المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقدمة في نشوء الحضارة السورية- دكتور بشار خليف


ابو احمد
03-07-2010, 12:32 AM
مقدمة في نشوء الحضارة السورية
khleif@yeayea.com
د.بشارخليف


إذا كان الوجود البشري في سورية يعود بحسب التنقيبات الأثرية الىمليون سنة خلت، فإن الحضارة السورية تعود في بداءتها الى هذا التاريخ تماما" .
فعلى قاعدة أن الأداة الأولى التي صنعها الإنسان القديم تعبرّ عن بدء الحضارةالإنسانية، فإن هذا ينسحب على الإنسان القديم لذي جاء الى سورية من أفريقيا، حاملا" حضارته و ثقافته، التي تنتمي الى الإنسان الصانع أولا". ثم اعتبارا" من 1,5 مليونسنة سوف تنتمي الى حضارة و ثقافة الإنسان المنتصب، الذي خلف الإنسان الصانع و جاءالى بلاد الشام من أفريقيا، ليبدأ بتأسيس ثقافته و حضارته التي سوف تنطلق من مليونسنة،1 و تتواصل تباعا" حتى العصر الحالي . و ما نعنيه هنا في مجال الثقافة سوف يتبعالمساق الأنثروبولوجي لأن الإنسان الأول في سورية لم يترك سوى أدواته و آثارهالعمرانية و ما الى هنالك في غياب لغة مدونة أو وثيقة مكتوبة .
و لسوف ننتظرمتابعة مسيرة الإنسان في سورية على مدى مليون عام إلا ثلاثة آلاف سنة حتى نصل الىبدايات عصر الكتابة. مما يعطي انطباعا" على أن الكتابة و اختراعها جاءت بزمن حديثنسبيا" حسب تأريخ وجود الانسان في المشرق العربي .
و على هذا سوف نتابع خطالتطور الثقافي / بالمعنى الأنثروبولوجي /، عند الإنسان السوري القديم وفق مناحيحياته كافة، تبدأ من نمط الحياة و العيش ،مرورا" باختراعاته البدئية،2 من أدوات وأبنية وصولا" الى طقوسه و شعائره و نمط حياته و تفكيره، في نظره الى الحياة وتفاعله مع البيئة الطبيعية و مجاله الحيوي الطبيعي .
ووفق هذا المنحى لابد أننجري مقاربة، بين تطور بنيته الدماغية و تطور سلوكه تبعا" لذلك . فبالإضافة الى وعيمسألة عامل البيئة والمجال الحيوي الطبيعي ، الذي قدم للمجتمعات الأولى الإمكانات والمحرضات، التي ساهمت في تطور البنية الدماغية لديه، ما انعكس بالتالي على تفاعلهالإيجابي مع البيئة، فاستطاع الانسان آنذاك استغلال الطبيعة لصالح تطوير حياته وأنظمته الاقتصادية – الاجتماعية، و أدى هذا الى تطور في حياته الروحية والذهنية .3
لهذا سوف نجد أنفسنا محكومين بأن نناقش تطور الثقافة في سورية منذ البدءوفق أنساق ثلاثة :
1- نسق الجسم .في بعده الحركي –النفسي .
2- نسق الدماغ – العقل .التطور والاستجابة .
3- نسق البيئة و المحيط الحيوي . المحرضوالإمكانات .
و لعل التفاعل بين هذه الأنساق الثلاثة هو الذي أدى في النهاية،الى تبلور الشخصية المشرقية العربية ضمن المنظور الاجتماعي التاريخي . زاد عليهأيضا،" نسق التفاعل مع البيئات الاجتماعية الأخرى، و الذي أخصب تلك الشخصيةالمشرقية، بما أدى الى النظر نحو منطقة المشرق العربي على أنها منطقة الثوراتالحضارية الإنسانية الكبرى .
عنيت بهذا ثورة الزراعة و تدجين الحيوان - التجارة– ثورة إنشاء المدن الأولى – ثورة اختراع الكتابة ، والثورة الروحية التيتجلت في نشوء المعتقدات الأولى، و التي جاءت كأرضية لما سيأتي بعدها من أفكار وفلسفات و رسالات .

نشوء الثقافة و الحضارة في سورية :
لنعطي تحديدا" وتعريفا" للثقافة /الحضارة، فهي مجمل المعارف و العقائد و الفنون و الأخلاق والأعراف و القوانين ، و كل مهارة أو عادة اكتسبها الانسان بوصفه عضوا" في مجتمع ما، نتيجة تفاعله مع البيئة الطبيعية و مجاله الحيوي الطبيعي .
و إذا شئنا تحديدتعريف للثقافة المجتمعية لقلنا : أنها تفاعل مجتمع ما مع بيئته الطبيعية و مجالهالحيوي الطبيعي، بما يؤدي الى نشوء خصوصية ثقافية- حضارية لهذا المجتمع، تميزه عنثقافات المجتمعات الأخرى . ومن هنا تنبع نسبية القيم و المعايير و الرموز بينالمجتمعات الإنسانية .
و طالما أننا حددنا ظهور الإنسان في سورية نحو مليون سنةفإننا سننطلق اعتبارا" من هذا التاريخ في رصد لتطورات الحضارة المشرقيةالعربية.
فمن موقع ست مرخو في اللاذقية، جاء أول كشف عن وجود إنساني في سوريةحيث عثر على أدوات ذلك الانسان الحجرية، التي صنعها و استخدمها في تفاعله مع البيئةو صراعه معها، حيث تم العثور على فؤوس و معاول و قواطع و سواطير و شظايا و نوى ،كما قدم موقع خطاب في حوض العاصي معطيات أثرية كانت عبارة عن أدوات حجرية صغيرة ،ثم و في فلسطين سوف يظهر موقع العبيدية، أدواتا" أكثر تطورا" و تقنية من أدوات ستمرخو ، ذلك أن هذا الموقع / العبيدية / يعود الى حوالي 700,000 سنة .
و إذا كانموقع ست مرخو قد قدم الدليل الأول على وجود أول إنسان في بلاد الشام و المشرقالعربي القديم، فإن موقع العبيدية قدم آثارا" إنسانية للإنسان المنتصب كانت عبارةعن أجزاء من جمجمة و أسنان .4
و عليه فلابد أن نتتبع الخطوط الأساسية لعواملنشوء الحضارة في المشرق العربي القديم ، عنيت بذلك الدماغ بوصفه المحرك الأولللنشاط الحسي – الحركي عند الانسان، و البيئة والوسط الطبيعي المحيط، بما تقدمهللإنسان من إمكانات و محرضات .

البنية الدماغية و النشاط العقلي عند الانسانالمنتصب في سورية :
حين جاء الانسان المنتصب الى سورية ،كان يمتلك بواكيرحضارية تجلت في مقدرته على صنع الأدوات الحجرية، بالإضافة الى امتلاكه للغةابتدائية. و يعتقد أن عوامل بيئية قد دفعته للمجيء الى بلاد الشام قادما" منأفريقيا في حدود المليون سنة ./ و لعلنا أيضا" امام ميل للاعتقاد بوجود فضول لديهدفعه للانتقال للبحث عن شروط مناخية – بيئية أكثر دفعا" للتحضر و التطور /.
والمعلوم أن الانسان المنتصب تحدّر عن سلفه الانسان الصانع ، هذا الانسان الذي بلغحجم دماغه 500 – 800 سم3 و يعتبره علماء الحياة أول إنسان حقيقي صنع أدواته ، و لميعثر الى الآن على دلائل أثرية توحي بوجوده في بلاد الشام، غير أن خلفه الانسانالمنتصب جاء الى بلاد الشام، و كان أكثر تطورا"في بنيته الدماغية عن سلفه . فقد بلغحجم دماغه 750 –1250 سم3 و يعتقد الدكتور كارل ساغان أن حجم جمجمة هذا الانسانتوافق حجم جمجمة الانسان الحديث5 . و هذا سوف يؤدي الى تطور في مناحي حياتهالمختلفة تبعا" لتطور ا لبنية الدماغية، و تبعا" لمحرضات البيئة و استجابة الدماغلها، ما يشكل دفعا" للتطور الحضاري للإنسان . و على هذا يقول ساغان :
" إن تطورالثقافة الإنسانية و تطور تلك السمات الفيزيولوجية التي نعتبرها خاصة بالإنسان،سارا غالبا" جنبا" الى جنب، فكلما تطورت استعداداتنا للسير السريع و الاتصال والبراعة في استخدام الأيدي، كلما ازداد احتمال تطوير الأدوات الفعالة و استراتيجياتالصيد و ازداد احتمال استمرارية المواهب الموروثة " .6
و لعل الإضاءة على عالمالدماغ و البنية الدماغية سوف توضح انعكاس تطوره على مجريات الثقافة الإنسانية فيسورية .
في الدماغ و البنية الدماغية :
يتميز الدماغ عبر ثلاثةمراكز هي :
1- المخيخ : الذي يشكل مركز تنسيق الحركات و توافقها، و يعتبر الناظمالأساسي للحركات الإرادية .
2- جذع المخ : وهو مركز الوظائف اللاإراديةالضرورية للحياة ،كالتنفس و ضربات القلب و الدورة الدموية و ضغط الدم . و يملك هذاالجذع اتصالا"بالجهاز الطرفي ( الحوفي ) للدماغ الذي يختص بالانفعالات و إثارةالانتباه. و هذا الجهاز ساهم في تطور الثقافة البشرية .
3- المخ الجديد : ويشمل نصفي كرة المخ اللذين يتكونان من مادة رمادية قريبة من السطح تعرف بالقشرةالدماغية، التي تستقر فيها الخلايا العصبية المتحكمة بالملكات العقلية العلياكالذكاء. و يعزى الى نموها في الانسان تميّزه عن ما دونه من الكائنات، فضلا" علىاعتبار الحضارة الإنسانية نتاج مباشر لعمل القشرة الدماغية .
4- نصف المخالأيمن : يعنى بوظائف الانفعال و الحدس و الإبداع و استخدام الخيال، لهذا يطلق عليهاسم ( النصف الحدسي ). و يعتبر هذا النصف نصفا" صامتا" في أغلب الأوقات، و زيادةفاعليته تؤدي الى نشاط و فاعلية ذات منحى فني و حس إبداعي .
5- نصف المخ الأيسر : و هو النصف التحليلي و العقلي بامتياز حيث يتولى إدارة و تحريك الأعضاء اليمنى فيالجسم، و يضبط مركز الكلام و بعض جوانب التفكير النقدي التحليلي . و يعتبر هذاالنصف أكثر نشاطا" من النصف الأيمن لدى معظم البشر .
و تتحدث الدراساتالبيولوجية عن أن وظيفة المخ المثلى، تتحقق حين يكون أحد نصفيه نشيطا" و الآخرصامتا" أو متوقفا"بشكل مؤقت عن العمل. بالإضافة الى أن أغلب النشاطات الخلاقةالمهمة للحضارة الإنسانية، سواء في الأنظمة القانونية و الأخلاقية و في الفن والموسيقى و العلم و التكنولوجيا، لم يتم تحقيقها إلا بالعمل المشترك و المتناسق والمتعاون لنصفي كرة المخ .
6- القشرة الدماغية :
تشكل حوالي 85 %من الدماغعند الانسان ، و تتمحور وظيفتها الأساسية في الادراك، و تشمل نصفي كرة المخ ، تتوضعفيها معظم الوظائف المعرفية الخاصة بالإنسان . و تتألف هذه القشرة من أربعة فصوص :
1- الفص الجبهي : الذي يملك وظيفة لتفكير بالعمل و تنظيمه و يساهم في التوقعالحركي – الحسي معا" . و يؤثر في العلاقة بين الرؤية ووضعية وقوف الانسان على قدميه . و في الجزء الأيسر منه تتوضع منطقة / بروكا / المسؤولة عن توليد و استخدام اللغة .
2- الفص الجداري : له علاقة بالإدراك المكاني و تبادل المعلومات بين الدماغ وبقة الجسم .و يبدو أنه أسهم في كل ما يتعلق باللغة الرمزية البشرية .
3- الفصالصدغي : له علاقة بمختلف مهام الإدراك المعقدة .
4- الفص القذالي : له علاقةبالرؤية التي تشكل الحاسة المسيطرة عند البشر .
و الجدير ذكره هنا، أن القراءة والكتابة و الرياضيات تقتضي نشاطات متناسقة لكل من الفص الجبهي و الصدغي و الجداري وربما القذالي ، و هذا لم يتحقق في المشرق القديم إلا في حوالي نهاية الألف الرابعقبل الميلاد، و بداية الألف الثالث ق.م. بمعنى أن هذه النشاطات المتناسقة أخذتوقتا" طويلا" حتى أدت الى غايتها في إبداع الكتابة و الرياضيات .
أما بالنسبةللقسم الطرفي أو الحوفي من الدماغ فله تأثير على عواطف الفرح و التدين و الغيرية . و على العواطف الإنسانية بشكل عام .7
بناء" على كل هذا يمكننا تتبع تطور الثقافةالإنسانية في سورية، وفق معيار التطور المتبدي في بنية الدماغ ،و الذي حصل تبعا" لاشراطات ذاتية في المنظومة الدماغية، و تبعا" لقواعد المحرض و الاستجابة ، المحرضالبيئي و المحيطي و الاستجابة الدماغية- الفيزيولوجية له، ما سوف يؤدي الى تطورمناحي الحياة و الثقافة الإنسانية مع التذكير بأن المنعطف الكبير في تطور الدماغموجود في القشرة الدماغية = الإدراك .
ويشير ساغان الى أن كلا أسلوبي حياة الصيدوالالتقاط ،التي مارسها الانسان ،قبل اختراع الزراعة والحضارة التكنولوجية ، هما مننتاج القشرة الدماغية .8
وعلى ذلك ،فصفاتنا الحالية كبشر ،تجمع صفات عديدة من كلالعصور .وان تزايد حجم الدماغ ، وتعقد النظام العصبي المركزي ، وتطور الرؤيةالمجسمة ،تعود في أصلها الى ملايين السنين في تطور الرئيسيات التي نحن جزء منها .9
ويطابق كارل غوستاف يونغ ،في رأيه ، ما توصل ساغان إليه ، ويشير الى الرابطالنفسي العميق ، بين الانسان القديم والإنسان الحديث بقوله : كل إنسان متمدن ، مهمابلغت درجة وعي نموه ، لم يزل إنسانا" قديما" في الطبقات السفلى من كيانه النفسي ،وكما أن الجسم البشري يوصلنا بالثدييات ، وكشف لنا عن بقايا كثيرة من مراحل تطورأولية ترجع الى عصر الزواحف ، فكذلك النفس البشرية نتاج تطور إن تتبعنا أصوله ،تكشّف لنا عن عدد لاحصر له من السمات القديمة 10.
وطالما تحدثنا عن البنيةالدماغية ، فلا بد أن نعرج على العلاقة التبادلية والتفاعلية ، بين البيئة والدماغبمعنى العلاقة بين المحرض والاستجابة ، والتي دفعت الحياة الإنسانية الى أفاقتطورية مهمة ،إن في بنية الدماغ ،وتطورها وتعقدها ، أو لجهة تطور الحياة الثقافيةللإنسان بما تشمله من أبعاد اقتصادية – اجتماعية – روحية .أدت الى منعطفات كبرى فيمساق الحضارة الإنسانية .
البيئة والدماغ ، علاقة تبادلية =تفاعلية :
أثبتتالتجارب العلمية أنه بقدر ما تقدم البيئة الطبيعية والمجال الحيوي الطبيعي من غنىوتنوع ، يقدر ما يؤدي هذا الى استجابة دماغية تتبدى في زيادة وزن الدماغ وثخانةالقشرة الدماغية ، بما يؤدي لاحقا" الى استثمار هذا التطور في استغلال موارد البيئةواستيعاب حركتها ، والسيطرة على عمائها ، فقد أجرى الباحث الأميركي مارك روزنويغ منجامعة كاليفورنيا ، تجارب على فئران المختبر ،وكانت غايته تحديد دور البيئة في تطورالبنية الدماغية ، فجاء بفريقين من الفئران ، الأول ،تم وضعه في بيئة نشيطة وحيويةوغنية ، بينما وضع الفريق الثاني في بيئة محدودة الموارد وفقيرة ورتيبة ،مملة .
وتوصل في النتيجة ،الى أن الفريق الأول أبان عن زيادة مذهلة في وزن وثخانةالقشرة الدماغية بالإضافة الى تغيرات في كيمياء الدماغ ، وبالتالي في حيويةالعمليات الدماغية ، دل على ذلك تطور اتصالات عصبية جديدة في القشرة الدماغية .11
ويشير أيان ايلينيك في كتابه (( الفن عند الانسان البدائي )) ، الى أنالتطور الثقافي والبيولوجي مرتبطان ببعضهما البعض ،وبشكل وثيق ، ولايمكن النظرإليهما بشكل معزول كل عن الآخر .
فمنذ ظهورها كانت الثقافة واحدة من أهم عواملالتطور البيولوجي ، مبدية تأثيرا" قويا" عليه ، وبنفس الوقت استوعبت تأثيره عليها .12
وعلى هذا يمكننا الآن أن نقارب تجربة الانسان المنتصب في سورية ، منذ وجودهعلى أرض سورية ،لجهة إنشاء ثقافته وحضارته والتي سوف تؤدي لاحقا" وبنهج تراكميونوعي ، الى حدوث منعطفات حضارية كبرى ، سوف تشمل الحضارة البشرية كلها .



ثقافة الانسان المنتصب في سورية:1000000-100000 سنة:
قلنا إنالانسان المنتصب حين جاء الى سورية / بلاد الشام ، كان قد حقق تطورا" في بنيتهالدماغية حيث استطاع صنع أدواته بتقنية أكثر تطورا" عن سلفه الانسان الصانع فيأفريقيا . و لكن الآن و تبعا" لتفاعله مع البيئة في بلاد الشام، فلا بد أن تتطورلديه ملكات و تقنيات جديدة سوف نحددها، و التي تدل على أن ثمة تطورا" يحدث في قشرتهالدماغية و نصف المخ الأيسر على وجه التحديد .
فمن ناحية اللغة، يبدو أن مجتمعاتالانسان المنتصب كانت تستخدم لغة في حدود متناسبة مع تطور منطقة بروكا في الفصالجبهي ، المسؤولة عن توليد و استخدام النطق /، و تطور منطقة ويرنيك التي تعنى بفهماللغة المنطوقة .
يقول د. سلطان محيسن :
" إن لغة الانسان المنتصب ليستمعروفة و لكننا نخمن وجود تقارب شديد بين لغات أو لهجات سكان بلاد الشام آنذاكلأنهم لم يكونوا معزولين عن بعضهم البعض بشكل كامل و إنما قامت بينهم صلات و علاقاتحضارية متنوعة " .13
و من ناحية تطور أساليب عيشه، فالأكيد إن تقنيات الصيد لديهتطورت عما كانت عند سلفه الصانع. و ذلك نتيجة تطور تقنيات صنع الأدوات الحجريةشكلا" و جدوى، بما يلائم عالم الصيد و التقاط ا لبذور، و قد استطاع هذا الانسانأن يستخدم النار و يطورها لجهة الاستخدام /وهذا اقترن بما قدمته البيئة من محرض ،عبر الحرائق (كالصواعق مثلا" ) ،ومن ثم وبعد وعيه لوجود النار ، وعبر إيجادهابواسطة الاحتكاك بين قطعتي صوان، وهذا لم يكن ليتحقق إلا عبر الفص الصدغي ، الذييعنى بمهام الإدراك المعقدة /. و تبين الدلائل الأثرية أنه بنى أكواخا" بسيطة للسكن .
و لابأس من استعراض لأهم مواقع مجتمعات الانسان المنتصب في سورية / بلاد الشام /:
1- موقع ست مرخو ، الذي يقع في حوض نهر الكبير الشمالي .حيث قدم هذا الموقعأقدم دليل على وجود إنساني في بلاد الشام يرقى الى مليون سنة . و كان الدليل عبرالأدوات التي خلفها هذا الانسان حيث عثر على فؤوس و معاول و سواطير و شظايا و نوى وقواطع، استخدمها و صنعها هذا الانسان لغاية حياة الصيد و التقاط بذورالنبات.
2- موقع العبيدية – في فلسطين و يؤرخ بحدود 700,000 سنة حيث عثر علىأدوات حجرية كانت أكثر تطورا" و تقنية من أدوات ست مرخو تبعا" للزمن .
3- موقعاللطامنة : يؤرخ بحدود نصف مليون سنة، و قد كشف هذا الموقع عن تطورات هامة في طرقتصنيع الأدوات الحجرية. فقد ظهرت طرق جديدة في صنع الحجر و تنوع شكل الفؤوس و أصبحتأكثر تطورا" .
و قد قدم هذا الموقع أول دليل عمراني يعثر عليه خارج أفريقيا، حيثعثر على معسكر سكني كشف عنه سليما" رغم مرور نصف مليون سنة عليه .
و قد أبانهذا المعسكر وجود أرضيات سكن أصيلة ، و حوى على أدوات حجرية بالآلاف كالفؤوساليدوية و المعاول و المقاصف و السواطير . و قد قدم هذا الموقع أولى الدلائل علىاستخدام النار ( اختراعها ) .
الجدير ذكره هنا هو أن الأكواخ كانت مصنوعة منجلود الحيوانات و الأغصان و الأعشاب، و قد سندت بالحجارة .
اصطادت مجتمعاتالانسان المنتصب في بلاد الشام، الفيلة و الأحصنة و الغزلان و الوعول و فرس النهر والتقطت ثمار الزعرور و البطم و اللوز و غيرها .14
إن استعراض فاعليات هذهالمجتمعات للإنسان المنتصب في بلاد الشام تعطينا حقائق عدة أهمها :
- حصول تطورمطرد في البنية الدماغية/القشرة الدماغية،وتطور الاتصالات العصبية / ساهم في تطورتقنيات الصيد و الالتقاط، ما انعكس على حياة هذه المجتمعات لجهة استثمار أوضحللبيئة و تحسين ظروف الحياة و العيش .
- مع مرور الزمن و بين موقع متأخر و آخرمتقدم، نلاحظ زيادة في عدد سكان الموقع الأحدث. ما يشي بعوامل استقرار نسبي أحست بهتلك المجتمعات .
- التآلف الأكثر تبعا" للزمن مع الطبيعة. دل على ذلك إنشاءمعسكرات سكنية في مواسم الصيد و الالتقاط، ما يدل على عدم اتكالهم الكلي على الكهوفو المغاور، و تصالحهم النسبي مع البيئة لجهة الأمان و إنشائهم للأكواخ البسيطة .
- شكّل اختراع النار و من ثم استخدامها، نقطة انعطاف حضارية، ساهمت في تطورالنظام الغذائي و تنوعه، و كذلك في الإسهام بالإحساس بالأمان عبر طرد الحيواناتالمفترسة بالنار المشتعلة .
و نتيجة لكل هذا، سوف نلاحظ انه و باطراد مع الزمن،ستحقق هذه المجتمعات "المنتصبة" منجزات تفيدها في طرق عيشها و في استثمار أوسع وأكثر تنوعا" للطبيعة .و من ثم سوف يؤدي كل هذا الى إحساس بأمان و استقرار نسبي،سنلحظه أكثر في الفترة الممتدة بين 250,000 – 100,000 سنة لمجتمعات الانسان المنتصبفي بلاد الشام. فنتيجة لكل ما سبق ازداد عدد سكان بلاد الشام، لا بل و بدأوا بسبرأغوار المحيط فانتشروا الى مناطق البادية و الفرات، و الى الشرق من نهر الأردن والبحر الميت في فلسطين/وهذا يعني أن ثمة تطور حصل في الفص الجداري الذي يعنىبالإدراك المكاني / .
و نتيجة للتنوع و الغنى البيئي كعامل تحريضي أدى الىتطورات في القشرة الدماغية ، سوف نلاحظ في مواقع هذه الفترة، تطور تقنيات تصنيعالأدوات الحجرية، و ظهور أنواع جديدة أكثر استجابة لدواعي الصيد و الالتقاط، و أكثرجدوى، حيث نلاحظ نشوء تصنيع الفؤوس بالطرق. و استطاع الانسان استخدام المطارقالخشبية أو العظمية في صنعها، و هذا ما انعكس جماليا" على شكل الفؤوس و انتظامها ومواءمتها و ملاءمتها للاستعمال .
و في هذه الفترة ظهر تقليد حضاري واحد شمل أغلبمواقع بلاد الشام، تجلى في ظهور نوع من الفؤوس على شكل لوزة أو قلب، ما يعطيانطباعا" بالتفاعل الاجتماعي بين مواقع بلاد الشام المختلفة آنذاك .
و استخدمتالنار بشكل أفضل و تطورت تقنية بناء المساكن .
و من أهم مواقع هذه الفترة موقعالقرماشي الذي يقع في حوض نهر العاصي الأوسط، و الذي يرقى الى حدود 200,000 سنة . وقد بنى سكان هذا الموقع كوخا" بسيطا" أحيط بالحجارة .
و يلاحظ أن الانسان كيّفمغاوره مع حاجات السكن الطويل، و حفرت المواقد من أجل استخدام أفضل للنار .
وثمة مواقع أخرى، ففي طرطوس هناك موقع أرض حمد و في فلسطين مغارة الطابون و هولون ومعان و باروخ .
و في الأردن موقع عين الأسد وموقع منطقة الأزرق و في لبنان موقعرأس بيروت .15
و في أواخر وجود الانسان المنتصب/ الذي آل، إما الى التطور نحوإنسان النياندرتال أو نحو الانسان العاقل/، مرّ مجتمع الانسان المنتصب بفترةانتقالية أرخت بين 150,000 – 80,000 سنة . و هذه الفترة شهدت تغيرات حضارية هامة وربما عرقية شملت بلاد الشام كافة .
و يبدو أن تأثير البيئة توضح من خلال ازدياداعتماد المجتمعات على الخشب و عظام الحيوانات في صنع الأدوات و شاع استخدام جلودالحيوانات في صنع الملابس و في فرش البيوت .
و أمام العثور على أدوات مصنعة وقد امتلكت قيما" جمالية، و حسا" فنيا" عاليا"، ما يدل على نشوء الفن ببواكيرهالأولى ، فإننا نشير الى تطور في نصف المخ الأيمن / النصف الحدسي /، بالإضافة الىتطور اللغة المستخدمة بسبب تطور منطقة بروكا الخاصة بالنطق. كما أن ظهور ميل لدىسكان هذه الفترة للارتباط بالأرض نتيجة العثور على تراكم المعطيات الأثرية في نفسالموقع فوق بعضها البعض بعشرات الأمتار ، يدل على تطور حاصل في بنية الفص الجداريفي القشرة الدماغية كما بينا سابقا" .
و تبعا" لكل هذا فإن ازدياد السكانعدديا،" أمر طبيعي. بالإضافة الى زيادة فاعلية الصيد و جدواه نتيجة لظهور بواكيرصناعة الحراب في هذه الفترة في بلاد الشام .
وقد اصطادت مجتمعات هذه الفترةالحصان البري ووحيد القرن و الدب و الوعل و الغزال.
و من أهم مواقع هذه الفترة :
يبرود و بئر الهمل في سورية – عدلون في لبنان – مغارة الطابون في فلسطين .
الجدير ذكره هنا هو أنه في موقع يبرود / الملجأ الرابع / عثر على طبعة قدمإنسان هذه الفترة / ما قبل النياندرتال / .16
ثقافة مجتمعات إنسان النياندرتالفي المشرق العربي القديم 100,000-40,000 سنة :
أول ميزة تميزت بها مجتمعاتالنياندرتال في المشرق العربي القديم أنها امتلكت خصوصية و أصالة تميزت بهما عنالثقافات النياندرتالية في أفريقيا و أوروبا .
و تبعا" لمبدأ التحريض / البيئي /، و الاستجابة / الدماغية /، أصبحنا أمام تطور في حجم الدماغ لدى إنسانالنياندرتال فقد أصبح حجمه وسطيا" 1500 سم3 .
و يبدو عند استعراض حياةالنياندرتال، و لاسيما حياته الروحية، أننا واقعون على تطور جوهري طرأ على قشرتهالدماغية، تمثّل في تطور الفصوص ما قبل الجبهية،وتطور القسم الطرفي أو الحوفي، والذي جعل هذا الإنسان يدرك ظاهرة الموت لأول مرة في التاريخ الإنساني . فمقابلالإهمال الذي عاناه موتى الانسان المنتصب، حيث كانوا يتركون في أماكن العراء، لجأإنسان النياندرتال الى العناية بموتاه و دفنهم وفق شعائر و طقوس معينة، و هذا ماقدمته مواقع عديدة في المشرق العربي .
بالإضافة الى هذا يبدو أن تطورا" طرأ علىالقسم الحوفي / الطرفي / للدماغ ، أدى الى وجود حالات اعتبارية عاطفية تجاه الدب والغزال عند إنسان النياندرتال .
و بشكل عام نحن عند النياندرتال أمام تطوراتهامة على صعيد القشرة الدماغية . و قد بقي هذا الإنسان لاقطا" و صيادا"، و لكنبمهارة أكثر و بتصنيع للأدوات أكثر تناسقا" و تطورا" و جمالا" ، و جدوى و تطوراستخدام النار لديه و تنوع، و كذلك تصنيع و استخدام الأسلحة و الملابس .
و تبعا" لاحتياجاته المتطورة و التقدم في تقنيات صناعة الأدوات، نجد هنا اختفاء الفؤوس وحلول المقاحف مكانها. و كان التفاعل الاجتماعي أوثق بين المجتمعات النياندرتالية فيالمشرق العربي القديم . و قد أنشأت هذه المجتمعات معسكرات سكنية مؤقتة لغايات مواسمالصيد و الالتقاط .
و يبدو أن تطورا" مستمرا" كان يجري على بنية نصف المخ الأيمندل على ذلك احتواء بعض الأدوات على حزوز زخرفية ما يشي بتطور فني باكر .
و نتيجةلتمرس النياندرتال في حياة الصيد و الالتقاط، و إحساسه باستيعاب بيئته ،و إحساسهبالأمان دفعه الى تنظيم مجتمعه اقتصاديا" و اجتماعيا"، وفق ظهور بواكير مفهومالسلطة، عبر زعيمأو مجموعة تنظم علاقات المجتمع النياندرتالي./ ويبدو أن هذا الأمركان انعكاسا" لتطور حاصل في الفص الجبهي الذي يعنى بوظيفة التفكير بالعمل وتنظيمه ،كما أسلفنا . و يشير د. محيسن الى أن الحياة الروحية عند هذا الإنسان تفوق فيمستواها حياته الاقتصادية .17
و من أهم المواقع النياندرتالية في المشرق العربي :
- موقع الديدرية قرب حلب : و يعتبر أقدم موقع نياندرتالي في المشرق العربيحيث عثر في مغارته على هيكلين عظميين الأول لطفل في السنتين من العمر ،دفن وفقشعائر و طقوس معينة و يعود هذا الموقع الى حوالي 100,000 سنة .والثاني لطفل آخرويرقى لحوالي 80000 سنة .
- موقع كهف الدوارة و جرف العجلة و أم التلال و أمقبية و بئر الهمل و مغاور جبل سمعان .
آما في فلسطين فهناك مغارة الطابون والعامود و السخول و جبل قفزة . و في لبنان مغارة العصفورية . و في العراق كهفشانيدرا، الذي أبان عن طقس رمزي شعائري رقيق، لرجل مقعد و مريض عمره حوالي 40عاما"، و يؤرخ هذا الموقع بحدود 60000 سنة و تبين أن الورود نثرت حول جثته .
ودرج في عصر النياندرتال تصنيع المغرة الحمراء التي وضعت في بعض القبور و لاسيماقبور الحيوانات ( الغزال – الدب )، و لعل ذكر تقنية صنع هذه المادة تجعلنا ندركمبلغ التطور الذي وصله دماغ إنسان النياندرتال ولاسيما في نصف المخ الأيسر (الفصالصدغي ).
فقد كانت المغرة الحمراء تصنع من مزيج أحجار حديدية / هيماتيت – الليمونيت / و شحم و دم و نباتات و عصير فواكه و ماء .. الخ .
إن هذه البنيةالتركيبية تدل على وجود تطور هام في القشرة الدماغية، و لاسيما الفص الصدغيبالإضافة الى زيادة في استيعاب إمكانات البيئة الطبيعية، و تسخيرها لخدمة الانسانآنذاك. و تشير الدراسات الحديثة الى تعاصر بين النياندرتال المشرقي مع الانسانالعاقل ( الذي يليه ) حيث أنه و بحسب الدراسات السابقة كان يشار الى تطور الانسانالعاقل عن سلفه النياندرتال في بلاد الشام و لاسيما فلسطين. و لكن ثمة معطياتآثارية جديدة تشير الى العثور على هياكل الانسان العاقل في موقع جبل قفزة في فلسطينتعود الى حوالي 100,000 سنة كما أنه تم العثور على هياكل للنيندرتال تعود الى 60,000 سنة في مغارة الكبارا في فلسطين .18
إن هذا يفتح آفاقا" جديدة للبحث والتقصي في محاولات فهم علاقة الانسان العاقل بسلفه النياندرتال أو أن ثمة علاقة بينالانسان المنتصب و الانسان العاقل بشكل مباشر .
ثقافة مجتمعات الانسان العاقل فيالمشرق العربي القديم 35,000 – 12,000 سنة :
يقول كارل ساغان : إن البشر كلهم همأعضاء في نوع واحد هو الانسان العاقل ،فهو جدنا المباشر و هو بما يحمل من تراكم فيالمنجز الثقافي – الحضاري، بالإضافة الى تطور حجم دماغه الى 1100 – 2200 سم3، يعتبرالصانع الأساسي للحضارة البشرية، و ما زال الى الآن على الأرض .
ووفق بنيتهالدماغية المتطورة، يستخدم هذا الإنسان الأدوات الحجرية و الخشبية و العظمية والمعدنية و الكيميائية و الإلكترونية و النووية و التكنولوجية . و يقول د. محيسن : لقد أحدث ظهور الانسان العاقل، انعطافا" في مسيرة التطور البيولوجي و الحضاريللبشرية، و هو يمتلك كل الصفات الفيزيولوجية و الاجتماعية التي نملكها نحن .19
والذي يبدو أن ثمة أمر جعل الانسان العاقل يتجه من بلاد الشام الى أوروبة ،بعضهم يعزوها لأسباب بيئية/ البرد الشديد / أو غير ذلك . حيث أسس هناك حضارة مزدهرةونشيطة، و هذا لا يعني أن حضارة الانسان العاقل قد توقفت في بلاد الشام، و لكنمواقعه في أوروبة جاءت أكثر غنى" و تنوعا" و إبداعا"، ربما بسبب تقديم البيئةلعوامل التحريض بالإضافة الى التطور الذاتي و التحريضي الذي حصل في البنية الدماغيةلديه .
و يلاحظ في المجتمعات العاقلة في بلاد الشام، أنها ابتكرت القوس لغايةقذف الحراب عبره، و هذا يدل على انعكاس تطور الدماغ لديه على مهارات جديدة، منهاأيضا" صنع أدواته من قرون الحيوانات . أما لجهة العمران فنلاحظ تطورا" في إنشاءالمساكن الكبيرة البيضوية و الدائرية، حيث رصفت أرضياتها بالحجارة . كما تدلالمعطيات الأثرية على نشوء التقسيم المعماري الداخلي للمساكن حيث بتنا أمام غرفللنوم، و أيضا" غرف كمشاغل /ما يشي بتطور في الفص الجداري /. و زودت البيوتبالمواقد و اتسعت لتشمل أسرا" عديدة . ما يعني تطورا" في البنى الاجتماعية عن سلفهالنياندرتال، ويعبر عن تطور في النظام الاجتماعي الاقتصادي و مفهوم السلطة . كماأصبح الانسان العاقل أكثر عناية بموتاه، فبنى لهم المقابر و طلى جثامينهم بالمغرةالحمراء كرمز للحياة .
و استعمل النار من أجل أن يضيء بها المغاور و الكهوفالعميقة و المعتمة، و صنع السراج و استخدم في إشعاله الشحوم و الدهون الحيوانية وصموغ بعض الأشجار .
و استمرت المجتمعات العاقلة على حياة الصيد و الالتقاط و لكنبأريحية اكثر، و استرخاء أكثر مما قبله و طبعا" بتقنيات متطورة و أكثر حداثة .
وفي مناحي الفنون فقد مارس الانسان العاقل الرسم و النحت و الحفر ، و هذا لم يعثرعليه في مواقع بلاد الشام بل في مغاور فرنسا و تشيكوسلوفاكيا ./ما يدل على عمل نصفالمخ الأيمن ،في الفاعلية الفنية وسواها /.
و تراجع صيد الدببة و الأحصنة لصالحاصطياد الماعز الجبلي بكثرة، كما يلاحظ أن الأسماك و الطيور أخذت مواقعها على موائدالمجتمعات العاقلة .
و عرفت هذه المجتمعات الرقص و الموسيقى / و ربما الغناء !/ فقد عثر على أدوات موسيقية مصنوعة من عظام الحيوانات لاسيما المزامير العظمية ./وهذا حصل نتيجة لتعاون كلا نصفي المخ الأيمن والأيسر /.
و في هذا الاتجاه يقولالباحث لوروا غوران :
" إن فنون الانسان العاقل تدل على وجود نظام ميثولوجياجتماعي معقد، آمنت بها المجتمعات العاقلة و هي تعكس فكرا" منظما" و شاملا" وراسخا"، يحدد موقفهم من القضايا الكبرى التي تمسهم كالحياة و الموت و الجنس والغذاء و الحماية ".20
الجدير ذكره هنا، هو انه تم العثور في أوروبا على تماثيلللأم الكبرى صنعتها المجتمعات العاقلة هناك من العظم و الطين و الحجر ./ويعطي هذاالأمر انطباعا" واضحا"على تطور تبدى في القسم الطرفي من الدماغ ،والمسؤول عنالعوامل الدينية والعاطفية/ .. اما لجهة استخدام اللغة، فالذي يبدو أن الانسانالعاقل بلغ درجة عالية من الرمزية و الغنى ،و على حد قول العالم بيتر فارب : من أنالثقافة مرتبطة ارتباطا" بمقدرة الانسان على استخدام الرموز ، و بخاصة تلك المتعلقةبلغة الكلام و الكتابة 21. و يبدو أن هذا لم يكن ليحصل لولا التطور الذي حصل فيالفص الجداري و من ثم الصدغي و الجبهي . و من أهم مواقع الانسان العاقل في بلادالشام :
في سورية موقع يبرود / الملجأ الثاني / منطقة الكوم و تدمر .
فيفلسطين : مغارة الواد – مغارة الأميرة .
في لبنان : موقع كسار عقيل .
وبالإجمال يعتبر عصر الانسان العاقل عصر الإنجازات الإنسانية الكبرى ،و التي سوفتتطور تبعا" لتطور البنية الدماغية، و لاسيما القشرة الدماغية. ليعود فجر المشرقالعربي القديم لينبعث من جديد في حدود الألف العاشر قبل الميلاد، و لتخطو المجتمعاتالعاقلة بدماغها الجمعي نحو تفجير الثورات الكبرى في تاريخ البشرية ، عنيت الثورةالزراعية و تدجين الحيوان ، ثورة المدن و العمران ، ثورة اختراع الكتابة و ثورةالأبجدية.
التطور الثقافي –الحضاري في المشرق العربي القديم : من 12000 –8000ق.م :
لعلنا نوافق العالم الفرنسي جاك كوفان مقولته ، أن التحولات العقلية داخلالمجتمعات البشرية الزراعية ، هي التي كانت مفتاح كافة التغيرات الاجتماعيةوالاقتصادية ، والتي تعد حضارتنا الحالية هي نتيجتها الأخيرة .22
وقد تبدى ذلكمن خلال المدلولات التي قدمتها بعض المواقع . فالسعي الى الزراعة واستنبات الحبوبلم يكن سببه حرمان غذائي أو حاجة غذائية بقدر ماكان سعيا" عقليا" للكشف والتطويروتحسين شروط الحياة ماديا"وروحيا" . فلم تعد المجتمعات تكتفي بما يقدمه لها الوسطالطبيعي ، بل هاهي تتدخل لتكييف وتعديل المصادر الغذائية عبر تقنيات متطورة علىأنواع زراعية مختلفة ومختارة .
وبمعنى آخر ، أن المجتمعات تحولت من الحالةالسلبية \الاستهلاكية لموارد الطبيعة ،والمنفعلة \ الى الحالة الإيجابية المنتجةوالفاعلة.
وهذا الأمر لم يكن ليتحقق في المستوى الدماغي ،الا عبر التعاونوالتنسيق والتفاعل بين نصفي المخ الأيمن والأيسر من جهة ،وعبر التطور الحاصل فيالفص الصدغي لجهة الادراكات المعقدة من جهة أخرى . وهنا تكمن النواة الحقيقيةللانعطاف الحضاري على صعيد البشرية ، عنيت ابتكار الزراعة .
يقول العالم غولايف : من الواضح أنه بين 12000-10000 وحتى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، جرت فيالشرق القديم أهم العمليات والتغيرات التي أدت في نهاية المطاف الى قيام الاقتصادالزراعي القائم على الزراعة وتربية الماشية ، وكل أنماط الحياة الحضرية في المنطقة . وهذه العمليات تشكل في تاريخ هذه المنطقة عصر انعطاف وفاصلا" نوعيا" مهما" 23.وحول البعد الإنساني لمنجز الزراعة يقول :
إن الزراعة بظهورها، حولت بوضوحأكثر من أي شيء آخر ،ظروف تطور الحضارة البشرية وغيرت بيئة الانسان الطبيعيةوبيولوجيته ، وأدت الى تغيير في كل كوكبنا على نحو معين .24
وعلى هذا يمكننامقاربة مراحل تطور الثقافة \بمعناها الأنثروبولوجي \في المشرق العربي لتبيان نقاطالارتكاز التي أدت الى منعطف الزراعة ،ولعل من أهمها ،المعطيات المناخية .
فكماأسلفنا ، أن الانسان العاقل ولظروف بيئية \مناخية \لم يستطع أن ينشئ حضارة فاعلةومزدهرة في المشرق العربي ،لهذا فقد هاجر الى أوروبا حيث أنشأ هناك حضارة غنيةولافتة .
والذي يبدو أنه مع حوالي 13000 ق.م سوف يحصل ارتفاع حراري في بلادالشام25 ما يدفع المجتمعات العاقلة فيها الى استلام مبادرة الحوار مع الطبيعة ،بعدأن أدى المناخ بحرارته المرتفعة ، الى ظهور غطاء نباتي تجلى في انتشار غابات اللوزوالسنديان والفستق ونباتات القمح والشعير . وفي مجال الثروة الحيوانية، نلاحظتوفرا" كثيفا" للماعز والأغنام والخنزير والرنة والغزال والثور . ولعل هذا المعطىالمناخي الإيجابي هو الذي شكل القاعدة الرئيسة في الانعطاف نحو الزراعة .ويشير د. محيسن الى أن ظهور الزراعة وممارسة تدجين الحيوان ، حصل بشكل أساسي وفي مراحلهالباكرة في المنطقة الممتدة من سيناء وحتى سهول عر بستان ، ومن سفوح جبال طوروسوزاغروس وسهول الجزيرة السورية حتى وادي الأردن .
ومن أهم مواقع هذه الفترة : موقع الكبارا ووادي النطوف ومغارة شقبة في فلسطين .\لهذا يطلق على هذه الفترة تسميةالثقافة النطوفية ،نسبة لموقع وادي النطوفية والتي شكلت الأساس المادي –العقليلنشوء الزراعة في الألف الثامن قبل الميلاد .\وثمة مواقع في الرافدين تمثلت فيشانيدار وزاوي جيمي .ويبدو أنه مع الألف العاشر انتشرت هذه الثقافة من سواحلالمتوسط الجنوبية وحتى كيليكيا في شمال سورية ،مرورا" بالبادية السورية وحوض الكوموالفرات ،وجنوبا" نحو منطقة الأزرق في الأردن .26
وبالعودة الى 12000 ق.م ،نلاحظ زيادة في التجمعات السكانية وانتشارها الى أماكن جديدة .ما يعني حصول تطورفي الفص الجداري لجهة الإدراك المكاني .
وفي مجال العمران ، فقد بنوا القرى نصفالمستقرة ،ولم يغادروا المغاور والكهوف نهائيا" . ما يعني أنهم مازالوا يعيشون علىنمط الصيد والالتقاط ، مع استيعاب أكبر لإمكانات الطبيعة النباتية والحيوانية .
وفي مجال صناعة الأدوات الحجرية ،فقد تطورت في تقنياتها وظهرت أدوات صغيرةجدا" ذات أشكال هندسية .كما لوحظ انهم صنعوا أدوات مركبة، حيث المقبض من العظم أوالخشب والأداة العاملة من الصوان .وهذا يدل على تناسق منظم بين نصف المخ الأيمن \الإبداعي \ونصف المخ الأيسر \التحليلي والعقلي \.
كما أن استيعاب ممكنات البيئة،جعلتهم يصطادون الطيور والأسماك حيث أصبحت مصدرا" غذائيا" لهم . وكل ماذكر يمكنتوثيقه في مواقع يبرود وجيرود والكوم ونهر الحمر وعفرين في سورية ، وفي فلسطينمواقع الخيام ووادي الفلاح . وفي لبنان جعيتا وملجأ برجي ، ومواقع خزانة والبتراءفي الأردن . وفي العراق ، موقع زرزي وشانيدار وزاوي جيمي .
ويلاحظ في مجالالفنون أن أغلب المنحوتات كانت ذات أشكال حيوانية .

وفي الفترة الممتدة بين 10000-8000 ق.م :
استمرت هذه المجتمعات على نمط الحياة نصف المستقرة أونصفالرعوية ،غير أننا أصبحنا أمام ميلها للارتباط بالأرض وبحياة الاستقرار.ويبدو أنهذا انعكاس لتطور مستمر في الفص الجداري في الدماغ .
ويشير برينتس الى أنه فيهذه الفترة، حيث أصبحنا أمام بوادر تقسيم للعمل ، بين حراس الأرض والرعاةوالصيادين ، والرعاة المزارعين والصيادين .ويبدو أنه نتيجة لعوامل الاستقرار \والذيسبق ظهور الزراعة \وإدراك أهمية الحيز أو المكان ،فقد ازدادت أعداد سكان المواقع ،ويضرب الباحث مثلا" حول ذلك ،ففي موقع عينان في فلسطين ،ارتفع عدد سكان الموقع الىحوالي 200 شخصا" بعد أن كان في الفترة السابقة حوالي 60 شخصا" .27
وقد اصطادتمجتمعات هذه الفترة ، البقر والماعز والخنازير والغزلان ، كما أكلوا الطيوروالأسماك .
والتقطوا ثمار البطم واللوز والزعرور وحبوب القمح والشعير البري .
وبإمكاننا تصنيف هذه المجتمعات باعتبارها مجتمعات عبور وانتقال بين ثقافةالصيد والالتقاط ،الى ثقافة الزراعة وتدجين الحيوان .وقد وثقّ موقع الجرف الأحمر فيسورية هذه الفترة ،والذي يؤرخ في حوالي 9250 ق.م .
وهنا نلاحظ أننا أمام تطورمعماري مهم ، تجلى في بداية ظهور الأبنية المستطيلة على أنقاض الأبنية الدائرية ،وهذا ما سوف يؤثر وبعمق في زيادة اللحمة الاجتماعية . فالبيوت المستطيلة تتميزبقدرة الانسان على توسيعها ، في حين أن الأبنية الدائرية لا تتسع لأكثر من شخصين .ولعل توسيع البيت الدائري سوف يؤدي الى ضم عدة عائلات في بيت واحد ، وهنا تكمنأهمية هذا المنجز لجهة التطور الحاصل في البنى الاجتماعية .
وتتبغي الإشارة الىأن هذه الفترة شهدت حصول تجانس حضاري ،امتد من وادي النيل وحتى حوض الفرات .ويشيرهورس وكوبيلاند وأورانش –1973 الى سيادة نوع عرقي واحد يعرف بالعرق المتوسطي القديم .28
والجدير ذكره هنا ، هو أن هذه الفترة تشكل المرحلة الأخيرة من ثقافة الصيدوالالتقاط في المشرق العربي .وما يميزها هو نشوء بوادر اعتقاد بالأجداد\عبادةالأجداد –الارواحية \والتي تميز المجتمع العشائري –القبلي بامتياز .وهذايمنحنادليلا" قويا" على حصول تطور في القسم الحوفي من الدماغ.
ويوصف طقس هذاالاعتقاد ،عبر فصل رأس المتوفى عن جسده ومن ثم دفن الجمجمة منفردة داخل البيتالسكني ، على أن هذا لا يجري إلا لكبير القوم كتعبير عن سلطة رمزية توحد المجتمعحول قيم وتقاليد قبلية تقوم على رابطة الدم .
من مواقع هذه الفترة : وادي النطوففي فلسطين ،عين الملاحة ،وفي سورية ،المريبط وأبو هريرة والجرف الأحمر وبادية الشام .
ابتكار الزراعة :
يقول جاك كوفان :إن البيئة الطبيعية تمتلك مبادرة الحوارمع الانسان ،وهذا يعني أن التحولات الاجتماعية والثقافية يجب أن تنطلق على مستوىماهو فينا ،الأكثر انغماسا" في الطبيعة وحساسية لتحولاتها ، أي ابتداء" من كائنناالبيولوجي .29
وعلى هذا فإننا تجاه ابتكار هذا المنجز واقعون على معطيين ،أدياالدور الهام والأساسي في ظهوره ،عنيت :معطى الدماغ والتطورات الحاصلة فيه ،نتيجةجملة من الاشراطات ، أملتها محرضات البيئة والوسط الطبيعي المحيط ،بالإضافة الىاشراطات تطورية ذاتية في الديناميكية التطورية للدماغ .
أما المعطى الثانيفيتحدد في أن منجز الزراعة ، هو نتاج عملية تراكمية معقدة ،امتدت مساحتها الزمنيةعميقا" في الزمن ،ولاسيما منذ وجود الانسان العاقل . بالإضافة الى الدور الذي لعبتهالمعطيات المناخية بما قدمته من إمكانات بيئية جديدة ، شملت العالم النباتي الطبيعيوالعالم الحيواني .
ولعل ما قدمه منجز الزراعة يعبر وبقوة، عن بدء انفصالالمجتمعات عن الطبيعة لصالح السيطرة عليها ،بعد أن تم فهم حركتها وإيقاعها ، كذلكسوف يؤدي ذلك الى تطور مهم في إدراك أهمية المكان،مايشي ببوادر نشوء لمفهومالملكية بمعناه الحقيقي .ثم في انبثاق أقوى لمفهوم السلطة الناظمة لفاعليات المجتمعوحركته ، ولاسيما مع نشوء الزراعات المروية التي تتطلب جر الماء عبر السواقي أوالأقنية ،وما يتطلب ذلك من ضرورة وجود سلطة اجتماعية قادرة .
وتذكر الأبحاث أنالنواة الحضارية الأولى لنشوء الزراعة ،كانت في المشرق العربي ، وتحديدا" فيالمنطقة الممتدة من منطقة الفرات الأوسط ،مرورا" بحوضة دمشق وحتى وادي الأردن . وقدتم ذلك في الألف التاسع قبل الميلاد ، وقبل أي منطقة أخرى في العالم .30
وقدأشار كوفان الى المعنى التقليدي لنشوء الزراعة ،في أنه يرتكز في معياره الحاسم علىإنتاج المعيشة وأنه بهذا الإنتاج، إنما بدأ في الواقع صعود المقدرة البشرية التيليست حداثتنا سوى ثمرة لها .31
ويوضح غولايف أهمية هذا المنجز ،حيث أنه غيّرطابع التفاعل بين الانسان والطبيعة ،وزاد كثيرا" من إمكانات التكيف البشري ،وهذا ماأدى الى نشوء أنماط ثقافية واقتصادية جديدة تماما"، أكثر مردودا" واستقرارا".32
وطالما تحدثنا عما قدمته الزراعة من تحريض لجهة وعي أهمية المكان،وذلك عبر تطور متبد في منطقة الفص الجداري من الدماغ ،فان هذا توثقه المعطياتالعلمية . فقد توصل العالم الأميركي برايدوود الى أن الكثافة السكانية في المشرقالعربي في ثقافة الصيد والالتقاط في الفترة الممتدة بين 25000-10000 ق.م ، لم تكنلتتجاوز 3 أشخاص في 160 كم2 ، وفي الفترة بين 10000 –8500 ق.م ،أصبحت 12,5 شخصا" فيكل 160 كم2 . ومع نشوء المجتمعات الزراعية الأولى ،نلاحظ أن في كل 160 كم2 أصبحتالكثافة السكانية 2500 شخصا" .33
ولعلنا ندرك أن الزيادة السكانية ،وهي دليلالاستقرار والتوازن ،سوف تفرز معايير ونظما"اجتماعية واقتصادية وروحية متطورة عماسبق . فقد تجذرت الحالة الحاضرة للنوع البشري منذ ذلك الحين ،وهذا ليس فقط في مجالاستثمار الوسط ،\ على حد قول كوفان \، بل في ثقافته نفسها وفي بناه العقلية .34
وقد أمدتنا المعطيات الأثرية على أن موقع المريبط في سورية ،وفي النصفالأول من الألف الثامن قبل الميلاد شهد زراعة القمح والشعير ، بما يشكل نقطة انعطافحاسمة في ظهور الزراعة . أما لجهة تدجين الحيوان ،فقد تم عبر سلسلة امتدت من تدجينالكلب في الألف التاسع ق.م ، وتبعه تدجين الغنم والماعز والخنزير والبقر والحصان ،وصولا" الى الجمل والحمار .35
ولعل انعكاس ممارسة الزراعة ،سوف يتبدى على بنيةالمجتمع وإيقاعه ، فثمة الآن انتظام للجماعات في أوقات معينة ،من أجل البذار أوالحصاد ..أو الخزن والتجارة بالفائض . ما يعني أننا أصبحنا أمام معايير جديدة،اجتماعية واقتصادية وثقافية وفنية .ستؤدي الى نشوء معالم الثقافة الزراعية والتيسوف تتبلور على مدى العصور اللاحقة .
والجدير ذكره في هذا المجال ، أن بنيةالمجتمع الزراعي في مراحله البدئية لم تكن وقفا" على المزارعين لا بل كان ثمةمزارعين وأنصاف رعاة وصيادين ورعاة ومربي حيوانات . وقبل أن نمضي في مناقشة نشوءثقافة الزراعة ،ينبغي أن نشير الى مقولة برينتس، من أن التطور الذي أدى الى الثورةالعمرانية ونشوء المدن الأولى /في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد /، لم يكن ليحصلالا نتيجة لظهور الزراعة وتطورها وتقسيم العمل في الحرفة والزراعة وظهور التجارة .وان النمو الكبير لمردود العمل /حيث أنه في الزراعة ، ازداد الإنتاج خمسة أضعافمما كان عليه في مرحلة الصيد / أدى الى الى زيادة سريعة في عدد السكان ،ما أدى الىظهور المدن الكبيرة وبروز أشكال جديدة في حياة المجتمع .36
التطور الثقافي فيالمشرق العربي القديم بين 8300 –7600 ق.م :
مايميز هذه الفترة ، هو هجرة الانسانالنهائية للكهوف والمغاور ، كذلك فان التجمعات السكانية الصغيرة اندمجت فيما بينهالتنشأ تجمعات كبيرة ،ذات كثافة سكانية مهمة .
وانعكاسا"للضرورة الاجتماعيةوقوانينها فقد بدأ مخطط البيت السكني يتحول من البيت الدائري /وهو صفة معماريةملازمة لبيوت ثقافة الصيد والالتقاط / الى البيت المستطيل .
وقد مارس سكان مواقعهذه الفترة صيد الأسماك والثيران وحمار الوحش . كل حسب إمكانات البيئة لجهة الثروةالحيوانية .
وفي مجال الفنون ،عثر على تماثيل حجرية وطينية في موقع المريبط،تمثل شخوص نسائية ما يدل على وجود حالة اعتقادية ما تجاه المرأة .
كما عثر علىرسوم جدارية لأشكال هندسية ،على جدران المنازل بما يذكر بمقولة يوليوس ليبس من أنهكلما كانت الشعوب والمجتمعات أكثر استقرارا" ،كلما استطاعت أن تكرس وقتا" أطوللتزيين مساكنها من الداخل والخارج بزخارف منقوشة ومرسومة .37
أما في مجالالاعتقادات لهذه الفترة ،فان التطور المتبدي في القسم الحوفي من الدماغ والمسوؤل عنالاهتمامات المعتقدية وتطورها ،أدى الى نشوء جملة معتقديه، تبدأ من وجود حالةاعتبارية للمرأة الأم رمز التجدد والديمومة ،مرورا"بحالة اعتبارية مهمة للثور ،وصولا" الى عبادة الأسلاف /الأرواحية /.
ففي مجال الاعتقاد بالمرأة الأم ،عثر فيمختلف مواقع هذه الفترة على تماثيل نسائية ،تدل على اهتمام واضح برمز الأنوثة كمافي المريبط .
أما في مجال الحالة الاعتبارية للثور /نحن لا نميل الى ما يسميهاالباحثون (( عبادة الثور )) ونعتقد أن الاهتمام بالثور كان من منطلق ما يرمز إليهالثور من قدرة خصبيه وقوة ،مايشي بالحماية والتماهي الإنساني بمقدرته الحيويةوالجسمانية / فقد دلت عليها مواقع هذه الفترة عبر طقوس دفن روؤس الثيران في جدرانالمنازل ، ومن ثم تطور هذا التقليد الى دفن القرون فقط .
يشير البروفيسور كوفانالى أن وضع قرون الثور أو جمجمته في جدران المنازل ،تدل على حماية مطلوبة في وجهعوامل الخراب 38.ونحن نميل أيضا"الى وجود حالة اجتماعية تستوجب الحماية أيضا" وليسالبناء أو المنزل فقط .
ولعل المعطيات الحديثة تعطينا دلائل على استمرارية مالهذه الحالة الاعتبارية ،تتجلى في وضع سكان دمشق في القرون السابقة ،حدوة حصان علىباب المنزل، ما يعطي تصورا" حول رمزية الحصان في عودة الغائب وفي الفأل الطيب ،ولوعدنا الى الوراء أيضا"لاستطعنا تتبع الحالة الاعتبارية للأضحية والدم عند إنشاءوسكن البيوت .
أما الحالة الاعتقادية الثالثة لدى مجتمعات هذه الفترة فتتجلى في ((عبادة الأسلاف )) ،حيث أننا هنا أمام مجتمع قبلي –عشائري توحده رابطة الدم ،عبرروح الجد الأكبر الحامي للمجتمع ، طالما أن المجتمع يسير على هدي الأجداد وتقاليدهمونواميسهم . فقد عثر في موقع المريبط على معالم فصل رأس الميت عن جسده ومن ثم دفنالجمجمة منفصلة .
وفي مجال صناعة الأدوات ،نلاحظ في هذه الفترة اختفاء الأدواتالحجرية الصغيرة والهندسية ، في مقابل كثرة في الأدوات اللازمة لأعمال الزراعةكالنصال والمناجل المهمة في قطع القمح والشعير .
كما عثر في هذا الموقع علىدلائل مبكرة لصناعة الفخار ، وذلك عبر صناعة أوان صغيرة هي الأولى حتى الآن فيالمشرق العربي .ويشير بعض الباحثين الى أن لهذه الأواني صفة اعتقاديه ، ولم تكنتستخدم لشوؤن حياتية ومعيشية .
أيضا "أبانت هذه الفترة عن ظهور معالم أولى فيصقل الحجر .
الألف الثامن قبل الميلاد –أول مدينة في التاريخ :
شكل موقعأريحا العائد لهذه الفترة، أول موقع مشرقي وعالمي يدل على وجود أول مدينة فيالتاريخ.
وتنبع أهمية هذا الموقع من عمرانه الضخم والمتقدم نسبة لعصره والذي يدلبعمق على وجود سلطة اجتماعية قادرة ومنظمة ومتمكنة .فقد شمل هذا الموقع على قلعةأحيطت بسور طوله 8 أمتار وعرضه 3 أمتار وارتفاعه 8.5 مترا" .وقد انشيء السور منالحجر ،واستند إليه برج حجري ضخم عرضه من قاعدته 10 أمتار وارتفاعه 8.5 مترا" ،ويقود درج نحو قمة البرج عبر 22 درجة .
وثمة خندق محيط بالقلعة عرضه 8 أمتاروعمقه 2.60 مترا"، والجدير ذكره هنا هو عدم العثور على أدوات تدل على طريقة حفر هذاالخندق في ذلك العصر ، مما يعطي انطباعا" أن حفر الخندق والذي شق في أرض من الحجرالكلسي تم ،عبر استخدام نار قوية ثم تم تبريد المكان بصورة فورية بالماء ،وبذا أصبحالصخر الكلسي الهش ، سهل الكشط .
وقد دلت المعطيات الأثرية ،على أن سكان هذاالموقع مارسوا الزراعة ،وقاموا بتجارة الملح الذي استخرجوه من البحر الميت ،كماانهم استخرجوا الكبريت من وادي الأردن .
وقد لوحظ في بعض أماكن هذا الموقع وجوداستيطان بشري مستمر على مدى 22 سوية متتالية .39
وفي الرافدين ،عبّر موقع زاويجيمي الذي استمر حتى الألف الثامن قبل الميلاد، عن وجود صفات
عرقية لسكانه هيعلى تشابه واضح مع سكان بلاد الشام ما يشكل قرابة عرقية باكرة .
وهذا مايؤكده الروسيان رؤوف منشايف ونيقولاي ميربرت بالقول :
"إن التواصل المعروفللمجتمعات الزراعية الأولى في المنطقة السورية، يتلاءم مع الدلائل العراقية فيشمالي بلاد الرافدين ، وهذا يدل على وجود نظم للاتصالات والعلاقات الحضارية فيمراحل موغلة في القدم ". 40
الجدير ذكره هنا ، هو العثور على خرزة مصنوعة منالنحاس ، ما يعطي انطباعا"على أول دليل لظهور النحاس واستخدامه قبل عصره بعدة آلافمن السنين .41
وثمة مواقع أخرى في الرافدين مثل : كريم شاهير ،نمريك . وفيسورية : الشيخ حسان وتل أسود والجرف الأحمر، وفي فلسطين والأردن : جلجال ، أبو سالم، أريحا ،ووادي فلاح .

الفترة بين 7600 –6000 ق.م :
سوف نلاحظ أنهوباطراد مع الزمن ، سوف تتراكم المعطيات الحضارية والمنجزات، طالما أن ثمة تطورا" مهما" مازال يحصل في البنية الدماغية الانسانية، وكذلك في حدة التفاعل المجتمعيالإنساني -البيئي المتبادل . مع ملاحظة أنه وضمن حركة التاريخ آنذاك وحركةالمجتمعات سوف تتباين الحركة تلك بين مواقع وأخرى ، فقد تنشأ مواقع جديدة تبعا" لغياب مواقع أخرى ، وقد يستمر استيطان لمواقع ولعدة عصور ، ونحن في اتجاه بحثنانأخذ بالخطوط الأساسية والعريضة ، لمجمل حركة المجتمعات وتطورها دون أن نعيرالتفاصيل سوى الأهمية التي تستحقها، ولا سيما في حال حصول تطور لمنجز ما . لهذافقد صار طبيعيا" أن نعرف أن هذه الفترة شهدت تطورا" دراماتيكيا" وطبيعيا"في مجملأوجه
النشاط والفعالية البشرية على صعيد مجتمع المشرق العربي القديم .
فقدشملت الزراعة الآن معظم مجتمعات المشرق وتطور التدخين وكاد المخطط المستطيل للبيوتأن يسود بالكامل .
وعلى صعيد الأدوات ها نحن أمام تطور في تقنيات الصناعةللأدوات الزراعية كالمناجل والنصال والرحى والأجران .
وطبيعي مع زيادة اللحمةالاجتماعية، أن نلاحظ التصاقا"بين البيوت السكنية التي أخذت طابع الاستقرار الدائم،وترسخ تقاليد ومعايير مجتمعية تشمل كامل المجتمع الزراعي مع ظهور التنظيم الجماعيالدقيق والتعاون كذلك .
والشيء اللافت في هذه الفترة ولا سيما في حدود 6500ق.م أننا أصبحنا أمام تطور في استخدام وسائل الري الصناعي ،عبر الأقنية والسواقي ..ما سوف يؤدي الى نشوء زراعات مروية /غير بعلية/ كالكتان مثلا".
وكما أسلفنافان تطور تقنيات الري ولاسيما الصناعي ، يحتم وجود سلطة قادرة ومنظمة
والجديرذكره هنا ، هو أنه في عمارة الفترة هذه نشأت أقنية تصريف داخل المنازل ما يشكلتطورا" مهما" في هذا المجال .
ومن مواقع هذه الفترة ، المريبط وأبو هريرة وتلأسود وتل غريفة وأوغاريت وبقرص في سورية . وفي الأردن وفلسطين، مواقع البسطة وعينغزال وبانحا وأريحا . وفي الرافدين موقع جرمو وتل المغزلية وقد أبان موقع بقرص فيسورية (6500-6000 )ق.م ، عن دليل نشوء أول قرية منتظمة في ذلك الحين حيث يبدو أنهاأنشئت وفق مخطط معماري مسبق .ما يدل على تطور مهم في الفص الجبهيوالصدغي.
ويمكننا رصد أهم خصائص هذه الفترة و التطور المتبدي في ذهنية مجتمعاتهابما يلي :
-نشوء المعابد ،حيث أبان موقع أريحا العائدة لهذه الفترة عن إنشاء أولمبان ذات وظيفة اعتقاديه والجدير ذكره هنا هو أن السلطة المعتقدية سبقت السلطةالسياسية في النشوء تاريخيا" .
- استمرارية اعتقاد "عبادة الأجداد "القبليالطابع.وهذا ما دلت عليه مواقع المريبط والشيخ حسن .
وقد تطورت تقنية طقوس هذهالعبادة عبر عدم الاكتفاء بدفن الجمجمة في جدران البيوت أو وضعها على تماثيلإنسانية .بل أصبحنا الآن مع نشوء لظاهرة "الجماجم المقولبة "، حيث تكسى الجمجمة /بعد تنظيفها /بالجص وتصبغ باللون البني الفاتح بما يماهي بشرة الانسان، ثم تنزلالعيون بالصدف أو القواقع وترسم خطوط بنية بالمغرةالحمراء دلالة علىالشعر.
وقد أمدتنا مواقع أريحا وبيسامون وتل الرماد ،بنماذج من هذه الجماجمالمقولبة .
أما موقع تل المغزلية في الرافدين، فقد كشفت التنقيبات الأثرية عنسور حجري كبير ،يعطي دلالة على أقدم بناء عسكري في تلك المنطقة .42
التطورالثقافي في الفترة بين 6000 –4000 ق.م :
لعل ما يميز هذه الفترة ،هو الاستمرارالتصاعدي للتطور المتبدي في كافة أوجه الحياة .فإلى جانب اتساع صناعة الأوانيالفخارية ،استمرت ظاهرة عبادة الأجداد .
ودل موقع الكوم في البادية السورية ،علىممارسة الزراعة المروية عبر جر المياه من الينابيع أو الأنهار /الفرات مثلا" / .
ويلاحظ أنه مع 5000 ق.م ، دخل الجناح الشرقي للمشرق العربي /الرافدين / فيالعصر الحجري النحاسي سابقا"الجناح الشرقي /بلاد الشام / الذي استمر على ثقافتهالزراعة .43
وبشكل عام ،سادت في هذه الفترة الثقافة الزراعية عبر قرى دائمةومستقرة ،مارست الزراعة والتدجين ،الى جانب وجود ثقافة رعوية ذات قرى صغيرة ومؤقتةمارست التنقل والرعي .
والشيء اللافت في هذه الفترة ولاسيما في بدايتها ، أنموقع أم الدباغية الرافدي أبان عن منجز معماري مهم سوف يكون له أهمية كبيرة معالعصور اللاحقة ،وذلك عبر الكشف عن أقدم نموذج معروف للقوس في المشرق العربي القديم .44
كذلك تشير المعطيات الأثرية الى تشابه كبير بين معطيات هذا الموقع وموقعيبقرص والكوم في سورية . وكشف موقع حسونة الرافدي عن أول عملية لشي الفخار في أفران
وفي موقع سامراء /حوالي 5300 ق.م / ، أدت الكشوف الأثرية الى الكشف عن استخدامسكان الموقع القوالب الخشبية للمرة الأولى ،لتكييف اللبن وذلك في تشييد جدرانالمنازل .وهذا يعطي انطباعا" عن مدى التطور الذي حققته البنية الدماغية لجهةالإدراك العميق المركب .
ومن مواقع هذه الفترة ، العمق والكوم في سورية ، وادياليرموك ،عسقلان ، أريحا في فلسطين .
وموقع يريم تبة ،الثلاثات ، كول تبة ،نينوى ، أم الدباغية .
وفي حوالي 5500 ق.م ،سوف نشهد قيام ثقافة تل حلف في شمالشرق سورية ، حيث امتدت من دجلة والموصل مرورا" بنهر البليخ والخابور ،وحتى سواحلالمتوسط وقد شملت تأثيراتها أيضا"منطقة الخليج العربي .
وبشكل عام ، يلاحظ فيهذه الفترة رسوخ التقاليد الزراعية ، الى جانب التمكن من تقنيات زراعية جديدة تجلتفي استنبات أنواع جديدة مثل العدس والحمص والفول وأشجار الكرمة والتين والزيتونوالنخيل .
وفي مجال العمارة ، يلاحظ ظهور القرميد المشوي لأول مرة في مجالالبناء ، كما قامت الأبنية العامة ذات الوظيفة الشعائرية والاعتقادية /المعابد / .45
ويمكننا في هذه الفترة التمييز بين المجتمعات الزراعية المستقرة والتجمعاتالرعوية .وفي مجال الحياة الروحية ، نلاحظ تطورا" في اعتقادات الأم /الرمز ،بالإضافة الى الاهتمام الاعتباري بالثور .
أما في مجال صناعة الفخار ، فقد اتسعتصناعته وتطورت ،حيث نشأت مراكز حرفية كبيرة ،أدت الى إنتاجه بكميات وفيرة ساهمت فيجعله مادة تجارية رابحة ورائجة .46
وتنبغي الإشارة الى ظهور أبنية دائرية في هذهالفترة ،يعتقد أنها لغاية تعبدية /معابد / .ومن أهم مواقع هذه الفترة :تل كشكشوك،تل عقاب ، شاغار بازار ، شمس الدين طنيرة ،رأس الشمرة ، تل صبي أبيض ،شمشارا ،يريمتبه ، العربجية .
وقد انتهت الفاعلية الحضارية لثقافة حلف في حوالي 4500 ق.م،لينتقل الفعل الحضاري الى الجنوب الرافدي عبر ثقافة العبيد .
والعبيديون ذووأصول مشرقية محلية ،ظهروا حوالي 5000 ق.م ،وبدأت فاعليتهم الحضارية حوالي 4500 ق.م،واستمروا حتى 3500 ق.م .ويبدو أن لهذه الثقافة شأن كبير وتأثير مهم في وضع حجرالأساس للبنى الحضارية اللاحقة .
ولعل البيئة الطميية والمستنقعية للجنوبالرافدي ،حيث نشأت الثقافة العبيدية ،حتمت التفاعل مع البيئة باسلوب مغاير عنأساليب الثقافات الشمالية . لهذا نجد سكان مواقع العبيد قد عمدوا الى السيطرة علىالطبيعة عبر قيامهم بمكافحة ملوحة الأرض ،وتجفيف المستنقعات ، ومارسوا الزراعةالمروية باقتدار .
وفي مجال العمارة ،أنشئوا بيوتهم من الطين والقصب / بحسبإمكانات البيئة عندهم / . ونظرا" لاستخدامهم تقنيات الري الصناعي /بحسب اشراطاتالبيئة / ،فقد أدى هذا الى ضرورة نشوء سلطة اجتماعية منظمة وبنى اجتماعية متطورة .الأمر الذي أدى الى تشكل القاعدة المادية –الاجتماعية لانبثاق المدن الأولى فينهايات الألف الرابع قبل الميلاد .
وقد شملت ثقافة العبيد مدى" امتد من طوروسحتى الخليج العربي ، ومن زاغروس الى البحر المتوسط ومن أهم مواقعها : أريدو وحجيمحمد . بحيث أصبحنا مع 4500 ق.م ، أما حضارة متجانسة شملت من عربستان الى سواحلالمتوسط ، ومن زاغروس حتى سواحل الخليج العربي والبحرين والجزيرة العربية .47
أشادت الثقافة العبيدية معابدها الضخمة ذات الطوابق ، كما وبنت معابد" علىمرتفعات طبيعية أو اصطناعية ،وهذا ما سوف يشكل بداءة ابتكار الزقورات في العصراللاحق .
وتنبغي الإشارة الى أن إشادة المعابد على أماكن مرتفعة ، تدل على حصولتطور عميق في القسم الحوفي أو الطرفي من الدماغ ،عبر بداءة وعي السماء /الألوهة ،كبعد ماورائي عال .وان بناء المعابد بهذه الطريقة غايته محاولة التقرب من التجليالإلهي ،ما يعني هنا بداية إدراك البعد السماوي للألوهة،وهذا برأينا يشكل نقطةانعطاف مهمة في نشوء فكرة الألوهة على صعيد الفكر الانساني .
وهذا يستتبعالتأكيد على أن السلطة الدينية ،سبقت السلطة السياسية في النشوء تاريخيا" .
وفيمجال الحرف ، تم في هذه الفترة ابتكار الدولاب البطيء في صناعة الفخار .ومن مواقعهذه الفترة : العربجية ، تبة غورا ، حمرين ،وذلك في شمال الرافدين ،حيث مارس السكانالزراعة البعلية وأشادوا بيوتهم وأدواتهم من الحجر ،بحسب إمكانات البيئة .
أماالمواقع الجنوبية الرافدية فقد مارس سكانها ، الزراعة المروية وشيدوا أبنيتهموأدواتهم من الطين والقصب ،وصنعوا أدواتهم من الطين .48
ومع 4000 ق.م ،ابتكرالدولاب السريع في صناعة الفخار ،ما أدى الى انعكاس ايجابي على انتاجيته وتقنياته .ويبدو أنه في هذه الفترة عرف السكان الملاحة ،بدليل العثور على مواقع هذه الثقافةفي قطر والبحرين والجزيرة العربية . وباستطاعتنا القول أنه حتى نهاية هذه الفترة ،لم يعثر على أي دليل لوجود سلطة سياسية عبر وجود قصر أو ما شابه ، وبقيت السلطةالمسيّرة لأمور المجتمع ،السلطة الدينية .
دور الزراعة في نشوء الكتابة فيطورها الابتدائي :
يميل الباحثون الى اعتبار أن ثمة أسبقية للاستقرار علىالزراعة ،ولكن الاستقرار بمعناه الحقيقي بما يشمل الديمومة والاستمرارية ، نعتقدأنه رافق الفاعليات الزراعية وترسخ باطراد مع ممارسة الزراعة.
ولعل ما أدتهالفاعلية الزراعية من تطور البنى الاجتماعية والاقتصادية والروحية ينسحب أيضا" علىالفاعلية التجارية . فخزن فائض المنتج الزراعي سوف يحتم التفكير بالتبادل التجاري،ولو في نسق المقايضة ، وهذا ما يحتم إيجاد آلية للتفاعل والتواصل التجاري بينالمجتمعات ،وقد قدمت مواقع عديدة في المشرق العربي دلائل باكرة حول نشوء طورابتدائي من أنماط التواصل هذه تجلى في العثور على بدايات استعمال أدوات خاصة مرفقةبرموز واشارات تحدد ماهية السلع الواردة في التبادل التجاري.
ولعل هذا يشير الىالتوازي الى حد ما بين ظهور الزراعة ونشوء البدايات الممهدة لظهور الكتابة .
وهذا الأمر يشير بوضوح الى التطور الحاصل في الفصوص الدماغية الأربعة ،بالإضافة الى التنسيق العالي المستوى فيما بينها والذي أدى الى إيجاد أشكال معينةذات وظيفة حسابية – تجارية .
وان العثور في موقع الجرف الأحمر /9250 ق.م / علىقطع من البازلت محفور عليها وجوه حيوانية وخطوط مبهمة ،ربما يشي بمخاض أولي حولبدايات نشوء بواكير التفكير الذهني بالتعبير عن منتج ما .((فالكتابة السومريةالأولى على ألواح من الصلصال ، كانت تذكر بشكل كبير بالصور الرمزية وبالرسومالواقعية التي تشير الى الأشياء والتي تمثل بكثرة في منحوتات الجرف الأحمر )) .49
ويشير ميشيل بروز وفيليب تالون، الى أن ألواح هذا الموقع تشكل أولىالمحاولات لترجمة الفكر بالكتابة ،بالإضافة الى تعاصرها مع بداية عصر الزراعة .50
وحول ارتباط الزراعة بأوليات الكتابة يشير الدكتور عدنان البني الى أنه سبقالكتابة طور ممهد لها ، استخدم فيه الانسان أشكالا" من الطين لتوصيف منتجات الزراعةمن حبوب وفاكهة وزيوت وغير ذلك من الماشية المدجنة ،وذلك في عمليات التجارة وتبادلالمنتوجات .51
وكان أوبنهايم قد تحدث عن نظام للجرد في مدينة نوزي الرافدية وذلكفي منتصف ا؟لألف الثاني قبل الميلاد ، حيث أشار الى أنه الى جانب الكتابة المسماريةكان كتّاب القصر يلجئون الى طريقة قديمة في إجراء الحسابات وذلك بواسطة (( فيش )) حسابية خاصة ، حيث كان يرمز لكل حيوان بفيشة معينة ، ولوحظ أنه في حال سوق قطيع الىمدينة أخرى ، كان يتم تحويل الكمية اللازمة من الفيش الى المدينة الأخرى . وقد أبانالكشف الأثري عن وجود 48 فيشة وضعت ضمن لوحة طينية مجوفة شبيهة بالمغلف ،كتب علىجدرانها بالإشارات المسمارية : 21 نعجة ، 6 حملان ، 8 خرفان ، 6 عنزات …الخ .52
والحقيقة أن هذا النوع من الجرد الحسابي يعود /حسب الدلائل الأثرية / الىحوالي 8000 ق.م. فقد عثر على هذه الفيش في المشرق العربي القديم في مواقع عدة أهمها : المريبط ، أبوهريرة ، تل أسود ،تل غريفة ، رأس الشمرة ، تل براك ، تل حلف ، أوروك .
وقد درست الباحثة الأميركية دينيزا شمندت بيسيرا ،هذه الفيش وتوصلت الى أنهاكانت تستخدم في عملية جرد المؤن الواردة والصادرة .53
صنعت هذه الفيش منالطين وشويت على النار ويبلغ حجمها 1-3 سم وأخذت أشكالا"مختلفة ، كروية ،مخروطية،استوانية،قرصية،هرمية ثلاثية السطوح .
وتظهر على بعضها حفيرات وتجاويف وأخاديدمنجزة بالعصا قبل الشي. ولوحظ أن ثمة فيش تحوي على ثقوب معينة. وتعتقد الباحثة أنلكل شكل محزوز أومرسوم معناه ولكل إشارة إضافية مدلولها الخاص .ولا تقتصر مهمتهاعلى العدد والتعداد بل أن لها علاقة ببتبادل السلع على أنواعها في عمليات تجاريةآنذاك .
وتشير بيسيرا ، الى أن هذه التسجيلات سابقة للكتابة ،وقد انتشرت هذاالفيش في كامل المشرق العربي القديم وذلك في الألف الرابع قبل الميلاد .ولوحظ أنانتشار هذه الفيش يتطابق مع مناطق تشكل الاقتصاد الزراعي والمناطق التي أخذ سكانهافي مرحلة التحول من حياة الصيد والالتقاط الى حياة الزراعة والتدجين أي من أسلوبالحياة المتنقل الى أسلوب الحياة الحضري .
واستمر نظام الفيش من 8000 وحتى 4000ق.م على حاله .وبالتدريج أخذ التطور في تقنيات الفيش منحى جديدا"، عبر ظهور فيش ذاتأشكال مثلثية وشبه معين ،مزودة بإشارات وعلامات إضافية كالحفر والتظليل ،وأصبحتقادرة على إعطاء معلومات مفصلة عن نوعية المواد المرموز إليها بالنماذج الأساسية منالفيش .
ومع حوالي 3500 ق.م ،أصبحت هذه الفيش توضع داخل مغلفات طينية على شكلكرات مجوفة ، وقد عثر على هذا النوع في أوروك وحبوبه كبيرة .
ثم بين 3500 –3200ق.م ، تطورت التقنية الى وضع بصمات خاصة على الجدار الطيني للمغلف الكروي ، لتمييزمحتويات الأغلفة .وبقي هذا النمط مستخدما" حتى 1500 ق.م
وتشير الباحثة الى أنالمغلفات ذات البصمات كانت الأساس الذي قام عليه ، مجمل نظام الكتابة المسمارية .
وعثر على نماذج هذا النمط في أوروك وخفاجي وحبوبة كبيرة وجبل عارودة وماري .
وقد لخصت الباحثة نظريتها، في الوصول الى الكتابة التصويرية انطلاقا" من الفيشعبر المراحل التالية :
- في 8000 قبل الميلاد ، ظهرت الفيش ثلاثية الأبعاد .
- في 3300 ق.م ، ظهرت المغلفات الحاوية على الفيش ذات البصمات .
- في 3300 –3200 ق.م ، ظهور اللوحات الأولى ذات البصمات .
- في 3100 ق.م ، ظهورالكتابة التصويرية ومن ثم تطورها الى الكتابة المسمارية .
لقد لعب ابتكارالزراعة ،دورا" رائدا" وأساسيا" في تطور الحياة البشرية ،ولعل معظم المنجزات التيستميّز العصور التاريخية ،تستند في بواكيرها على الثقافة الزراعية التي خرج منرحمها ،التجارة والاقتصاد والكتابة والمعتقدات الكبرى في الحياة الإنسانية .
يقول جاك كوفان : يعد المنعطف الذي سمي بالثورة النيوليتية /الزراعة / ، أحدأكثر المنعطفات حسما" من بين منعطفات التاريخ البشري الكبرى،فهو بداية أولى معالجاتنوعنا لوسطه الطبيعي ،والتي تشكل مباشرة أصل قدرته الحالية . وبالتالي فان تحليلهذا التحول ،في شروطه وأسبابه ،غاية ضرورية لمن يهتم بمستقبل الحضارة .54

فصل من كتاب سيصدر قريبا" تحت عنوان ((دراسات في حضارةالمشرق العربي))

د.بشارخليف









الهوامش والمراجع :
1- د.سلطانمحيسن .الصيادون الأوائل .دار الأبجدية . دمشق . 1989
2- نعتقد أن استخداممصطلح البدئية ،أفضل من البدائية في الاشارة الى الشعوب التي وجدت في مطالع الوجودالانساني على الأرض .والحقيقة أنه لولا منجزات هذه الشعوب والتجمعات والرصيدالتراكمي الحضاري الذي أنجزته ،لما أمكن للحضارة البشرية أن تصل الى ما وصلت اليهفي عصرنا الحديث .
3- يقول الفرنسي جاك كوفان في كتابه (( الألوهية والزراعة )) : ان البيئة الطبيعية تمتلك مبادرة الحوار مع الانسان ، وهذا يعني أن التحولاتالاجتماعية والثقافية ،يجب أن تنطلق على مستوى ماهو فينا الأكثر انغماسا" فيالطبيعة، وحساسية لتحولاتها أي ابتداء" من كائننا البيولوجي .
4- محيسن .مرجعسابق .
5- كارل ساغان . تنانين عدن . ت:نافع لبس .اتحاد الكتاب العرب .دمشق . 1996
6- المرجع السابق .
7- د. عبد الستار ابراهيم . الانسان وعلم النفس . عالم المعرفة .الكويت .1985 .عدد 86
8- ساغان . مرجع سابق .
9- المرجعالسابق .
01- كارل غوستاف يونغ . علم النفس التحليلي . دار الحوار . سورية .1985
11- ابراهيم . مرجع سابق .
21- يان ايلينيك . الفن عند الانسانالبدائي . دار الحصاد .دمشق . 1985
31- محيسن . مرجع سابق .
41- .المرجعسابق .
51- . المرجع سابق
61- . المرجع سابق .
71- . المرجع سابق .
81- . المرجع سابق .
91- المرجع سابق .
02- leroi-gourhran .l,evolution de vegetation au moyen –orient lors derniers 100000 ans palermo 1983
12- بيترفارب . بنو الانسان . ت: زهير الكرمي . عالم المعرفة 67 . 1983 .الكويت .
22- جاك كوفان . الألوهية والزراعة . ت: موسى الخوري . وزارة الثقافة .دمشق 1999
32- غولايف . المدن الأولى . دار التقدم .موسكو .1989
42- المرجع السابق .
52- الحوليات الأثرية السورية . عدد 43 . 1994
62- محيسن . المزارعون الأوائل . دار الأبجدية .دمشق . 1994
72- بورهارد برينتس . نشوء الحضارات القديمة . دارالأبجدية .دمشق .1989
82- hors, copeland, aurenche, les industires paliolitique du proche –orient .1973
92- كوفان . مرجع سابق .
03- المرجعالسابق .
13- المرجع السابق .
23- غولايف . مرجع سابق .
33- الجديدحول الشرق القديم . مجموعة باحثين . دار التقدم .موسكو .1988
43- كوفان . مرجعسابق .
53- محيسن . المزارعون الأوائل . مرجع سابق .
63- برينتس .مرجع سابق .
73- يوليوس ليبس . بدايات الثقافة الانسانية . وزارة الثقافة .دمشق .1988
83- كوفان مرجع سابق .
93- برينتس .مرجع سابق .
04- الحولياتالأثرية السورية . 44 . 2001 .
14- محيسن .المزارعون الأوائل . مرجع سابق .
24- المرجع السابق .
34- المرجع السابق .
44- المرجع السابق .
54- المرجع السابق .
64- برينتس . مرجع سابق .
74- محيسن . مرجع سابق .
84- المرجع السابق .
94- le poins ,hebdomadaire,7/12/1996 –le monde
05- en syrie aux origines de l,ecriture .brepols
15- د.عدنان البني . المدخل الى قصةالكتابة في الشرق العربي القديم .دمشق.2001
25- الجديد حول الشرق القديم . مرجعسابق .
35- المرجع السابق .
45- كوفان . مرجع سابق .
مراجع البحث الأخرى :
-د. علي أبو عساف . آثار الممالك القديمة في سورية . وزارة الثقافة .دمشق .1988
-سيتون لويد . آثار بلاد الرافدين . ت: محمد طلب . دار دمشق .1993
-د. أحمد سوسة .تاريخ حضارة وادي الرافدين .بغداد . 1983
-ميلغيل .ج . هوسكونتيز . أسس الأنثروبولوجيا الثقافية .ت: رباح النفاخ .وزارة الثقافة .دمشق 1974 .
-فرنسيس أور .حضارات العصر الحجري القديم . ت:سلطان محيسن .دمشق .1989
- أشيلي مونتاغيو . البدائية .ت:محمد عصفور .عالم المعرفة .53 .1982 الكويت .
- ايف كوبنز . افريقيا وقصة الانسان .ت: سلطان محيسن .دار شمأل .دمشق .1996
- جاككوفان .القرى الأولى في بلاد الشام .ت: الياس مرقص .دار الحصاد .1995
- جاككوفان .ديانات العصر الحجري الحديث في بلاد الشام .دار دمشق .1988
- syrie,terre de civilisations .quebec .2001
- .nagel, archaeologia mundi .syrie-palestine 1. jean perrot .



المصدر منتدى الشام الثقافي - مع الشكر الجزيل للباحث والمنتدى

المستشار
03-11-2010, 09:27 AM
شكرا لك أخي أبو أحمد على هذه المشاركة العلمية القيمة .
كنت أنتظر نهاية الأسبوع لأتمكن من قراءة هذا البحث بهدوء .
وبعد تصفحه فإن هذا البحث علمي تخصصي , فلقد إستفدت من المعلومات الغزيرة التي بين طياته ,ولكن إبداء مرئيات أو تعليق حول محتواه فهذا متروك لأصحاب الإختصاص , فليس لدي ما أستطيع قوله .
شكرا لك .

لهيب_الشوق
03-19-2010, 02:23 AM
بارك الله فيك اخوي رامي

بالفعل موضوع رائع وقيم


يستحق الوقوف عنده

وقد نقلته هذا المضوع لنتدى آخرحاول ان يسيء

بشكل غير مقصود لحضارة سوريا

رسم البسمة على شفاء من يقرؤون موضوعه

لكني قمت بتفويت الفرصة عليه

بسرد هذا الموضوع لكي يعرفون سوريا

ويرسموا حدوداً لمشاركاتهم

دمت بحفظ الله

ابو احمد
03-19-2010, 02:34 AM
لهيب الشوق : بارك الله بك يا أصيل وخذ راحتك

وأنا اتقدم للدكتور بشار الخليف ولمنتدى الشام الثقافي

بكل الشكر والامتنان لوضعهم هذا البحث ولإتاحة الفرصة

أمام الآخرين للتعرف على حضارة سورية العريقة


وأقدم الشكر لعمي المستشار بمروره الكريم على الموضوع

بشار الدرويش
03-19-2010, 10:14 PM
موضوع طويل جداً لكنه مهم راح أطبع الموضوع على ورق وأقرأه ولي عودة مشكووور يا أبو أحمد أيها الباحث التاريخي المجد...