المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وهمت به وهم بها


جنى الدخيل
09-03-2009, 11:25 PM
من أروع ما في القرآن الكريم استخدام نفس اللفظ في سياقين بحيث يكون معناه في السياق الأول ضدًّا لمعناه في السياق الثاني تمامًا ومن ذلك ما يلي :
( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَاأَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُالْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ 71 ]
( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَاوَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) [ 73 ] ( سورة الزمر )

فاللفظ ( سِيقَ ) اُسْتُخْدِمَ مَرَّةً مع (الَّذِينَ كَفَرُوا ) ومرة أخرى مع ( الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ )
ولا شك أنه في المرة الأولى المقصود به ( الإهانة ) .
بدليل : ( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىجَهَنَّمَ وِرْدًا ) [ مريم : 86 ]
ولا شك أيضا أنهفي المرة الثانية المقصود به ( التكريم ) .
بدليل : ( يَوْم َنَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) [ مريم : 85 ]
فالذين اتقوا ربهم هم وفد الله المُكْرَمُونَ .
وهذا ما يعرف بالتضاد في المعنى مع الاتفاق فياللفظ
ولعل هذه الملاحظة تحل إشكالية كبيرة في سورة يوسف في الآية التالية :
( وَلَقَدْهَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) [ يوسف : 24 ]
فقد اُسْتُخْدِمَ الفعل ( هَمَّ ) بنفس اللفظ مع إرادة التضاد في المعنى حملا على الظاهرة اللغوية المذكورة سابقًا ، ومن هنا فيكون المقصود من الفعل ( هَمَّ ) في قوله ( هَمَّتْ بِهِ ) هو محاولة الوقوع في الفحشاء .
بينما المقصود من الفعل ( هَمَّ ) في قوله (وَهَمَّ بِهَا ) هو المعنى المضاد لذلك تمامًا ، وهو البعد تمامًا عن الفحشاء وذلك من خلال الهَمُّ بضربها عقابًا لها على هذه المحاولة ، مما يدل بما لا يدع مجالاللشك على براءة يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ من شبهة محاولة الوقوع في الفحشاء .
فإذا قال قائل إن أسلوب الآية يمكن تأويله كما يلي :
لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها .
فهذا يتفق تمامًا مع ما توصلنا إليه من التضاد بين الفعلين المتطابقين في اللفظ تمامًا ذلك أن جملة الشرط وجواب الشرط ( لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها ) تدل على أنه لما رأى برهان ربه امتنع عن إلحاق الضرر بهابضربها وتعنيفها ، وهذا يتفق تمامًا مع أخلاق الأنبياء أو فلنقل مع أخلاق عباد الله المُخْلَصِيْنَ .

ثم إن هناك قاعدةبلاغية تؤكد ما توصلنا إليه ، هذه القاعدة تسمى
( المشاكلة للمجاورة ) وتفصيل ذلك كما يلي :
المشاكلة : هي أن يأخذ اللفظ شكل اللفظ الآخر تمامًا .
للمجاورة : أي يكون هذا التطابق في الشكل بين اللفظين بسبب تجاور اللفظين في السياق
ومن ذلك :
( وَجَزَاءسَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )
[ الشورى : 40 ]
فالسيئة الأولى على معناها الحقيقي بينما السيئةالثانية إنما هي قصاص وليست سيئة وإنما سُمِّيَتْ سيئة لعلاقة ( المشاكلة للمجاورة ) وهي من علاقات المجاز المرسل البلاغية .
وكذلك : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَن ِاعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْوَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [ البقرة : 194 ]
فالاعتداء الأول على معناه الحقيقي بينما الاعتداءالثاني إنما هو قصاص وليس اعتداء وإنما سُمِّيَ اعتداء لعلاقة ( المشاكلة للمجاورة ) وهي من علاقات المجاز المرسل البلاغية .
وكذلك آية سورةيوسف ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَاالْمُخْلَصِينَ ) [ يوسف : 24 ]
الهَمُّ الأول على معناه الحقيقي ( إرادة الفاحشة ) أما الهَمُّ الثاني فإنما هو فرار من الفاحشةبالاعتداء على صاحبتها بالضرب لا بالاقتراب من الفاحشة وإنما كان ذلك لوجود علاقة
( المشاكلة للمجاورة ) وهي من علاقات المجازالمرسل البلاغية

والآية تقديرها بإذن الله هو : ( لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها يضربها ويعنفهاعلى محاولتها هذه ) والدليل على ذلك قولها عنه : ( ... وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ) [ يوسف : 32 ] ، فكيف يستعصم ويحاول في نفس الوقت الوقوع في الفاحشة ( معاذ الله ) . والله تعالى أعلى وأعلم ..

منقول للفائدة.