
" لا داعي لذلك , سأقودها بنفسي . "
" إنك لا تستطيع قيادة السيارة . "
" بل , أستطيع . "
وقد قدتها فعلاً . وقد آلمتني ساقي ولكن ليس كثيراً . اغتسلت وحلقت ذهني وارتديت ملابسي , وأخرجت السيارة وقدتها متوجهاً إلى بيت سيمنجتون حتى وصلت هناك خلال نصف ساعة من تلقي مكالمة ميجان الهاتفية . وهذه فترة لا بأس بها .
لابد أن ميجان كانت ترقب وصولي , فقد خرجت من المنزل بسرعة واحتضنتني . كان وجهها الصغير ممتقعاً ومرتعشاً .
" أوه , ها قد أتيت ـ ها قد أتيت . "
قلت : " تماسكي يا عزيزتي , نعم لقد أتيت , والآن ما الأمر ؟ "
بدأت ترتجف , فوضعت ذراعي حولها .
" لقد ـ لقد وجدتها . "
" وجدت آجني ؟ أين ؟ "
زادت حدة الارتعاش .
" أسفل الدرج , هناك خزانة تحته , بها طعم الصيد وأدوات الجولف وأشياء أخرى كما تعرف . "
أومأت , إنها تلك الخزانات المعتادة .
" كانت هناك , ملقاة و ... وباردة ـ باردة جداً . لقد كانت ـ كانت ميتة . يا له من أمر فضيع ! "
سألتها بفضول : " ما الذي جعلك تنظرين هناك ؟ "
" لا ـ لا أعرف , بعدما اتصلت بنا ليلة الأمس , بدأنا نتساءل عن مكان آجنس . وقد انتظرنا لبعض الوقت , ولكنها لم تأت . وأخيراً ذهبنا إلى لننام . لم أنم جيداً واستيقظت مبكراً ولم يكن هناك سوى روز ( الطاهية , كما تعرف ) . كانت غاضبة جداً لعدم عودة آجنس . وقالت إنها كانت من قبل في أحد البيوت عندما هربت فتاة بمثل هذه الطريقة . ثم تناولت بعض الخبز واللبن والجبن في المطبخ , وفجأة دخلت علي روز وهي تبدو غريبة , وقالت إن ملابس الخروج الخاصة بآجنس لا تزال في حجرتها . لقد كانت أفضل ملابسها التي ترتديها عند الخروج . فبدأت أتساءل ما إذا كانت قد تركت المنزل من الأساس , وبدأت البحث عنها ثم فتحت الخزانة الواقعة تحت السلم . و ــ ووجدتها هناك . "
" هل اتصل أحدكم بالشرطة ؟ "
نعم , إنهم هناك الآن . لقد اتصل زوج أمي على الفور . وعندئذٍ شعرت ـ شعرت بأنني لا أستطيع تحمل الموقف فاتصلت بك . هل لديك مانع ؟ "
قلت : " كلا , لا مانع لدي على الإطلاق . "
نظرت إليها بفضول .
" هل أعطاك أحدهم شاياً أو عصيراً أو قهوة بعدما ـ بعدما وجدتها ؟ "
هزت ميجان رأسها بالنفي .
صببت اللعنات على كل أهل بيت سيمنجتون . ذلك المغرور لم يفكر سوى بالإتصال بالشرطة . ويبدو أنه لا إلسي هولاند ولا الطاهية فكرتا بتأثير ما حدث على تلك الطفلة الصغيرة الحساسة التي اكتشفت أمر الجثة . "
قلت : " تعالي يا عزيزتي , سوف نذهب إلى المطبخ . "
درنا حول البيت ودخلنا إلى المطبخ من الباب الخلفي . كانت روز ـ تلك المرأة البدينة ذات الوجه المنتفخ بجوار المدفأة . حيتنا بسيل دافق من الكلام ويدها على قلبها .
قالت لي أنها قد فزعت وأصيبت بصدمة عنيفة عند اكتشافها هذا الأمر الرهيب ! فقط فكر في الأمر , كان يمكن أن تكون هي , كان يمكن أن يكون أي واحد منهم , مقتولاً على الفراش .
قلت : " صبي قدحاً من الشاي للآنسة ميجان , فهي من تلقت الصدمة كما تعرفين . تذكري أنها من اكتشفت أمر الجثة . "
مجرد ذكر الجثة أصيبت روز بالفزع مرة أخرى , ولكنني رمقتها بنظرة حادة فصبت كوياً من الشاي الثقيل .
قلت لميجان:" اشربي هذا يا فتاتي العزيزة.أعتقد أنك لم تشربي أي عصير , أليس كذلك يا روز؟ "
قالت روز بتشكك إن هناك بعض عصير البرتقال منذ البارحة .
قلت : " هذا يفي بالغرض . " ثم صبت كوباً من العصير لميجان . رأيت في عيني روز استحسان تلك الفكرة .
قلت : " هل أستطيع الاعتماد عليك للاعتناء بالآنسة ميجان ؟ " ردت روز بطريقة مطمئنة : " أوه, نعم سيدي . "
ودلفت إلى الغرفة . ومن خلال معرفتي بنوعية الشخصيات المشابهة لشخصية روز كنت متأكداً من أنها ستجد أنها عليها أن تتناول القليل من الطعام لكي تحافظ على قواها , وهذا أمر جيد بالنسبة لميجان أيضاً . يا لهؤلاء الجاحدين , لماذا لا يعتمون بتلك الطفلة ؟
وتوجهت إلى إلسي هولاند بالردهة وأنا أكاد أنفجر من شدة الغيظ والغضب . لم تبد عليها المفاجأة لرؤيتي . أعتقد أن الإثارة الشديدة الناتجة عن اكتشاف أمر الجثة , جعلت أهل المنزل لا يبالون بمن يأتي ويذهب . كان المفتش , بيرت روندل , يقف عند الباب الأمامي . تنهدت إلسي هولاند قائلة : " أوه , سيد بيرتون و أليس هذا رهيباً ؟ من ذا الذي يستطيع ارتكاب هذا الشيء الفظيع ؟ "
" هي جريمة قتل إذن ؟ "
" أوه , نعم , لقد ضربها أحدهم على مؤخرة رأسها . إنها مغطاة بالدم والشعر ـ أوه ياله من أمر رهيب ـ وتم حشرها داخل تلك الخزانة . من ذا الذييستطيع الإقدام على فعل هذا الأمر الشرير ؟ ولماذا ؟ مسكينة آجنس , أنا متأكدة أنها لم تؤذ أحداً . "
قلت : " كلا , لابد أن أحدهم رأى أن التخلص منها أمراً ضرورياً . "
حدقت إلي , أدركت أنها ليست ذكية ولكنها قوية الأعصاب . كان مزاجها عادياً ولكنها كانت تشعر ببعض الاهتمام والإثارة , حتى أنه قد هيئ لي أنها تستمتع بهذه الأحداث الدرامية بطريقة ما , على الرغم من رقة قلبها .
قالت معتذرة : " علي أن أذهب لأعتني بالأطفال , فالسيد سيمنجتون حريص جداً على عدم إصابتهم بالصدمة . إنه يريدني أن ~أبقيهم بعيداً . "
قلت : " لقد سمعت أن ميجان هي من اكتشف أمر الجثة , هل اعتنى أحد بها ؟ "
للحق بدت إلسي هولاند متألمة الضمير .
قالت : " أوه , يا عزيزتي , لقد نسيتها تماماً . أتمنى أن تكون بخير . لقد كنت مرتبكة , كما تعرف , بالإضافة إلى وجود الشرطة وما إلى ذلك ـ ولكن كان هذا خطأ مني . يا للفتاة المسكينة , لابد أنها منهارة الآن . سوف أذهب وألقي نظرة عليها . "
شعرت ببعض الارتياح , وقلت : " إنها بخير , وروز تعتني بها . يمكن أن تذهبي إلى الأطفال . "
شكرتني , فابتسمت وكشفت عن صف من الأسنان البيضاء , وهرعت صاعدة الدرج .
فعلى كل حال , فإن مهمتها رعاية الطفلين , وليست ميجان ـ ميجان ليست مهمة أحد . لقد عينت إلسي للاعتناء بأبناء سيمنجتون , ومن ثم لا يستطيع المرء لومها على ذلك .
بينما كانت عند منحنى الدرج , حبست أنفاسي . حيث لمحت في عينيها بريق الانتصار , فبدت أقرب إلى امرأة قوية وجميلة منها إلى مربية حية الضمير .
عندئذ فتح الباب ودخل المفتش ناش إلى الردهة والسيد سيمنجتون خلفه .
قال : " أوه , سيد بيرتون , كنت على وشك الاتصال بك . إنني سعيد لرؤيتك . "
لم يسألني عن سبب مجيئي الآن .
" سأستخدم هذه الحجرة إذا سمحت . "
كانت حجرة صغيرة بها نافذة تطل على الجانب الأمامي من المنزل .
" بالطبع يمكنك ذلك سيدي . "
كان سيمنجتون رابط الجأش , ولكن بدا عليه الإرهاق الشديد .
قال المفتش ناش بلطف : " لو كنت مكانك لتناولت بعض الطعام يا سيد سيمنجتون . فسوف تشعر أنت والسيدة هولاند وميجان بتحسن كبير إذا تناولتم بعض القهوة والبيض واللحم . فمن الصعب مواجهة جريمة قتل بمعدة خاوية . "
كان يتحدث بطريقة ودية كما لو كان طبيب الأسرة .
ابتسم سيمنجتون ابتسامة واهنة وقال : " شكراً لك أيها المفتش , سوف آخذ بنصيحتك . "
تبعث ناش إلى الحجرة الصغيرة , حيث أغلق الباب , وقال : " لقد جئت إلى هنا بسرعة , كيف عرفت بالخبر ؟ "
أخبرته بأن ميجان حادثتني . وشعرت بالود تجاه ناش , فهو لم ينس أيضاً أن ميجان في حاجة لتناول إفطار .
" سمعت أنك اتصلت ليلة أمس يا سيد بيرتون لتسأل عن الفتاة , فما الأمر ؟ "
أعتقد أن هذا كان غريباً . فأخبرته باتصال آجنس ببارتريدج ثم عدم مجيئها , فقال : " نعم , أفهم ... "
قالها ببطء وتمعن وكان يحك ذقنه ثم تنهد , قائلاً : " حسناً , إنها جريمة قتل الآن وهذا الأمر واضح لنا ؛ اعتداء بدني مباشر . السؤال الذي يطرح نفسه الآن : ما الذي كانت تعرفه هذه الفتاة ؟ هل قالت أي شيئ لبارتريدج ؟ أي شيء محدد ؟ "
" لا أعتقد هذا , ولكن يمكن سؤال بارتريدج عن هذا . "
" نعم , سوف آتي إليكم وأسألها حالما أنتهي من هنا . "
سألته : " ما الذي حدث بالضبط ؟ أم أنك لم تعرف بعد ؟ "
" لقد كان يوم عطلة الخادمتين ـ "
" كلتاهما ؟ "

يتبع.....................

القيصر
01-19-2011, 09:39 PM
19/1/2011, 11.40مساء"
الفصل الثامن
1
لم أهنأ بالنوم تلك الليلة . فقد كانت أجزاء اللغز تسبح أمام ذهني . وأعتقد أنني لو فكرت فيها بإمعان , لكن قد توصلت إلى حل اللغز بأكمله عندئذٍ وأنا مستلقي على فراش , وإلا فلماذا تلح هذه الأجزاء على مخيلتي بهذا الشكل ؟
ما مقدار ما نعرفه في أي وقت ؟ أعتقد أننا نعرف أكثر مما ندرك معرفتنا به ! ولكننا لا نستطيع النفاذ إلى تلك المعرفة الخفية . إنها هناك , ولكننا لا نستطيع الوصول إليها .
استلقيت على سريري وأخذت أتقلب متململاً , ولم يطرأ على ذهني سوى أجزاء غامضة من اللغز , الأمر الذي عذبني طوال الليل .
كان هناك نمط منتظم في إرسال هذه الخطابات , فقط لو استطعت لإمساك بهذا الخيط . كان يجب أن أعرف كاتب هذه الرسائل اللعينة : هناك في مكان ما , فقط لو استطعت تتبعه ...
حينما أغمضت عيني لأنام , تراقصت الكلمات أمام ذهني المشوش دونما ترتيب .
" لا دخان بلا نار . " لا دخان بدون نار . دخان .... دخان ؟ الساتر الدخاني .... لا , كان ذلك في الحرب ـ عبارة حربية. حرب ... قصاصة ورق ... مجرد قصاصة ورق . بلجيكا ـ ألمانيا.
رحت في نوم عميق , وحلمت بأنني آخذ السيدة دين كالثروب , للتنزه بعد أن تحولت إلى كلب صيد في عنقه طوق أمسكه بحبل .
2
استيقظت فجأة على رنين هاتف , رنين متصل ملح . جلست في الفراش ونظرت إلى ساعتي . كانت الساعة السابعة والنصف . لم ينادني أحد . كان الهاتف يدق في الطابق الأسفل في الردهة .
قفزت من على الفراش , وارتديت ملابس النوم , وهرعت للأسفل . سبقت بارتريدج التي كانت قادمة عبر الباب الخلفي للمطبخ . رفعت السماعة .
" مرحباً . "
" أوه ـ كا بالصوت نبرة استغاثة ـ أهذا أنت ؟ "
إنه صوت ميجان . بدا صوتها مذعوراً ؟ " أوه , من فضلك تعال ـ تعال . أوه أرجوك تعال . هل ستأتي ؟ "
" سآتي فوراً . هل تسمعيني ؟ فوراً ؟ "
صعدت السلم درجتين درجتين وهرعت إلى جوانا .
" جوانا , إنني ذاهب إلى منزل سيمنجتون . "
رفعت جوانا شعرها الأشقر من على الوسادة وفركت عينيها كطفلة صغيرة .
" لماذا ـ ماذا حدث ؟ :"
" لا أعرف , إنها تلك الطفلة ــ ميجان . لقد بدت مذعورة ! "
" ما الذي حدث في اعتقادك ؟ "
" إنها الفتاة آجنس , إن لم أكن مخطئاً . "
" انتظر , سوف آتي معك لأوصلك بالسيارة . "
" لا داعي لذلك , سأقودها بنفسي . "
" إنك لا تستطيع قيادة السيارة . "
" بل , أستطيع . "
وقد قدتها فعلاً . وقد آلمتني ساقي ولكن ليس كثيراً . اغتسلت وحلقت ذهني وارتديت ملابسي , وأخرجت السيارة وقدتها متوجهاً إلى بيت سيمنجتون حتى وصلت هناك خلال نصف ساعة من تلقي مكالمة ميجان الهاتفية . وهذه فترة لا بأس بها .
لابد أن ميجان كانت ترقب وصولي , فقد خرجت من المنزل بسرعة واحتضنتني . كان وجهها الصغير ممتقعاً ومرتعشاً .
" أوه , ها قد أتيت ـ ها قد أتيت . "
قلت : " تماسكي يا عزيزتي , نعم لقد أتيت , والآن ما الأمر ؟ "
بدأت ترتجف , فوضعت ذراعي حولها .
" لقد ـ لقد وجدتها . "
" وجدت آجني ؟ أين ؟ "
زادت حدة الارتعاش .
" أسفل الدرج , هناك خزانة تحته , بها طعم الصيد وأدوات الجولف وأشياء أخرى كما تعرف . "
أومأت , إنها تلك الخزانات المعتادة .
" كانت هناك , ملقاة و ... وباردة ـ باردة جداً . لقد كانت ـ كانت ميتة . يا له من أمر فضيع ! "
سألتها بفضول : " ما الذي جعلك تنظرين هناك ؟ "
" لا ـ لا أعرف , بعدما اتصلت بنا ليلة الأمس , بدأنا نتساءل عن مكان آجنس . وقد انتظرنا لبعض الوقت , ولكنها لم تأت . وأخيراً ذهبنا إلى لننام . لم أنم جيداً واستيقظت مبكراً ولم يكن هناك سوى روز ( الطاهية , كما تعرف ) . كانت غاضبة جداً لعدم عودة آجنس . وقالت إنها كانت من قبل في أحد البيوت عندما هربت فتاة بمثل هذه الطريقة . ثم تناولت بعض الخبز واللبن والجبن في المطبخ , وفجأة دخلت علي روز وهي تبدو غريبة , وقالت إن ملابس الخروج الخاصة بآجنس لا تزال في حجرتها . لقد كانت أفضل ملابسها التي ترتديها عند الخروج . فبدأت أتساءل ما إذا كانت قد تركت المنزل من الأساس , وبدأت البحث عنها ثم فتحت الخزانة الواقعة تحت السلم . و ــ ووجدتها هناك . "
" هل اتصل أحدكم بالشرطة ؟ "
نعم , إنهم هناك الآن . لقد اتصل زوج أمي على الفور . وعندئذٍ شعرت ـ شعرت بأنني لا أستطيع تحمل الموقف فاتصلت بك . هل لديك مانع ؟ "
قلت : " كلا , لا مانع لدي على الإطلاق . "
نظرت إليها بفضول .
" هل أعطاك أحدهم شاياً أو عصيراً أو قهوة بعدما ـ بعدما وجدتها ؟ "
هزت ميجان رأسها بالنفي .
صببت اللعنات على كل أهل بيت سيمنجتون . ذلك المغرور لم يفكر سوى بالإتصال بالشرطة . ويبدو أنه لا إلسي هولاند ولا الطاهية فكرتا بتأثير ما حدث على تلك الطفلة الصغيرة الحساسة التي اكتشفت أمر الجثة . "
قلت : " تعالي يا عزيزتي , سوف نذهب إلى المطبخ . "
درنا حول البيت ودخلنا إلى المطبخ من الباب الخلفي . كانت روز ـ تلك المرأة البدينة ذات الوجه المنتفخ بجوار المدفأة . حيتنا بسيل دافق من الكلام ويدها على قلبها .
قالت لي أنها قد فزعت وأصيبت بصدمة عنيفة عند اكتشافها هذا الأمر الرهيب ! فقط فكر في الأمر , كان يمكن أن تكون هي , كان يمكن أن يكون أي واحد منهم , مقتولاً على الفراش .
قلت : " صبي قدحاً من الشاي للآنسة ميجان , فهي من تلقت الصدمة كما تعرفين . تذكري أنها من اكتشفت أمر الجثة . "
مجرد ذكر الجثة أصيبت روز بالفزع مرة أخرى , ولكنني رمقتها بنظرة حادة فصبت كوياً من الشاي الثقيل .
قلت لميجان:" اشربي هذا يا فتاتي العزيزة.أعتقد أنك لم تشربي أي عصير , أليس كذلك يا روز؟ "
قالت روز بتشكك إن هناك بعض عصير البرتقال منذ البارحة .
قلت : " هذا يفي بالغرض . " ثم صبت كوباً من العصير لميجان . رأيت في عيني روز استحسان تلك الفكرة .
قلت : " هل أستطيع الاعتماد عليك للاعتناء بالآنسة ميجان ؟ " ردت روز بطريقة مطمئنة : " أوه, نعم سيدي . "
ودلفت إلى الغرفة . ومن خلال معرفتي بنوعية الشخصيات المشابهة لشخصية روز كنت متأكداً من أنها ستجد أنها عليها أن تتناول القليل من الطعام لكي تحافظ على قواها , وهذا أمر جيد بالنسبة لميجان أيضاً . يا لهؤلاء الجاحدين , لماذا لا يعتمون بتلك الطفلة ؟
وتوجهت إلى إلسي هولاند بالردهة وأنا أكاد أنفجر من شدة الغيظ والغضب . لم تبد عليها المفاجأة لرؤيتي . أعتقد أن الإثارة الشديدة الناتجة عن اكتشاف أمر الجثة , جعلت أهل المنزل لا يبالون بمن يأتي ويذهب . كان المفتش , بيرت روندل , يقف عند الباب الأمامي . تنهدت إلسي هولاند قائلة : " أوه , سيد بيرتون و أليس هذا رهيباً ؟ من ذا الذي يستطيع ارتكاب هذا الشيء الفظيع ؟ "
" هي جريمة قتل إذن ؟ "
" أوه , نعم , لقد ضربها أحدهم على مؤخرة رأسها . إنها مغطاة بالدم والشعر ـ أوه ياله من أمر رهيب ـ وتم حشرها داخل تلك الخزانة . من ذا الذييستطيع الإقدام على فعل هذا الأمر الشرير ؟ ولماذا ؟ مسكينة آجنس , أنا متأكدة أنها لم تؤذ أحداً . "
قلت : " كلا , لابد أن أحدهم رأى أن التخلص منها أمراً ضرورياً . "
حدقت إلي , أدركت أنها ليست ذكية ولكنها قوية الأعصاب . كان مزاجها عادياً ولكنها كانت تشعر ببعض الاهتمام والإثارة , حتى أنه قد هيئ لي أنها تستمتع بهذه الأحداث الدرامية بطريقة ما , على الرغم من رقة قلبها .
قالت معتذرة : " علي أن أذهب لأعتني بالأطفال , فالسيد سيمنجتون حريص جداً على عدم إصابتهم بالصدمة . إنه يريدني أن ~أبقيهم بعيداً . "
قلت : " لقد سمعت أن ميجان هي من اكتشف أمر الجثة , هل اعتنى أحد بها ؟ "
للحق بدت إلسي هولاند متألمة الضمير .
قالت : " أوه , يا عزيزتي , لقد نسيتها تماماً . أتمنى أن تكون بخير . لقد كنت مرتبكة , كما تعرف , بالإضافة إلى وجود الشرطة وما إلى ذلك ـ ولكن كان هذا خطأ مني . يا للفتاة المسكينة , لابد أنها منهارة الآن . سوف أذهب وألقي نظرة عليها . "
شعرت ببعض الارتياح , وقلت : " إنها بخير , وروز تعتني بها . يمكن أن تذهبي إلى الأطفال . "
شكرتني , فابتسمت وكشفت عن صف من الأسنان البيضاء , وهرعت صاعدة الدرج .
فعلى كل حال , فإن مهمتها رعاية الطفلين , وليست ميجان ـ ميجان ليست مهمة أحد . لقد عينت إلسي للاعتناء بأبناء سيمنجتون , ومن ثم لا يستطيع المرء لومها على ذلك .
بينما كانت عند منحنى الدرج , حبست أنفاسي . حيث لمحت في عينيها بريق الانتصار , فبدت أقرب إلى امرأة قوية وجميلة منها إلى مربية حية الضمير .
عندئذ فتح الباب ودخل المفتش ناش إلى الردهة والسيد سيمنجتون خلفه .
قال : " أوه , سيد بيرتون , كنت على وشك الاتصال بك . إنني سعيد لرؤيتك . "
لم يسألني عن سبب مجيئي الآن .
" سأستخدم هذه الحجرة إذا سمحت . "
كانت حجرة صغيرة بها نافذة تطل على الجانب الأمامي من المنزل .
" بالطبع يمكنك ذلك سيدي . "
كان سيمنجتون رابط الجأش , ولكن بدا عليه الإرهاق الشديد .
قال المفتش ناش بلطف : " لو كنت مكانك لتناولت بعض الطعام يا سيد سيمنجتون . فسوف تشعر أنت والسيدة هولاند وميجان بتحسن كبير إذا تناولتم بعض القهوة والبيض واللحم . فمن الصعب مواجهة جريمة قتل بمعدة خاوية . "
كان يتحدث بطريقة ودية كما لو كان طبيب الأسرة .
ابتسم سيمنجتون ابتسامة واهنة وقال : " شكراً لك أيها المفتش , سوف آخذ بنصيحتك . "
تبعث ناش إلى الحجرة الصغيرة , حيث أغلق الباب , وقال : " لقد جئت إلى هنا بسرعة , كيف عرفت بالخبر ؟ "
أخبرته بأن ميجان حادثتني . وشعرت بالود تجاه ناش , فهو لم ينس أيضاً أن ميجان في حاجة لتناول إفطار .
" سمعت أنك اتصلت ليلة أمس يا سيد بيرتون لتسأل عن الفتاة , فما الأمر ؟ "
أعتقد أن هذا كان غريباً . فأخبرته باتصال آجنس ببارتريدج ثم عدم مجيئها , فقال : " نعم , أفهم ... "
قالها ببطء وتمعن وكان يحك ذقنه ثم تنهد , قائلاً : " حسناً , إنها جريمة قتل الآن وهذا الأمر واضح لنا ؛ اعتداء بدني مباشر . السؤال الذي يطرح نفسه الآن : ما الذي كانت تعرفه هذه الفتاة ؟ هل قالت أي شيئ لبارتريدج ؟ أي شيء محدد ؟ "
" لا أعتقد هذا , ولكن يمكن سؤال بارتريدج عن هذا . "
" نعم , سوف آتي إليكم وأسألها حالما أنتهي من هنا . "
سألته : " ما الذي حدث بالضبط ؟ أم أنك لم تعرف بعد ؟ "
" لقد كان يوم عطلة الخادمتين ـ "
" كلتاهما ؟ "

يتبع.....................

القيصر
01-22-2011, 01:48 PM
" نعم , يبدو أنه كانت هناك شقيقتان تعملان هنا , وقد طلبتا أخذ عطلتهما في يوم واحد معاً , وقد وافقت السيدة سيمنجتون على ذلك . ثم عندما جاءت هاتان الخادمتان أبقيتا على نفس النظام . وقد اعتادتا على ترك العشاء بارداً في حجرة الطعام , فيما تقوم السيدة هولاند بإعداد الشاي . "
" نعم . "
" الأمر واضح حتى هذه النقطة . إذ إن أسرة روز الطاهية تعيش في " نيزر ميكفورد " ولكي تصل هناك في يوم عطلتها , يجب عليها ركوب حافلة الثانية والنصف . لذا فإن آجنس تضط إلى تجهيز الغداء تماماً . وقد دأبت روز على مكافأتها بغسل صحون العشاء . "
" وهذا ما حدث في الأمس ؛ حيث خرجت روز للحاق بحافلة الثانية والنصف إلا خمس دقائق , وخرج سيمنجتون إلى مكتبه في الساعة الثانية والنصف وخمس دقائق . وخرجت إلسي هولاند والطفلان في الثالثة إلا ربع , وخرجت ميجان هنتر على دراجتها بعد خمس دقائق تقريباً . ويفترض أن تكون آجنس وحدها بالمنزل عندئذٍ وعلى حد علمي , فإنها اعتادت مغادرة المنزل بين الثالثة والثالثة والنصف . "
" أتعني أن المنزل لم يكن به أحد عندئذٍ ؟ "
" أوه , إنهم لا يهتمون بذلك هنا . فالناس في هذه البلدة لا يحرصون على إغلاق بيوتهم . وكما قلت , ففي الساعة الثالثة إلا عشر دقائق كانت آجنس وحدها في البيت . ومن الواضح أنها لم تغادره أبداً , لأنها كانت ما تزال ترتدي قبعتها وملابس العمل عندما وجدنا جثتها . "
" هل عرفتم موعد وفاتها على وجه الدقة ؟ "
" لم يقطع الدكتور جريفيث بموعد محدد لوفاتها . وقد قال في تقريره أنه توفيت بين الثانية والرابعة والنصف . "
" كيف قتلت ؟ "
" ضُربت أولاً بشيء ثقيل على مؤخرة رأسها . وبعد ذلك تم إدخال سيخ المطبخ ـ ذي الرأس الحاد ـ في قاعدة الجمجمة , مما أدى إلى الوفاة الفورية . "
أشعلت سيجارة , فلم تكن الصورة الوصفية جميلة .
قلت : " جريمة بدم بارد . "
" أوه , نعم , هذا ما أشرنا إليه . "
أخذت نفساً عميقاً ثم قلت : " من الذي فعلها ؟ ولماذا ؟ :"
قال ناش ببطء : " لا أعتقد أننا سنعرف السبب تحديداً , ولكننا نستطيع التخمين . "
" أكانت تعرف شيئاً ؟ "
" كانت تعرف شيئاً . "
" ألم تلمح لأحد هنا أو تعطيه فكرة عما يحدث ؟ "
" كلا , على حد علمي . لقد كانت قلقة , منذ وفاة السيدة سيمنجتون , هكذا قالت روز . ووفقاً لأقوال هذه الطاهية فإن قلها كان يتزايد أكثر وأكثر,وظلت تقول أنها لا تعرف ما يجب عليها فعله"
أخرج تنهيدة غيظ , قائلاً : " إنها نفس الطريقة دائماً ؛ فهم لا يأتون إلينا أدباً . لقد استقر في النفوس كراهية (( التورط مع الشرطة )) . لو جاءت إلينا وأخبرتنا بما كان يُقلقها , لربما كانت حية الآن . "
" ألم تلمح لأي امرأة أخرى بأي شيء ؟ "
" كلا , على حسب قول روز , وأنا أميل لتصديقها . لأنها لو كانت أخبرتها بشيء , لسارعت بإخبارنا به مع إضافة كم لا بأس به من الزركشة من خيالها الخصب . "
" ولكن لا نزال نستطيع التخمين يا سيد بيرتون . إن نقطة البداية غير محددة , لابد أن يكون هناك شيء يلح على مخيلتك حتى يزداد قلقك . أتفهم ما أعنيه ؟ "
" نعم . "
" في الحقيقة , فإنني أعلم ما كنت تفكر به . "
نظرت إليه باحترام .
عمل جيد أيها المفتش ناش . "
حسناً يا سيد بيرتون , إنني أعرف شيئاً لا تعرفه أنت . في عصر اليوم الذي انتحرت فيه السيدة سيمنجتون , كان يفترض أن تكون الخادمتان بالخارج . فقد كان يوم إجازتهما . ولكن آجنس عادت إلى المنزل . "
" أمتأكد من ذلك ؟ "
" نعم , آجنس لديها صديق ـ ذلك الشاب الذي يدعى ريندل الذي يعمل في متجر السمك . حيث يغلق المتجر مبكراً يوم الأربعاء ويأتي لمقابلة آجنس ويذهبان للتنزه , أو يذهبان للمتحف إذا كان الجو مطيراً . وفي ذلك اليوم الأربعاء تشاجرا بمجرد تقابلهما . وقد كانت صاحتنا كاتبة الرسائل تمارس نشاطها , وأوحت إلى ريندل بأن آجنس علاقة مع شاب آخر فاغتاظ ريندل وتشاجرا مشاجرة عنيفة وعادت آجنس أدراجها إلى المنزل , وقالت إنها لن تخرج مع فريد ريندل حتى يأتي ويعتذر لها . "
" وبعد ؟ "
" حساً , يا سيد بيرتون , المطبخ يواجه الجانب الخلفي للمنزل , ولكن حجرة الخازن تطل على الجهة التي نطل عليها نحن الآن . ولا يوجد إلا بوابة واحدة للدخول فتمر بها إما للصعود إلى الباب الأمامي , أو السير عبر الممر الواقع بجانب المنزل حتى تصل إلى الباب الخلفي . "
سكت قليلاً , ثم أضاف : " والآن لأخبرك بشيء . تلك الرسالة التي تلقتها السيدة سيمنجتون عبر لابريد لم ترسل عبر البريد , بل كان عليها طابع بريد مستعمل وختم مزيف باستخدام سخام مصباح , وذلك حتى تبدو وكأن رجل البريد قد ألقاها مع رسائل ما بعد الظهيرة . ولكنها في الحقيقة لم تُرسل عبر البريد . أتفهم ما يعنيه ذلك ؟ "
قلت ببطء : " يعني أنها ألقيت باليد داخل صندوق الرسائل قبل مجيء بريد العضر , بحيث تكون بين الرسائل الأخرى . "
" تماماً , إن بريد العصر يأتي في الساعة الرابعة إلا ربع تقريباً . وأنا أرى أن الفتاة كانت جالسة في حجرة الخزين تنظل من النافذة ( لقد كانت مغطاة بالشجيرات ولكن يمكن الرؤية من خلالها ) مترقبة مجيء صديقها والاعتذار إليها . "
قلت : ورأت من ألقى تلك الرسائل ؟ "
" هذا ما أظنه يا سيد بيرتون , وقد أكون مخطئاً بالطبع . "
" ولا أظنك مخطئاً ... إن الفكرة بسيطو ـ ومقنعة ـ وتعني أن آجنس عرفت هوية كاتب الرسائل المجهولة . "
" نعم . "
" ولكن لماذا لم ـ "
سكتُّ مقطباً جبيني . فقال ناش بسرعة : " يهيأ لي أن الفتاة لم تعي ما رأته , في البداية على الأقل . وقد ترك أحدهم رسالة بالمنزل , نعم ـ لكن ذلك الشخص لم يكن شخصاً تحلم بأن يكون له صلة بالرسائل المجهولة . لقد كان من تلك الشخصيات التي يُطلق عليها : " فوق مستوى الشبهات " ولكن كلما فكرت في الأمر أكثر ازداد قلقها . ربما كان عليها إخبار أحدهم بالأمر , في خضم ارتباكها وحيراتها فكرت في بارتريدج خادمة السيدة بيرتون التي أعتقد أنها شخصية مسيطرة وتقبل آجنس حكمها على الأمور دون تردد . فقررت أن تسأل بارتريدج عما يجب عليها أن تفعله . "
قلت متفكراً : " نعم , إن هذا منطقي للغاية . وقد اكتشفت صاحبة القلم المسموم ذلك بطريقة ما , ولكن كيف اكتشفته أيها المفتش ؟ "
" إنك لم تعتد العيش في الريف يا سيد بيرتون . فالأخبار تنتشر هنا بطريقة سريعة . أولاً , هناك المكالمة الهاتفية . من الذي سمعها من الطرف الآخر ؟ "
فكرت ثم قلت : " لقد كنتُ أنا من أجاب على الهاتف في البداية ثم ناديت على بارتريدج التي كانت في الطابق العلوي . "
" هل ذكرت اسم الفتاة ؟ "
" نعم , نعم , ذكرته . "
" هل سمعك أحد آخر وأنت تذكره ؟ "
" أختي والآنسة جريفيث سمعاني أيضاً . "
" آه , الآنسة جريفيث ؟ ماذا كانت تفعل ؟ "
شرحت له ما جاءت لأجله .
" هل عادت إلى القرية ؟ "
" ذهبَت إلى السيد باي أولاً . "
تنهد المفتش ناش .
" إذا هناك طريقتان يمكن من خلالهما انتشار الخبر . "
نظرت إليه غير مصدق .
" هل تعني أن أياً من الآنسة جريفيث أو السيد باي يأبه بنقل معلومة تافهة كهذه ؟ "
" أي شيء يعتبر خبراً في بلدة كهذه . فإذا ظهر ورم في قدم أم الخياطة فسوف يعرف الجميع بالخبر ! ثم عندنا من كانوا في الجانب الأول من الخط : السيدة هولاند وروز ـ ربما تكونا قد سمعتا ما قالته آجنس . وهناك فريد ريندل . فربما انتشر خبر رجوع آجنس إلى المنزل عصر ذلك اليوم من خلاله . "
ارتعدت بينما كنت أنظر إلى النافذة وأمامي قطعة مربعة من العشب والممر وبوابة قصيرة .
فتحت إحداهن البوابة , وسارت مطمئنة نحو المنزل , ثم ألقت الرسالة في صندوق الرسائل . ورأيت في خيالي صورة غائمة لتلك المرأة . الوجه خالٍ من أية مامح ـ ولكن لابد وأنه وجه أعرفه ...
كان المفتش ناش يقول : " وهذا يحدد نطاق البحث أكثر , وهكذا نستطيع الإمساك بالفاعل في النهاية . الثبات والصبر , فليس هناك الكثير من المشكوك فيهم الآن . "
" أتعني ـ ؟ "
" أعني أن نستثني أي امرأة عاملة كانت في عملها عصر ذلك اليوم . ويستثنى كذلك مديرة المدرسة , فقد كانت في مدرستها , وأيضاً الممرضة , فأنا أعرف أين كانت بالأمس , على الرغم من أنني لم أشك فيها منذ البداية , ولكننا الآن متأكدون . وكما ترى يا سيد بيرتون , فإن لدينا الآن وقتان يجب أن نركز عليهما ـ عصر الأمس , والأسبوع السابق . في يوم وفاة السيدة سيمنجتون , لنقل من الساعة الثالثة والربع ( أول وقت يمكن أن تكون آجنس قد عادت فيه إلى المنزل بعد شجارها مع صديقها ) ولكنني أستطيع أن أعرف الموعد بدقة من ساعي البريد . والأمس من الثالثة إلا عشر دقائق ( عندما تركت الآنسة ميجان هنتر المنزل ) وحتى الثالثة والنصف أو ربما الثالثة والربع بما أن آجنس لم تغير ملابسها . "
" ما الذي حدث بالأمس في رأيك ؟ "
مط ناش شفتيه , قائلاً : " أعتقد أن هناك سيدة ما سارت حتى الباب الأمامي , ودقت الجرس , وهي هادئة تماماً ومبتسمة , متظاهرة بأنها تحمل بطاقات دعوة ... ربما سألت عن السيدة هولاند , أو ربما أحضرت معها طرداً . على أية حال ذهبت إليها آجنس لتأخذ بطاقة الدعوة أو الطرد , ثم ضربتها صاحبتنا على مؤخرة رأسها . "
" بأي شيء ضربتها ؟ "
قال ناش : " النساء هنا يحملن حقائب ذات حجم كبير يمكن أن تتسع لأي شيء يخطر ببالك . "
" ثم طعنتها في مؤخرة عنقها ووضعتها في الخزانة , أليس هذا أمراً صعباً على امرأة ؟ "
نظر إلي المفتش ناش باستغراب , قائلاً : " المرأة التي نطاردها ليست امرأة عادية ـ ليست عادية إلى حد بعيد ـ وتلك النوعية من النساء المختلات عقلياً يمتلكن قوة مدهشة , كما أن آجنس لم تكن فتاة قوية البنيان . "
صمت برهة , ثم سأل : " ما الذي جعل ميجان هنتر تفكر في النظر بداخل الخزانة ؟ "
قلت : " إنها الغريزة المحضة . "
ثم سألته : " لماذا تم سحب آجنس إلى الخزانة ؟ ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ "
" لأنه كلما طالت مدة اكتشاف الجثة , زادت صعوبة تحديد موعد الوفاة بدقة . أما لو عثرت السيدة هولاند , مثلاً , على الجثة بمجرد دخولها إلى المنزل لاستطعنا تحديد موعد الوفاة بدقة تبلغ عشر دقائق أو ما يقرب من ذلك ـ وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يحرج صاحبتنا . "
قلت متجهماً : " لكن لو كانت آجنس تشك في هذه المرأة ـ "
" لم تكن تشك . ليس حد الشك القاطع . كل ما فكرت فيه أن أمرها غريب . وأعتقد أنها لم تكن فتاة حادة الذكاء , وكان كل ما يدور في مخيلتها شكوك غامضة مصحوبة بسعور بأن ثمة خطأ ما . وبالتأكيد لم تشك بأنها تواجه امرأة يمكن أن تقتل . "
" هل شككت أنت في ذلك ؟ "
" كان علي أن اعرف . فمسألة الانتحار كما ترى ! قد أخافت صاحبة القلم المسموم . قد وقع يا سيد بيرتون ما لم يكن في حسبانها . "
" نعم و الخوف , هذا كل ما ينبغي علينا التنبؤ به . الخوف ـ في عقل مختل ... "
قال الفت ناش : " كما ترى , فإننا نطارد امرأة تحظى بالاحترام والتقدير ـ امرأة ذات مكانة اجتماعية مرموقة ! " . وقد جعلني كلامك أشعر بمدى فظاعة الموقف !

القيصر
01-22-2011, 01:51 PM
3
قال ناش عندئذ أنه سوف يستجوب روز مرة أخرى . فسألته ما إذا كان من الممكن أن آتي معه إن لم يكن في الأمر إحراج له . ولدهشتي رحب بعرضي .
" إنني مسرور جدتً بتعاونك يا سيد بيرتون . "
قلت : " يبدو هذا مثيراً للشك , ففي القصص البوليسية عندما يرحب المحقق بمساعدة شخص ما , فعادة ما يكون هذا الشخص هو الجاني "
ضحك ناش وقال : " من المستبعد أن تكون من تلك النوعية التي تجلس وتكتب الرسائل المجهولة , يا سيد بيرتون . "
ثم أضاف : " بصراحة , يمكن أن تفيدنا كثيراً . "
" يسرني ذلك , ولكنني لا أعرف كيف يمكن أن أكون مصدر عون ؟ "
" هذا لأنك غريب هنا , وليس لديك أفكار مسبقة عن الأهالي هنا , ولكنك في الوقت ذاته لديك الفرصة لمعرفة الأمور بالأسلوب الذي أطلق عليه الذكاء الاجتماعي . "
تمتمت قائلاً : " الجاني شخص له مكانة اجتماعية . "
" تماماً . "
" أيعني ذلك أن أكون جاسوساً لكم ؟ "
" ألديك اعتراض ؟ "
فكرت في الأم , ثم قلت : " كلا , بصراحة ليس لدي اعتراض . فإذا كانت هناك امرأة مختلة تقود سيدة مسالمة إلى الانتحار وتقتل خادمة صغيرة بدم بارد , فليس لدي اعتراض على عمل شيء قذر كالتجسس بهدف القبض على تلك المختلة . "
" ها لطف منك , سيدي . واسمح لي بأن أقول لك أن المرأة التي نطاردها خطيرة , فهي كأشد العابين فتكاً . "
ارتعدت ثم قلت : " في الحقيقة , علينا أن نسرع . "
" هذا صحيح , لا تظن أن الشرطة متكاسلة , فنحن نعمل على عدة خطوط . "
قالها بتجهم .
كنت أتخيل شبكة عنكبوتية واسعة تهدف إلى اصطياد الجاني ...
أوضح لي نا أنه يريد سماع قصة روز مرة أخرى لأنها أخبرته بروايتين مختلفتين , وكلما زاد عدد رواياتها , زادت احتمالات تجميع نقاط الحقيقة معاً .
وجدنا روز تغسل صحون الإفطار , ثم توقفت فجأة وأدارت عينيها ووضعت يدها على قلبها وهي تقص علينا مرة أخرى كيف اطلعت على هذا الأمر الرهيب هذا الصباح .
كان ناش صبوراً معها ولكن حازماً , وأخبرني بأنه كان يحاول تهدئتها في المرة الأولى , وكان حاسماً في المرة الثانية . أما الآن , فهو يعاملها بمزيج من الأسلوبين .
أخذت روز تقص تفاصيل الأسبوع الماصي بسعادة , وروت كيف أن آجنس كانت في غاية الخوف , ثم ارتعدت عندما حثتها روز على قول ما الذي كان يخيفها , وقالت : " لا تسأليني . " فلو أخبرتني لكنت أنا أيضاً ميتة الآن " كان هذا هو كل ما قالته روز , منهية حديثها وهي تقلب النظر إلينا بسعادة .
" ألم تلمح آجنس بما كان يخيفها ؟ "
" كلا , فيما عدا أنها كانت خائفة . "
تنهد المفتش ناش وابتعد عن هذا الموضوع , وأخذ يسأل روز عن أنشطتها في اليوم السابق .
روت روز ذلك بصراحة , حيث قالت أنه استقلت حافلة الثانية والنصف وقضت فترة العصر والمساء مع أسرتها , ثم عادت في الثامنة والنصف من نيذر ميكفورد . وقد تعقدت روايتها بفعل ما قالته عن الاحساس الغريب الذي راودها بأن ثمة شراً يحدث عصر الأمس وكيف علقت أختها على ذلك وكيف أنها لم تستطع لمس قطعة واحدة من كعكة البذور .
تركنا المطبخ بحثاً عن إلسي هولاند , التي كانت تصحح دروس الطفلين , وكعادتها كانت إلسي هولاند متعاونة . رفعت رأسها وقالت : " والآن يا كولين أنت وبراين سوف تحلان هذه المسائل الثلاث إلى أن أعود . "
ثم قادتنا إلى حجرتها . " أليس ذلك أفضل ؟ فأنا أعتقد أنه من الأفضل ألا نتحدث أمام الطفلين . "
" شكراً لك يا آنسة هولاند . فقط أخبريني مرة أخرى ؛ هل أنت متأكدة من أن آجنس لم تخبرك بقلقها بخصوص أي شيء , أقصد منذ وفاة السيدة سيمنجتون ؟ "
" كلا , لم تقل أي شيء . لقد كانت فتاة هادئة جداً , كما تعرف , ولم تكن تتحدث كثيراً . "
" على عس الخادمة الأخرى إذا ؟ "
" نعم , فروز تتحدث كثيراً . وعلي أن أخبرها بأن تكف عن وقاحتها تلك بعض الأحيان .
" والآن , هلا أخبرتني بما حدث بالضبط عصر أمس ؟؟ كل شئ تتذكرينه ."
" حسنا , لقد تناولنا غداءنا كالعاده ، بعدها بساعه خرجنا لنزهه , فأنا لا أدع الطفلان يملان أبداً . دعني أتذكر . لقد عاد السيد سيمنجتون الى مكتبه أو ساعدت آجنس في إعداد المائده ـ بينما كان الطفلان يلعبان في الحديقة ريثما أتجهز للخروج معهما . "
" أين ذهبتم ؟ "
" إلى كومبي آكر , فقد أراد الطقلان صيد الأسماك , ولكني نسيت الطعم لذا عدت إحضاره . "
" متى كان ذلك ؟ "
" دعني أتذر , لقد خرجنا حوالي لساعة الثالة إلا الثلث ـ أو بعدها بقليل , وكام من المقرر أن تأتي ميجان معنا ولكنها غيرت رأيها , وقررت أن تخرج للتنزه على دراجتها , فهي تعشق ركوب الدراجات . "
" أقصد متى عدت لإحضار الطعم ؟ هل دخلت المنزل ؟ "
" لا , لقد تركتها في السقيفة خلف المنزل . ولا أعرف بالضبط كم كان الوقت حينئذ ـ حوالي الثالثة إلا عشر دقائق تقريباً . "
" هل رأيت ميجان أو آجنس ؟ "
" أعتقد أن ميجان كانت قد غادرت . أما آجنس فلم أراها . لم أر أي أحد . "
" وبعدها ذهبتم للصيد ؟ "
" نعم لقد ذهبنا للجدول . ولم نصطد شيئاً , فنحن لا نصطاد شيئاً تقريباً , ولكن الطفلين يستمتعان بذلك . وقد بلل براين ملابسه . كان يجب أن أغير ملابسه عندما عدنا . "
" هل تقومين بإعداد الشاي كل يوم أربعاء من كل أسبوع ؟ "
" نعم , فالشاي يكون معداً في غرفة الاستقبال من أجل السيد سيمنجتون . إنني أعد الشاي فقط عندما يحضر إلى المنزل . أما أنا والطفلان فنتناوله في حجرة الدراسة . فلدي أدوات الشاي والأدوات الأخرى في الخزانة الموجودة أعلى هناك . "
" ومتى عدت ؟ "
" في حوالي الخامسة إلا عشر دقائق . أخذت الطفلين إلى الطابق العلوي وبدأت فس إعداد الشاي . ثم عندما عاد السيد سيمنجتون ونزلت لأقدم له الشاي , ولكنه قال إنه سيتناوله معنا في غرفة الدراسة . وقد فرح الطفلان لذلك , ولعبنا معاً , يبدو لي الأمر فضيعاً الآن عندما أفكر فيه ـ حيث كانت تلك الفتاة المسكينة مقتولة في الخزانة في ذلك الحين . "
" هل يذهب أحد إلى تلك الخزانة في العادة ؟ "
" أوه كلا , إنها لا تستخدم إلا لحفظ الأشياء البالية , أما القبعات والمعاطف فنعلقها في الحجرة الصغيرة الواقعة على يمين الباب الأمامي عند الدخول . ولم يذهب أحد إلى الخزانة الأخرى منذ شهور . "
" حسناً , ولكن ألم تلاحظي شيئاً غريباً عندما عدتِ ؟ "
اتسعت عيناها الزرقاوان , قائلة : " أوه , كلاأيها المفتش لم ألحظ أي شيء على الإطلاق . كان كل شيء كالمعتاد , وهذا هو الرهيب في الأمر . "
" وفي الأسبوع السابق ؟ "
" أتقصد اليوم الذي انتحرت فيه السيدة سيمنتون ؟ "
" نعم . "
" أوه , كان ذلك فظيعاً , فظيعاً . "
" نعم , نعم , أعرف , هل كنت في الخارج أيضاً عصر ذلك اليوم ؟ "
" أوه نعم , فدائماً ما أخرج وآخذ الطفلين بعد الظهر ـ إذا كان الطقس مناسباً . حيث أعطيهما الدروس في الصباح . وفي ذلك اليوم ـ على ما أذكر ـ ذهبنا إلى ناحية المستنقعات ـ ومشينا كثيراً , حتى أنني كنت أخشى أننا تأخرنا في العودة لأنني عندما دخلت من الباب رأيت السيد سيمنجتون عائداً من مكتبه ولم أكن حتى وضعت إناء الشاي على النار , ولكنها كانت الساعة الخامسة إلا عشر دقائق . "
" ألم تذهبي للسيدة سيمنجتون في غرفتها ؟ "
" أوه , كلا , فأنا لم أفعل ذلك أبداً , فهي دائماً ما تأخذ قسطاً من الراحة بعد الغداء بسبب النوبات العصبيى التي تعاني منها ـ وعادة ما كانت تداهمها بعد تناول الوجبات . وقد أعطاها الدكتور جريفيث بعض المهدئات , واعتادت الاستلقاء على الفراش ومحاولة النوم . "
قال ناش بصوت خفيض : " إذن ألا يأخذ لها أحد البريد ؟ "
" بريد العصر ؟ كلا , إنني أنظر داخل صندوق البريد وأضع الرسائل على المائدة في الردهة عندما أدخل . ولكن غالباً ما تأخذها السيدة سيمنجتون بنفسها . فهي لم تكن تنام طوال فترة العصر , بل عادة ما كانت تستيقظ قبيل الساعة الرابعة . "
" ألم تعتقدي أن شيئاً مريباً حدث لأنها لم تستيقظ عصر ذلك اليوم ؟ "
" أوه كلا , إنني لم أتصور حدوث شيء كهذا . لقد كان السيد سيمنجتون يعلق معطفه في الردهة , وقلت له : " الشاي ليس جاهزاً بعد , ولكنني على وشك الانتهاء من إعداده . "
فأومأ برأسه ونادى على السيدة سيمنجتون و قائلاً : " مونا , مونا ! " ـ وعندما لم ترد عليه صعد إلى الطابق العلوي متوجهاً نحو غرفة نومها , ولابد أنها كانت أفضع صدمة تعرض لها . وقد نادى علي , وعندما جئته , قال لي : " أبق الأولاد بعيداً . " ثم اتصل بالدكتور جريفيث ونسينا أمر إناء الشاي حتى احترق الجزء السفلي بالكامل ! آه يا عزيزتي ! لقد كان أمراً رهيباً , فقد كانت السيدة سيمنجتون سعيدة ومبتهجة على الغداء . "
قال ناش بسرعة : " ما رأيك في تلك الرسالة التي تلقيتها يا آنسة هولاند ؟ "
قالت إلسي هولاند بشيء من الغضب : " أوه , أعتقد أنها عمل شرير ـ شرير ! "
" نعم , نعم , لم أقصد ذلك . هل كنت تعتقدين أنها حقيقة ؟ "
قالت إلسي هولاند بحزم : " كلا , في الحقيقة لا أعتقد ذلك , لقد كانت السيدة سيمنجتون شديدة الحساسية في الحقيقة . كانت تضطر إلى أخذ جميع المهدئات العصبية المتوافرة , كما كانت محافظة للغاية , وأي عمل حقير كهذا من شأنه أن يسبب لها صدمة . "
صمت ناش للحظة , ثم سألها : " ألم تتلقي أياً من هذه الرسائل يا آنسة هولاند ؟ "
" كلا , كلا , لا أتلق أياً منها . "
" هل أنت على ثقة من ذلك ؟ من فضلك " ـ ثم رفع يده ـ " لا تتسرعي الإجابة , أعرف أنها أشياء بغيضة , ولا يحب الناس أحياناً الاعتراف باستلام واحدة منها . ولكن من المهم جداً في هذه القضية أن نعرف الحقيقة , ونحن نعلم تماماً أن كل ما يَرِد بها محض أكاذيب , لذا لا داعي للشعور بالحرج . "
" لكني لم أتلق سشيئاً فعلاً أيها المفتش ؟ لم أتلق شيئاً من هذا القبيل على الإطلاق . "
كانت ساخطة وأوشكت على البكاء , وبدا إنكارها صادقاً . "
عندما عادت إلى الطفلين , وقف ناش ونظر من النافذة . قال : " حسناً ’ إنها تدعي أنها لم تتلق أياً من هذه الرسائل , ويبدو أنها صادقة فيما تقول . "
" بالقطع , أنا على ثقة من ذلك . "
همهم ناش , ثم قال : " ما أريد معرفته إذن هو لماذا لم يقع عليها اختيار تلك الشيطانة كاتبة الرسائل المجهولة ؟ "
واصل كلامه دونما صبر , بينما كنت أحدق إليه .
" " إنها جميلة , أليس كذلك ؟ "
" أكثر من مجرد جميلة . "
" بالضبط , وهي حسنة المظهر بشكل غير عادي , وفي سن الشباب في الحقيقة إنها مطمع لأي كاتب رسائل مجهولة . إذن لماذا استثنيت ؟ "
هززت رأسي .
" إنها مسألة مثيرة , ويجب أن أذككر لجريفيث هذلك , فقد طلب مني أن أخبره عن أي شخص لم يتلق رسائل مجهولة . "
قلت : " إنها المرأة الثانية , تذكر أن هناك إيميلي بارتون أيضاً . "
ضحك ناش ضحكة باهتة .
" لا تصدق كل ما يقال يا سيد بيرتون , فقد تلقت السيدة بارتون واحدة بالفعل ـ بل أكثر من واحدة . "
" كيف عرفت ؟ "
" تلك المخلصة سليطة اللسان التي تعيش معها خادمتها أو طاهيتها السابقة فلورنسا إلفرود . لقد كانت ساخطة جداً بسبب تلك الرسالة , وكانت تود أن تقطع صاحبتها إرباً . "
" لكن لماذا قالت إيميلي بارتون إنها لم تتلق أي رسالة من هذا النوع ؟ "
" إنها الرقة ؛ فلغة هذه الرسائل ليست لطيفة . والسيدة بارتون الصغيرة قضت حياتها وهي تتجنب كل ما هو بذيء وغير مهذب . "
" وماذا قالت الرسالة ؟ "
" الكلام المعتاد , وإن كان يبعث على الضحك في حالتها . وقد لمحت الرسالة إلى أنها وضعت السم لأمها العجوز ومعظم شقيقاتها . "
قلت غير مصدق : " أتقصد أن هذه المرأة المجنونة الخطرة ستظل طليقة ولن نستطيع التعرف عليها وإيقافها عند حدها ؟ "
قال ناش بصوت كئيب : " حسناً , سوف نكشفها , فسوف تكتب الكثير من الرسائل الأخرى ."
" ولكنها لن تكتب المزيد من الرسائل , على الأقل الآن . "
نظر إلي قائلاً : " بلى , ستفعل . فهي لا تستطيع التوقف الآن , فهذا نوع من الأمراض المستعصية . والرسائل ستستمر , لا شك في ذلك . "

يتبع ... http://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/rose_102.gifhttp://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/rose_102.gifhttp://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/rose_102.gifhttp://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/..a..gifhttp://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/..a..gifhttp://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/..a..gifhttp://www.albdoo.com/vb/images/smiles2/..a..gif

القيصر
01-22-2011, 01:53 PM
الفصل التاسع
1
ذهبت لأرى ميجان قبل مغادرة المنزل . كانت في الحديقة وبدت وكأنها عادت إلى حالتها الطبيعية تقريباً , حيتني مبتهجة .
اقترحت عليها العودة إلينا مرة أخرى لفترة , ولكن بعد التردد هزت رأسها : " هذا لطف منك ـ ولكني أعتقد أنني سأبقى هنا . فهو على أية حال ـ حسناً , يفترض أنه بيتي . وأزعم أنني أستطيع مساعدة الطفلين . "
قلت : " حسناً , كما تشائين . "
" إذن أعتقد أنني سأبقى . هل أستطيع ـ هل أستطيع ؟ "
قلت لكي أحثها على الكلام : " نعم . "
" إذا ـ إذا حدث أي شيء رهيب , أستطيع الاتصال بك لتأتي إلي , أليس كذلك ؟ "
تأثرت لكلامها , فقلت : " بالطبع , ولكن ما هو الشيء الرهيب الذي تعتقدين أنه قد يحدث ؟ "
" أوه , لا أعرف . "
بدت غامضة بعض الشيء وهي تقول : " أوه , لا أعرف . أشياء مثل ما يحدث الآن . "
قلت , بالله ليك , لا تكوني متشائمة إلى هذه الدرجة , فلن يكون هناك المزيد من الجثث ! فهذا ليس جيداً لكي . "
ابتسمت لي ابتسامة خاطفة , قائلة : " كلا , إنه ليس جيداً بالمرة . قد جعلني أشعر بالغثيان . "
لم ترق لي فكرة تركها هناك , ولكنه على أية حال , كما قالت و بيتها . وتخيلت أن إلسي هولاند ستشعر بمزيد من المسؤولية تجاهها .
ذهبت أنا وناش إلى ليتل فيرز . وبينما كنت أقص باختصار أحداث هذا الصباح على جوانا , كان ناش يتحدث مع بارتريدج ليسألها عما إذا كانت آجنس قد قالت لها شيئاً محدداً عندما اتصلت بها . ثم عاد إلينا موهو يبدو محبطاً .
" لم تفدنا كثيراً , فطبقاً لهذه المرأة , فإن الفتاة لم تقل شيئاً سوى أنها قلقة بخصوص أمر ما ولا تعرف ماذا تفعل وأنها تود طلب النصيحة من لسيدة بارتريدج . "
سألته جوانا : " هل ذكرت بارتريدج هذا لأي أحد ؟ "
أومأ ناش متجهماً .
" نعم , فقد أخبرت السيدة موري ـ خادمتكم التي تأتي في الصباح ـ بأن هناك بعض الفتيات اللاتي يرغبن في طلب النصح ممن هن أكبر منهن سناً ولا يعتقدن أن بمقدورهن البت في أي شيء بمفردهن ! وربما لم تكن آجنس فتاة ذكية , ولكنها كانت فتاة مهذبة وعلى خلق . "
تمتمت جوانا : " إن بارتريدج تمدح نفسها في الحقيقة . وهل يمكن أن تكون الآنسة إموري قد أضشاعت الخبر في البلدة ؟ "
" هذا صحيح ! يا آنسة بيرتون . "
قلت : " هناك شيء يصيبني بالدهشة , لماذا كنت أنا وأختى من ضمن متلقي الرسائل المجهولة ؟ فنحن غربء هنا ـ ولا يكن أحد لنا ضغينة ؟ "
" إنك لا تستطيع فهم عقليات أصحاب الأقلام المسمومة ـ إنهم يصوبون سهامهم إلى الجميع . ويمكنك القول إنهم يكنّون الضغينة للإنسانية كلها . "
قالت جوانا متفكرة : " أعتقد أن هذا هو ما قصدته السيدة كالثروب . "
نظر إليها ناش نظرة متسائلة , ولكنها لم توضح له , فقال : " لا أعرف ما إذا كنت قد نظرت بتأن إلى مظروف الرسالة التي تلقيتها يا آنسة بيرتون ولو أنك فعلت لربما لاحظت أنها كانت سترسل إلى الآنسة بارتون ثم تم تحويل حرف الألف إلى ياء . "
لو تم ملاحظة ذلك , لكان يمكن أن يكشف لنا جزءاً من الغموض الذي يكتنف الأمر , ولكن أحداً منا لم يعرها اهتماماً .
غادر ناش , وبقيت أنا وجوانا . قالت : " إنك لا تعتقد أن الرسالة كان مقصوداً بها إيميلي حقاً , أليس كذلك ؟ "
أوضحت لها قائلاً : " لو كانت إيميلي هي المقصودة ما كانت الرسالة لتبدأ بعبارة : (( أيتها الساقطة المتبرجة . )) " فوافقتني جوانا .
ثم قلت إنه ينبغي علي الذهاب إلى وسط البلدة .
" يجب أن تسمعي ما يقوله الجميع , لكن لدهشتي رفضت وقالت إنها ستتسكع في الحديقة .
توقفت عند الباب وأخفضت صوتي , قائلاً : " أعتد أنها بارتريدج . "
" بارتريدج ! "
جعلتني الدهشة التي غلفت صوت جوانا أشعر بالخجل من فكرتي هذه , فقلت معتذراً : " كنت فقط أتساءل . فهي غريبة الأطوار إلى حد ما ـ فهي عانس متجهمة ـ ذلك النوع من النساء اللاتي يمكن أن يكن متعصبات دينياً . "
" ولكن موضوعنا هذا لا علاقة له بالتعصب الديني ـ أو أن هذا ما قاله جريفيز على حد قولك . "
" حسناً , فهو الهوس الجنسي إذن . إنهما مرتبطان ببعضهما على ما أعتقد . فهي تشعر بالكبت وتحظى بالاحترام وقد عاشت حبيسة البيت هنا لسنوات مع سيدات عجائز . "
" ما الذي دفع الفكرة إلى ذهنك ؟ "
قلت ببطء : " حسناً , إننا لم نسمع إلا روايتها هي بخصوص ما قالته الفتاة , ربما طلبت آجنس من بارتريدج أن تخبرها عن سبب مجيئها وتركها رسالة في ذلك اليوم ـ ثم قالت بارتريدج أنها ستأتي بعد الظهر وتشرح لها الأمر . "
" ثم موهت على الأمر بأن جاءت إلينا وسألتنا ما إذا كان من الممكن أن تأتي الفتاة إلى هنا . "
" نعم . "
" لكن بارتريدج لم تخرج عصر ذلك اليوم . "
" وما أدراك ؟ تذكري أننا كنا بالخارج . "
" نعم , هذا صحيح . أعتقد أن ذلك ممكن . " ثم قلبت جوانا الأمر في رأسها وقالت : " ولكني لا أعتقد ذلك فأنا لا أعتقد أن عقلية بارتريدج تستطيع حبك كل هذه الخدع للتمويه على أمر الرسائل المجهولة ؛ أي أن تزيل بصمات الأصابع وما إلى ذلك . فالأمر لا يحتاج إلى الدهاء فقط , بل والمعرفة أيضاً . وأنا لا أعتقد أنها تمتلك هذه القدرات . أظن أن ـ " ترددت جوانا , ثم قالت ببطء : " هم متأكدون أنها امرأة , أليس كذلك ؟ "
صحت غير مصدق : " أتظنين أنه رجل ؟ "
" كلا ليس رجلاً عادياً ـ ولكنه نوع معين من الرجال . إنني أفكر حقاً في السيد باي . "
" إذن قد وقع اختيارك على باي ؟ "
" ألا تشعر أنت نفسك أنه محل للشبهة ؟ فهو يعيش وحده ـ وغير سعيد ـ ومكروه من الآخرين . فالجميع يسخرون منه كما ترى . ألا ترى أنه يحقد على كل الناس الغير طبيعيين السعداء ويستمتع بشكل غريب بما يفعله ؟ "
" ولكن جريفز قال إنها امرأة عانس في أواسط العمر . "
قالت جوانا : " والسيد باي عانس في أواسط العمر . "
قلت ببطء : " مختلف عمن حوله . "
" وهو هكذا بالفعل . إنه غني , ولكن المال ليس كل شيء . وأعتقد أنه ليس متزناً . إنه رجل قصير ومخيف . "
" تذكري أنه هو نفسه تلقى رسالة . "
" لسنا متأكدين من ذلك , كل ما لدينا مجرد اعتقادات . وعلى كل ربما ادعى ذلك لحبك تمثيليته . "
" أتعتقدين أنه يخدعنا ؟ "
" نعم , ولديه من الذكاء ما يكفي للتفكير في ذلك ـ ةعدم المبالغة في أداء دوره . "
" لابد وأنه ممثل قدير . "
" بالفعل يا جيري , إن من يفعل ذلك لابد وأن يكون ممثلاً قديراً . فهذا أحد جوانب المتعة والسعادة بالنسبة له . "
" بالله عليك يا جوانا لا تتحدثي بذلك اليقين ! فأنت تجعليني أشعر بأنك ـ بأنك تفهمين عقلية هذه الرسائل . "
" أعتقد أنني أفهمها . أقصد أنني أستطيع تصور الحالة المزاجية والنفسية لكاتبها . فلو لم أكن جوانا بيرتون ولو لم أكن شابة وجذابة إلى حد معقول وقادرة على الاستمتاع بوقتي , ولو كنت ـ كيف أقولها ؟ ـ خلف القبضان وأشاهد الآخرين وهم يستمتعون بحياتهم , فهل كان الشر الأسود يتملك مني , ويجعلني أريد إذاء الآخرين وتعذيبهم ـ بل وتحطيمهم ؟ "
أمسكتها من كتفها وهززتها , قائلاً : " جوانا ! " فتنهدت وارتغشت ثم ابتسمت لي قائلة : " لقد أخفتك يا جيري , أليس كذلك ؟ ولكن يراودني شعور بأن هذه هي الطريقة الصحيحة لحل هذا اللغز . حيث تتقمص دور الشخص المعني كي تعرف أحاسيسه ومشاعره وما الذي يجعله يتصرف على هذا النحو , وعندئذٍ ـ وعندئذٍ ربما تعرف تصرفه التالي . "
قلت : " أوه , اللعنة ! وأنا الذي جئت إلى هنا لكي أقلد مملكة الخضراوات وأهتم بالفضائح المحلية التافهة . فضائح محلية تافهة ! قذف , بذاءات , كلام فاحش وجرائم قتل ! "